الله عز وجل بيده كل شيء وبيده مقاليد السموات والأرض، فهو سبحانه المستحق لأن يعبد ويوحد، وكل عباده مأمورون بذلك، لا يستثنى منهم ملك مقرب ولا نبي مرسل، فإذا كان يوم القيامة حين يحشر الله الأولين والآخرين، ترى الذين كذبوا على الله وكذبوا برسالاته وجوههم مسودة، يساقون إلى النار هي مثواهم وبئس المصير، أما المتقون فينجيهم الله بمفازتهم، لا يمسهم فيها نصب ولا هم يحزنون.
قال تعالى:
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا 
[الزمر:61]. اللهم اجعلنا منهم. أي: ينجيهم يوم القيامة، ومعنى اتقوا: ليس المراد به اتقوا البرد أو الحر، أو الفقر أو العدو، وإنما المراد اتقوا الله وخافوا عذابه فلم يخرجوا عن طاعته، وعن كل ما أمرنا به، واقرءوا قوله تعالى:
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 
[يونس:62]. فأولياء الله ليسوا بني هاشم أو بني فلان، وإنما هم الذين بينهم الله بنفسه في قوله:
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ 
[يونس:63]. فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وكل كافر وفاجر هو لله عدو.
وقوله تعالى:
بِمَفَازَتِهِمْ
[الزمر:61]. أي: في الجنة فنزلهم في دار السلام وهم لذلك لا يمسهم سوء ولا ينالهم حزن ولا كرب.
اللهم اجعلنا منهم، ووالدينا والمؤمنين.
إذاً: علينا أن نتقي ربنا، بأن نطيعه ولا نعصيه، فما أحل لنا أخذناه وما حرم علينا تركناه، وما ألزمنا بقوله أو فعله فعلناه وقلناه، وما نهانا عنه تركناه وابتعدنا عنه، وهذه هي التقوى، وأهلها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم في الجنة التي هي مفازتهم العظيمة.
قال تعالى:
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ 
[الزمر:62]. هذا هو الله خالق كل شيء من الذرة إلى المجرة، ولا يخرج شيء في الكون عن خلق الله له، فما من شيء إلا خلقه الله، ومع ذلك هناك من لا يعبده ولا يحبه ويبغضه،
ثم قال تعالى:
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
[الزمر:62]. أي: حفيظ ورقيب، لا يخفى عليه شيء من أمر الكون، فهل مثل هذا تترك عبادته وتعبد الأصنام والأحجار؟ وهل مثل هذا يُعصى ويخرج عن طاعته ويطاع الشياطين ويعبد؟ تعالى الله عما يفعل الظالمون علواً كبيراً، فأحبوه يحببكم، وأطيعوه يرفعكم، واتقوه يحفظكم، هذا هو لسان الحال.
قال تعالى:
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ 
[الزمر:63]. المقاليد: جمع إقليد، والإقليد: هو المفتاح، فمفاتيح خزائن الكون كلها عند الله، ومحال أن تطلب من غير الله وتعطى، ولهذا لا يسأل المؤمن غير ربه أبداً؛ لأن مقاليد -مفاتيح- الكون كله عنده، فلا تطلب من غيره: كـ
عبد القادر، أو السيد فلان، أو
فاطمة! أو
الحسين! أو
علي !
وإذا علمت أن مفاتيح الكون بيد الله وأردت امرأة، أو أردت دابة، أو سيارة، أو شفاء، أو طعاماً فادعوه هو وحده؛ لأن المفاتيح بيده، وإذا دعوت من لا يملك شيئاً فإنما أنت مجنون.
مثال ذلك: هناك دار خربة خاوية ليس فيها أحد أبداً، وهنا متسول جوعان: فأتى إليها وقال: يا أهل الدار! يا أهل البيت! أنا أخوكم جائع، هل سيستجيب له أحد؟ لا ولو ظل الليل والنهار لن يستجيب له أحد لأنه لا يوجد أحد في البيت، فكيف إذاً يترك الذي بيده كل شيء ويدعى غيره؟ إنه لا يفعل هذا غير المجانين الذين لا عقول لهم.
ولهذا لا نعرف من نقول له: أعطنا واشفنا من مرضنا، واجبر كسرنا.. إلا الله؛ لأنه لا يملك ذلك إلا هو.
ثم قال تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
[الزمر:63]. أي: والذين كفروا بهذه الآيات، وما استمعوا إليها ولا أنصتوا لها ولا تدبروا ما فيها من معاني، فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات:
أُوْلَئِكَ
[الزمر:63] أي: البعداء
هُمُ
[الزمر:63] لا غيرهم
الْخَاسِرُونَ
[الزمر:63]. أي: الذين خسروا كل شيء، فلم يخسروا سيارة ولا دابة ولا ماء ولا ولداً، وإنما خسروا كل شيء حتى أنفسهم.
وقد بين تعالى هذا في أول هذه السورة فقال:
قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
[الزمر:15]. فيجد نفسه في عالم لا يعرف فيه أحداً، فليس معه أم ولا أب ولا أخ ولا قريب ولا بعيد، وإنما يوضع في صندوق من حديد ويغلق عليه ويلقى في جهنم آلاف السنين لا يأكل، لا يشرب، ملايين السنين. أما المؤمنون الموحدون فإنهم فائزون رابحون.
قال تعالى:
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ 
[الزمر:65]. أي: كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى وداود وسليمان، وهذا إنما هو للأمة أما النبي صلى الله عليه وسلم فلن يقع في الشرك.
ثم قال تعالى:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
[الزمر:65]. وحبوط العمل هو بطلانه وفساده وعدم الانتفاع به أبداً.
وهذه الزاوية يجب أن نقف عندها، فمن أشرك بالله حبط عمله وبطل، ولو صلى وصام مائة عام، وحج ألف حجة إذا مات على ذلك، وأما إن تاب ورجع فإن الله يعطيه أجر أعماله الصالحات.
ولو أن مؤمناً حج هذا العام ثم ارتد عن الإسلام وتنصر، خمس سنوات ثم عاد وأسلم، هل يطالب بالحج من جديد؟ لا، فالحج الأول يكفيه.
فمن كان يحلف ويقول: والنبي. فعليه أن يتركها، وهي حلفة باطلة ما أذن الله بها ولا سمح بها رسوله، والحلف بغير الله من الشرك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، أي: أشرك المحلوف به في عظمة الله وربوبيته وألوهيته، وجعله شريكاً له، وإلا لما حلف به، فاسمعوا وعوا: فإنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله، فلا يحلف بالنبي ولا بالكعبة ولا بالكتاب ولا بشيء أبداً إلا بالله؛ إذ العظمة لله، فلا يمين إلا بالعظيم، فلا نرفع مخلوقاً فوق قدره، فاحذروا هذا وبلغوه إخوانكم، ومن سمع أخاه يحلف بغير الله فليقل له: هذا حرام، ولا يجوز أن ترفع المخلوق إلى منزلة الرب عز وجل ومقامه.
قال تعالى:
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 
[الزمر:66]. فهذا هو المطلوب منا أن لا نشرك بالله ولا نعبد غيره بل نعبده وحده ونشكره على آلائه وإنعامه، فهو الذي وهبنا أسماعنا وأبصارنا وديارنا وأولادنا، وهذه النعم يجب أن نشكر الله عليها، ورأس الشكر هو: الحمد لله، فإذا ذكرت نعمة فقل: الحمد لله. تكن قد شكرتها.
ولهذا إذا أكلت فإنك تقول بعد الأكل: الحمد لله. وإذا شربت تقول بعد الشرب: الحمد لله. وإذا لبست تقول: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ولو شاء لأعراني، وتركب دابتك أو سيارتك وتقول: الحمد لله. ويجب أن لا يفارق هذا الذكر ألسنتنا أبداً؛ إذ هو رأس الشكر.
والشكر له ثلاث منازل:
أولاً: الاعتراف بالنعمة للمنعم، والذي لا يعترف بالنعمة للمنعم ولو شكر وأثنى على المنعم لا ينفعه ذلك، فلا بد أولاً من الاعتراف بالنعمة من الله، والاعتراف يكون بالقلب.
ثانياً: يُترجم ذلك الاعتراف بكلمة: الحمد لله. ويكون القول باللسان
ثالثاً: صرف النعمة في ما يحبه المنعم وهو الله، فلا تصرفها في غير مرضاة الله، فهو الذي وهبك السمع فلا تسمع به الباطل فإنه يغضب من ذلك، وهو الذي وهبك البصر فلا تنظر به إلى ما حرم عليك، وهو الذي وهبك اللسان فلا تقل به الباطل، وهو الذي وهبك الرجلين فلا تمش بها إلى الباطل، وهو الذي وهبك اليدين فلا تتناول بها الحرام والباطل. وإذا أنعم عليك بمال فلا تنفقه في معصيته، وإذا أنعم عليك بالصحة البدنية فإياك أن تعمل بها سوء أو باطلاً أو منكراً، وحاول أن لا تستعمل ما أعطاك إلا حيث يرضى؛ لتكون من الشاكرين، اللهم اجعلنا من الشاكرين.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] والآن مع هداية الآيات.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: اسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم ] فمن بعث ووجهه أسود دل على أنه كان من المجرمين الفسقة الفاجرين.
[ ثانياً: ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإيمان والخلود في الجنة ] فبحسب الوجه يوم القيامة يكون الجزاء، فمن كان وجهه أبيض دخل الجنة، ومن كان وجهه أسود دخل النار، ويكون سواد الوجه وبياضه قبل الحساب
[ ثالثاً: تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه ]
[ رابعاً: بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره أبداً، ومن طلب شيئاً من غير الله؛ فهو من أجهل الخلق ] ولهذا لا نعدو غير الله أبداً، ولا نسأل حاجة من غير الله، لا من ميت ولا من حي، ولا من نبي ولا من ولي أبداً، وإنما سؤالنا دائماً: من الله، فهو الذي يشف مرضانا، ويقضي حوائجنا، ويفرج كروبنا: وليس رسول الله! ولا فاطمة ! ولا السيد فلان! ونحن لا ندعوهم ولا نطلب منهم شيئاً؛ لأنه شرك والعياذ بالله، وصاحبه إذ لم يتب منه في جهنم؛ وعمله كله باطل.
[ خامساً: التنديد بالشرك وبيان خطورته إذ هو محبط للأعمال بالكلية ] فإذا قلت كلمة الشرك ومت عليها لا تثاب على شيء من عملك، بل يذهب ويتبدد.
[ سادساً: وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ووجوب حمده وشكره؛ إذ كل إنعام منه وكل إفضال له. فلله الحمد والمنة ] فلنذكره صباحاً ومساء، ونعبده ليلاً نهاراً؛ حتى يتوفانا ونحن عابدون صالحون.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ووفقنا لما وفقتهم إليه: آمين.