إسلام ويب

تفسير سورة التغابن (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن عقيدة المسلم الحق أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن كل ما قدر فهو من عند الله سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا المبدئ والمعيد، وهو النافع والضار، وهو على كل شيء قدير، فلزم كل مؤمن طاعته عز وجل وطاعة رسوله، وذلك بفعل ما أمرا به وترك ما نهيا عنه، ومن تولى فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن:11-13].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]، هذا خبر. والمخبر به الله. فهو يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]. وسواء كانت في ولد يموت، أو زوجة تطلق، أو بستان يحترق، أو مال يسلب، أو جسم يمرض، أو هزيمة عسكرية، فما من مصيبة إلا بإذن الله. وذلكم لما علمتم -زادكم الله علماً- أن أحداث الكون كلها صغيرها وكبيرها مكتوبة في كتاب المقادير، ووالله لا يوجد حدث في الكون ليس مكتوباً في كتاب المقادير أبداً، إذ الله تعالى كما أخبر مصطفاه صلى الله عليه وسلم قال: ( أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم الدين ). فالأحداث كلها مكتوبة في كتاب المقادير، والله هو الذي يأذن بذلك ويأمر به، مع العلم أن الأحداث مكتوبة مع أسبابها، فمكتوب أن فلاناً يموت وسبب موته أنه يستقي السم فيموت فيه، أو سبب موته أنه يختنق غضباً وسخطاً وعدم رضا بقضاء الله، فيقتل نفسه بسبب ذلك. والهزيمة التي تمت للمؤمنين في أحد مكتوبة بسببها، وهي أنهم لما آثروا الدنيا ورغبوا في المال تسلط عليهم العدو وهزمهم. مع العلم أن هذه الآية نزلت لما قال اليهود أو المشركون والمنافقون: كيف ينهزم المؤمنون؟ ولو كانوا مؤمنين صادقين والله معهم فلن ينهزموا. فأبطل الله هذه النظرية، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]. فهو الذي قرر ذلك وقدره في وقته وزمانه، وكميته ومكانه، وأنه بسبب كذا وكذا، مع العلم أن السعادة والكمال تكمن في طاعة الله ورسوله بفعل ما يأمران، وبترك ما ينهيان. ومن أطاع الله ورسوله فقلما يصاب بمصيبة أبداً في هذه الدنيا، بل هو دائماً منتصر ظافر، عزيز طاهر قوي، ولكن إذا زلت القدم وتركنا أمر الله وأمر رسوله حسب سنة الله فنصاب بالمصيبة، وتصيبنا المصيبة، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فهذه آية من كتاب الله.

    ولما تمزق المسلمون وحاربوا الخلافة وتشتتوا وعبدوا الأولياء والقبور وتفرقت عقيدتهم وهبطت سلط الله عليهم أوروبا، فسادتهم من إسبانيا إلى بلجيكا. وهذا تدبير الله وسنة الله. فهذه المصيبة بإذن الله. وسببها فسقنا وفجورنا، وانقطاعنا عن كتاب ربنا وهدي نبينا، وأصبحنا ما نسمع بها أبداً، بل يقول أحدنا: لا تقل لي قال رسول الله ولا قال الله.

    معنى قوله تعالى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)

    يقول تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. وهذه لطيفة تساوي الدنيا بما فيها، وهي: أن الذي يؤمن حق الإيمان بالله، ويعرف الله، وأنه هو خالق الأكوان كلها، ورافع السموات وباسط الأرضين، وخالق الإنس والجن، ومنزل الأمطار، ومنبت النباتات، والمحيي المميت، والمعطي المانع، والضار النافع، والذي يقول للشيء: كن فيكون، وأنه الذي استوى على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فهذا الذي عرف الله فآمن به، وعرف أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد في الكون إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد من الصالحين أبداً، بل من آمن وقال: لا إله إلا الله، فهذا يهدي الله قلبه. وحينئذ إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فيضاعف الله له الأجر، ويزيده في الخير. فلا كرب ولا حزن، ولا هم ولا غم أبداً، فأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولقد رأينا أحدهم والله يدفن طفله وهو يبتسم والناس يبكون. وقد يسلب ماله كله وما يكرب ولا يحزن، فأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فلا يحزن أحدهم من فقد ولده أو فقد ريال أو دينار، أو وظيفة أو كذا. فهو لا يحزن لأنه يعلم أن الله هو المتكفل بذلك، ويفوض أمره إليه، ويتوكل عليه. ولذلك فهو لا يكرب ولا يحزن.

    وقوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، أي: فلا يكرب ولا يحزن ولا يدمع أبداً، بل هو مبتسم ضاحك مستبشر، يذكر الله ويعبده ويتقرب إليه، ولا يبالي بما يفقده من مال أو بنين أو أولاد أبداً. فآمن حق الإيمان فقط يا عبد الله! فيهدي الله قلبك، فإذا هدى القلب واستقر واستكان فلا خوف ولا حزن أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا في القبر.

    هكذا يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ [التغابن:11] حق الإيمان يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. فلا يجزع ولا يسخط، ولا يغضب ولا يكرب ولا يحزن أبداً، بل إذا أصابته مصيبة قال: من الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ويقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]، أي: هذا بإذن الله، فلا كرب ولا حزن، ولا غم ولا هم، ولا بكاء ولا دموع أبداً.

    معنى قوله تعالى: (والله بكل شيء عليم)

    قال تعالى وقوله الحق: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11]. وهذه الجملة ذات قيمة. فكل ما في السماوات أو في الأرضين فهو عليم به، مطلع عليه، لا يخفى عن الله شيء، حتى الذرة والله ما تخفى عن الله، لا في البحار ولا في الجبال، ولا في الأرض ولا في السماء، ولا في شيء أبداً. فكل شيء هو بين يدي الله، والله عليم به. واقرءوا قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]. فما دامت في قبضته فلا يغيب عنه شيء، وأنت لما يكون شيء في كفك فإنه لا يغيب عنك منه شيء. وهو السماوات السبع مطويات بيمينه طية واحدة. هذا هو الرب العظيم، وهذا هو الذي لا إله إلا هو، وهذا الذي يجب أن نحبه، وأن نحب ما يحب، ونكره ما يكره.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088529378

    عدد مرات الحفظ

    777150517