يعرف الله عز وجل عباده في هذه الآيات بجلاله وكماله، ويعلمهم سبحانه كيفية عبادته وتوحيده، والحياء منه وتمجيده سبحانه فهو المطلع على ما تبديه الألسن وما تكتمه الصدور، ثم يذكرهم جل وعلا بما حل بالسابقين من الأمم والأقوام الذين كذبوا الرسل وكفروا بالرسالات، فأذاقهم الله الوبال في الدنيا، وما ينتظرهم أشد وأنكى في الآخرة والمآل.
قال تعالى:
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ 
[التغابن:4]. فالله يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الذرة إلى المجرة، فحركتي هذه والله إنه عليم بها، واجتماعكم هذا والله إن الله به لعليم، وعودتكم إلى منازلكم والله إنه بها عليم، فهو
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ 
[التغابن:4]، أي: وما في الأرض.
وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
[التغابن:4]، أي: يعلم ما تسرونه في ما بينكم من الأخبار والأحاديث والأمور، وما تعلنونها بين الناس. وهو عليم بذات الصدور، وما في الصدر والسر والعلن لا نعرفه نحن، بل لا يعلمه إلا الله، وإن أسر أناس شيئاً أو أخفوه أو أعلنوه لم يعرفه الغير، بل لا يعلمه إلا الله، فهو يعلم اجتماعاتكم وأحاديثكم، وما تقومون به وما تفعلون، وفوق ذلك فهو عليم بما في صدوركم من الأسرار والنيات والعقائد.
وسبحان الله! فهذه الآيات كلها التي تدارسناها تقرر لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه حجج وبراهين قاطعة استعرضها الله بيننا. إذاً: فلا ننفي وجود الله، ولا نثبت إلهاً مع الله، ولا نعبد غير الله، ولا نطيع إلا الله. وقد نزل هذا البيان وهذا القرآن على محمد بن عبد الله، فهو والله لرسول الله، فمحمد رسول الله.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.
[ من هداية الآيات:
أولاً: تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله؛ ليؤمنوا به ويعبدوه؛ ليكملوا ويسعدوا في الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله ] فهذه الآيات كلها تقرر معنى لا إله إلا الله، فعلى البشرية أن تؤمن بربها الحق، وتعبده بما شرع لها أن تعبد، فإن أطاعت واستجابت سعدت في الدنيا وفي الآخرة، وإن تكبرت واستكبرت وأعرضت هلكت في الدنيا وفي الآخرة في عذاب أبدي، وهو جهنم وبئس المصير.
[ ثانياً: تقرير عقيدة القضاء والقدر، إذ المؤمن مؤمن، والكافر كافر، مكتوب ذلك في كتاب المقادير، ثم يظهره تعالى في عالم الشهادة قائماً على سننه في خلقه ] فقد قال تعالى:
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ
[التغابن:2]. فقد كتبنا في كتاب المقادير: فلان مؤمن وفلان كافر، وكفره بسبب كذا، ويكتب له، وإيمانه بسبب كذا، ويكتب معه. هذا كتاب القضاء والقدر، فالآية تقرر القضاء والقدر.
[ ثالثاً: وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه ] والحذر منه والخوف منه [ لأنه عليم بذات الصدور ] وهذا يلزمنا طاعته، واتباع ما أمرنا به، وترك ما نهانا عنه، إذ كنا المؤمنين.
[ رابعاً: توبيخ من يستحق التوبيخ، وتأنيب من يستحق التأنيب ] فقد قال تعالى:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ
[التغابن:5]. فهذا توبيخ للمشركين وتأنيب لهم.
[ خامساً: التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله ] وطاعته [ موجب للعقوبة ] والشفاء [ في الدنيا والعذاب في الآخرة.
سادساً: تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباتها؛ لأن شأنه شأن الرسل من قبله ] فقد نزل هذا الكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله، ولا يدعي أحد أنه ليس كلام الله. وقد تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة منه وما استطاعوا. فهذا كلام الله، والذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، فلهذا محمد والله لرسول الله، فيجب الإيمان به وحبه، واتباعه والمشي وراءه، وإلا فلا نجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة.