بعد أن ذكر الله حال المكذبين بيوم الدين، وما ينتظرهم يوم القيامة من العذاب الأليم، ذكر هنا أوصاف المؤمنين، الذين يدخلهم الله جنات النعيم، فذكر من ذلك أنهم كانوا في الدنيا محسنين، وكانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، ويبذلون من أموالهم لأهل الفقر من سائل ومحروم، ويقومون لله في الأسحار يستغفرون.
ثالثاً:
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 
[الذاريات:18] والأسحار: جمع سحر، وقت السحور، وهو السدس الأخير من الليل، السدس الأخير من الليل هو وقت السحور، وهو وقت الاستغفار، تستغفر الله: أستغفر الله لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله العظيم، ما دمت في هذا الجزء من الليل، فالوقت هذا وقت استغفار،
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 
[الذاريات:18].
والذين يبيتون أمام التلفاز والشاشات هل يصلون الصبح؟ ما يصلونها، إذاً: كيف يستغفرون بالأسحار؟ ما يعرفون وقت السحور، مع أن هذا الوقت ينزل فيه الرب إلى سماء الدنيا وينادي عباده المؤمنين: ادعوني أستجب لكم، استغفروني أغفر لكم، وهذه ضربة قاسية في فتنة هذا التلفاز في البيوت والعكوف حوله، فقد بدل الحياة وغير نظام الإسلام، فأصبح أكثر الناس لا يصلون الصبح ولا يشهدونها، نبرأ إلى الله من هذا الصنيع، ونتوب إليه إن فعلنا مثله.
رابعاً: من صفاتهم التي ورثوا بها هذا النعيم في الجنة:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ 
[الذاريات:19] هذا تدخل فيه الزكاة أولاً، الزكاة الفريضة والقاعدة من قواعد الإسلام تكون في الدينار والدرهم، في الأنعام، في الحيوانات، في الثمار، في الحبوب، هؤلاء المتقون أهل الجنة في أموالهم حق للسائل والمحروم، لمن يسألهم ولمن لا يسألهم، فمن هو المحروم؟
المحروم ذاك الذي يستحي أن يسأل فيقول: أعطني أنا فقير أو ما عندي شيء، فهؤلاء هم المحرومون؛ لأنهم ما يسألون، أما السائلون والطالبون فيعطون بسرعة؛ لأنهم يسألون، ويبقى من لا يسأل لحيائه وعفته، هذا ما ينسى، هذا يعطى الزكاة وغير الزكاة.
والآية تشمل الزكاة وتشمل الصدقة مطلقاً، تخرج زكاتك في الربيع أو في الصيف، وطول العام وأنت تنفق من مالك على السائل والمحروم، لا في وقت واحد.
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
[الذاريات:19] بمعنى: واجب عليهم يدفعونه، ويعطونه لمن سأل ولمن لم يسأل لعفته وحيائه.
ثم قال تعالى:
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ 
[الذاريات:20]، وفي الأرض هذه التي نعيش عليها آيات وعلامات تدل على ماذا؟ على وجود الله، وعلى حلمه ورحمته، على علمه وقدرته، على عظمته وجلاله، تلك المستوجبة لعبادته وحده دون من سواه، وإذا دلت على وجود الله وعلى علمه وقدرته ورحمته دلت على وجود الدار الثانية والبعث الآخر والحياة الآخرة، دلت على أن محمداً رسول الله، وعلى أن هذا القرآن كلام الله؛ لأن الآيات نزلت في مكة وهم يكذبون بألوهية الله وبرسول الله، وبالبعث الآخر يوم القيامة، قال تعالى:
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ 
[الذاريات:20] لمن؟
لِلْمُوقِنِينَ 
[الذاريات:20] لأنهم أحياء بصراء، يفهمون ويعرفون، أما أموات القلوب والنفوس -والعياذ بالله تعالى- فما يشاهدون شيئاً، ما يسأل فيقول: لم السماء فوقنا؟ ما يقول: ما هذه الكواكب؟ وينزل المطر فما يقول: لماذا نزل المطر؟ أين كان المطر؟ يأكل ويشرب وما يسأل: لماذا أكل وشرب؟ كيف يأكل وكيف يشرب؟
والشاهد عندنا: أن هذه الآيات الكونية يستفيد منها وينتفع بها الموقنون، أي: المؤمنون البالغون درجة اليقين في إيمانهم، ليس مجرد إيمان، بل هو اليقين، والذين لا يقين لهم أو لا إيمان لا يشاهدون شيئاً في الأرض، وإلا فلو كانوا عقلاء لقالوا: من جاء بالليل؟ من يذهب به؟ من يأتي بالنهار؟ لا بد من فاعل فمن هو؟ لا بد أن نسأل عنه من هو؟ فيقال لنا: إنه الله، فنؤمن بالله.
هذه الأطعمة وهذه الأشربة وهذه المياه من أوجدها؟ من خلقها؟ فهم حيوانات وبهائم عميان؛ لأنهم لا بصيرة لهم لكفرهم والعياذ بالله، أما أهل الإيمان واليقين فيشاهدون آيات الله في الكون حتى في البعوضة والنملة فتتجلى لهم قدرة الله وعلمه وحكمته.