إن الموقف يوم القيامة موقف عصيب، لا يدانيه ولا يشابهه موقف قبله ولا بعده، فيه يجمع رب العزة والجلال الأرضين في قبضته، ويطوي السموات بيمينه، ويجمع الأولين والآخرين ويوقفهم بين يديه، وينصب لهم الميزان، فلا تظلم نفس يومئذ مثقال ذرة من خير أو شر، والله عز وجل هو الحكم العدل وهو خير الحاسبين.
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
الشيخ: معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، والذين ما قدروا الله حق قدره هم: المشركون الكافرون الفاسقون الفاجرون، فهم ما عظموا الله حق تعظيمه، وهو الذي خلقهم ورزقهم وخلق الحياة كلها من أجلهم ثم هم يتجاهلونه، ويعرضون عنه، وينسونه ويعبدون الشياطين، ويؤلهون الأصنام والأحجار، ويطيعون إبليس، فهؤلاء ما عرفوا عظمة الله وجلاله وكماله.
ثم قال تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]. أي: تنزه وتقدس وتعاظم عن الشرك الذي يشركه المشركون، إذ هم يعبدون الشهوات والشياطين والأحجار والأصنام ويؤلهونها وينسون ربهم خالق كل شيء ومالك كل شيء، ورب كل شيء، وبدل أن ينكسروا بين يديه ويخروا له ساجدين راكعين يبكون له ويدعونه ويسألونه؛ يلتفتون إلى الأحجار والأصنام والشهوات ويعبدونها من دونه.
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ...)
ثم قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]. أي: ليشهدوا على أممهم، وأنهم بلغوهم دعوة الله والشهداء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة تشهد على كل الأمم بأن الله أرسل إليهم رسله، وأن الرسل بلغوهم دعوة الله، فاستجاب من استجاب، وكفر من كفر، وهذه فضيلة لهذه الأمة؛ لأننا قرأنا في كتابه وعلمنا يقيناً أنه ما من أمة إلا أرسل فيها رسولاً، وأن الرسول بلغ رسالته، ونحن يشهد علينا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسل يشهدون على أممهم، فما يقبلون شهادة الرسل، فتشهد عليهم الأمة المحمدية وتقوم عليهم الحجة. ويشهد على الأمة المحمدية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69]. أي: بالعدل، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]. فأهل الإيمان وصالح الأعمال في الجنة دار السلام، وأهل الشرك والكفر والذنوب والآثام في جهنم دار البوار، والعياذ بالله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
مرة أخرى: والنفخات جمع نفخة، والنفخة، والذي يقوم بالنفخات هو إسرافيل، فهو الموكل بهذه النفخات والثلاث أو الأربع. فالنفخة الأولى: هي نفخة الفناء، واقرءوا قول الله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2]. وهي التي تقرع القلوب وتفزع الناس، ويفنى كل موجود.
والنفخة الثانية: نفخة البعث فإذا البشرية كلها قائمة حية، ويتم ذلك كالتالي:
ينزل الله من السماء مطراً كمني الرجال على الأرض، وقد سويت وأصبحت مستوية، فينبت الناس من عظم صغير هو عجب الذنب وهو في آخر فقرات الظهر فينبتون كما ينبت البقل، فإذا استوت أجسامنا تحت الأرض نفخ إسرافيل عليه السلام نفخة البعث فتدخل كل روح في جسدها ونقوم لله رب العالمين، فلا نزال قائمين في ساحة فصل القضاء حتى ينفخ إسرافيل بأمر الله نفخة الصعق، فيصعق كل موجود في الأرض أو في السماء، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69]. أي: بالعدل فيدخل الله أهل الإيمان الجنة، وأهل الشرك النار -والعياذ بالله- ويقتص من أصحاب المظالم، فيؤخذ من حسناتهم وتعطى للذين ظلموهم، حتى إذا لم يبق لهم حسنة يؤخذ من سيئات المظلومين وتوضع على الظالمين.
فمن ظلمك، إما بالسب، أو بالشتم، أو بالضرب، أو بالقتل، ستأخذ من حسناته يوم القيامة، فإذا لم تبق له حسنة، وما زال الآخرون يطالبونه بمظالمهم، يؤخذ من سيئاتهم وتوضع عليه فيثقل -والعياذ بالله- ويزج به في جهنم، ولهذا يجب أن نمتنع من أن نظلم مؤمناً أو مؤمنة حتى لا تؤخذ حسناتنا إليهم، ووعلينا أن نتق الله ونصبر حتى نلقى الله ونحن أطياب أطهار بإذن الله تعالى.
) ] وهو الذي نمر به إلى الجنة، وأهل النار يتساقطون منه إلى النار، لكنه يختلف عن الجسور التي نعرفها؛ إذ يتسع للخليقة كلها، مؤمنها وكافرها.
[ ثانياً: تقرير البعث والجزاء ببيان أحواله وما يجري فيه ] والبعث هو: بعث الناس من قبورهم؛ ليقفوا بين يدي ربهم ويسألوا ويستنطقوا ويحكم لهم، إما بالجنة أو بالنار.
[ ثالثاً: بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة ] فلا يظلم منهم أحداً بأخذ شيء حسنة من حسناته، ولا بإضافة سيئة إلى سيئاته،قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
[ رابعاً: فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها ] فمن مزايا هذه الأمة وشرفها أنها تشهد على الأمم السابقة، بأن رسلها بلغوها وهي مع ذلك عصت وفجرت ولم تعبد الله.