قال تعالى:
قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ 
[الزمر:28]. أي: هذه الأمثلة التي ضربها الله للعرب في القرآن هي بكلام عربي لا اعوجاج فيه ولا انحراف أبداً، ومع هذا ما انتفعوا إلا من شاء الله، حتى فتح الله الباب ودخلوا في الإسلام عن آخرهم.
وقوله تعالى:
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
[الزمر:28]. أي: ما يضرهم، مما يسخط الله ويغضبه عليهم، ويتقون عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فالذين آمنوا بالله ولقائه، وعملوا بشرعه، واستقاموا على منهجه يكملون ويسعدون، ولا يشقون ولا يخسرون أبداً، والذين يتكبرون، ويعاندون، ويجحدون، ويصرون على الشرك والباطل والشر والفساد، هؤلاء قوم هالكون خاسرون في الدنيا والآخرة، إلا أن خسران الآخرة أعظم.
قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
[الزمر:15]، أي: بحق
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
[الزمر:15] فالخسران الواضح البين هو أن يبعث المرء في عالم الشقاء في الدار الآخرة في قعر النار، فلا يجد أباً ولا أماً ولا أخاً ولا أختاً، ولا غيرهم، بلايين السنين، فلا خسران أعظم من هذا.
وليس الخسران من خسر شاة أو بعيراً، أو ديناراً أو درهماً، أو زوجة أو ولداً،كلا وإنما الخاسرون بحق هم الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وننجو من هذا الخسران: بأن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، ونستقيم على منهج الحق. فنأتي الأوامر ولا نفرط فيها، نتجنب النواهي ولا نعود إليها، حتى ننجو ونسلم ونسعد.
قال تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا 
[الزمر:29]. وهذا مثل، من الأمثلة التي ضربها الله، فضرب مثلاً رجلين أحدهما مملوكاً لعشرين سيداً، والعشرون منهم الأحمق، والمجنون، والمتعالي وغير ذلك فأحدهم يقول له: قم، ويقول له الآخر: اقعد، ويقول له الثالث: امش، فلن يستطيع أن يسعد معهم أبداً، ورجل مسلّم لرجل واحد عاقل ذو بصيرة وفهم ووعي، فأي الرجلين أسعد؟ لا شك أنه الواحد فقط، ومعنى قوله:
مُتَشَاكِسُونَ 
[الزمر:29]. أي: متنازعون عليه،
وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا 
[الزمر:29]. أي: ورجلاً سالماً لرجل واحد، هل يستويان؟ الجواب: لا، وهذا مثل من يعبدون الأصنام والأحجار والأهواء والشهوات والشياطين، فكل واحد يقول له: افعل كذا، ورجل يعبد الله وحده، أيهما أفضل وأكمل؟ الذي يعبد الله، ولهذا قال الله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ 
[الزمر:29]، وهذا المثال عجب، وهو مثال التوحيد والشرك، وما أكثر هذه الأمثلة.
ثم قال تعالى:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
[الزمر:29]. أي: أكثر المشركين، والكافرين بل كلهم، وإنما من باب الآداب الإسلامية لا يطلق المتكلم كلمة عامة، قد يستثنى فيها شيء.
ولو علم كفار مكة عظمة الله وحقه لما أصروا على عبادة الأصنام حول الكعبة، وكان عددها ثلاثمائة وستين صنماً، لكل قبيلة وجماعة وأسرة صنم تعبده، والله تعالى هو واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ملكه ولا خلقه ولا في عبادته ولكن أكثرهم لا يعلمون، فعلينا جميعاً بالعلم، والمعرفة، والبصيرة، والهداية، أما الجهل والغفلة، ولإعراض والنسيان، فإنها كلها من المهلكات وصاحبها لا ينجو ولا يسعد أبداً.
والعلم قد لا يتطلب منا رحلة وسفراً وقد قال تعالى في كتابه:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[النحل:43]. فاقرع باب العالم واسأله: عن كيفية الوضوء، واسأله عن ما تريد فعله هل يجوز أو لا يجوز، وهذا لا يتطلب إيقاف تجارة ولا صناعة ولا غيرها أبداً، وقبل أن تقول كلمة اسأل: هل يجوز قولها أو لا يجوز؟ وقبل أن تتناول اللقمة اسأل: هل يجوز أكلها أو لا يجوز؟ وهكذا وستتعلم وتصبح عالماً.
ويجدر بنا أن نحيي سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يجتمع مع رجاله في الروضة ويلقنهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فهيا بنا نحن في قريتنا وفي مدينتنا نجتمع كل ليلة من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء فقط، ونتعلم فيها الكتاب والحكمة، حتى نصبح علماء حكماء ربانيين صلحاء. فأهل المدينة، وأهل القرية قد يعيشون عشرات السنين لا يجتمعون فيها اجتماعاً واحداً يتعلمون فيه الكتاب والحكمة، والعلم الذي ينفعك هو: الذي تطلبه من أجل الله، ومن أجل أن تعرف الله عز وجل معرفة توجب لك خشية في قلبك، وحباً في نفسك لله تعالى، فتتعلم محاب الله من الاعتقادات فتعتقدها، ومن الأقوال فتقولها، ومن الأفعال فتفعلها، وتتعلم مكاره الله أي: ما يكرهه الله من الاعتقاد والقول والعمل والصفة؛ فتتجنبه، وهذا هو العلم النافع، وليس علم الصناعة والتجارة.
قال تعالى موجهاً النعي لرسوله وللناس أجمعين:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 
[الزمر:30]. فنعانا ربنا تبارك وتعالى، وبدأ برسوله وأشرف خلقه وسيد عباده؛ لكون المشركين استبطئوا حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: لماذا لا يموت حتى الآن؟ فأخبره تعالى بقوله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ 
[الزمر:30]. ولكنهم ميتون أيضاً، فلن تموت أنت وحدك وهم لا يموتون، وميت بمعنى سيموت، يقال: مات يموت موتاً فهو ميت إذا انقطعت حياته، ومات يموت فهو ميت إذا كان يموت ولكن الحياة ما زالت فيه.
وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد في حجرته، وصلى عليه المؤمنون وهو في السماء في الفردوس الأعلى، وجثته الطاهرة المقدسة في الحجرة الطاهرة، وما وقف أمامه مؤمن وقال: السلام عليك رسول الله! إلا ورد عليه السلام، وهذا أيضاً شأن المؤمنين الصالحين والمؤمنات الصالحات، فأيما مؤمن يقف على قبر مؤمن أو مؤمنة ويقول: السلام عليك، إلا اتصلت الروح بالبدن وقال: وعليك السلام.
وسوف نشاهد هذا ونتيقنه يقيناً يوم نلقي هذه الثياب عن أجسادنا، ثم نلقى في القبر.