إسلام ويب

تفسير سورة سبأ (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الكافرين المكذبين برسالات الله يستبعدون أن يكون هناك قيامة، وينكرون أن يكون هناك يوم آخر، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم هنا أن يقسم لهم بالله عز وجل أن الساعة آتية، وأن الله سيجازي فيه عباده على مثاقيل الذر من الأعمال، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات سيغفر لهم ويؤتيهم رزقاً كريماً، وأما المكابرون المعاندون فإنه سيجازيهم على أعمالهم عذاباً من رجز أليم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:3-6].

    إنكار المشركين للبعث والجزاء

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ:3]، من الذي قال هذا القول؟ روي أن أبا سفيان رضي الله عنه في أيام الجاهلية والشرك والكفر جمع عظماء وكبراء قريش في مكة أو في الكعبة وقال لهم: واللات والعزى! إنه لا بعث ولا حياة بعد حياتنا هذه كما يقول محمد -واللات والعزى: صنمان في مكة- أوحى الله إلى رسوله رداً على هذه المقالة المنكرة الباطلة، فقال له: قُلْ [سبأ:3]، أي: يا رسولنا! رداً عليه، بَلَى وَرَبِّي [سبأ:3]، أي: ورب الكعبة لتبعثن، قُلْ بَلَى [سبأ:3]، أي: يا رسولنا! قل لهؤلاء المشركين الذين فهموا ألا بعث ولا جزاء ولا دار أخرى، قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]، أي: ساعة القيامة والبعث والنشور، لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]، أي: آتية قطعاً، وقد بلغ رسول الله ما أُمر به وقال لهم: بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3].

    معنى قوله تعالى: (عالم الغيب)

    ثم قال تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ [سبأ:3]، وفي قراءة سبعية: (عالمُ الغيب) بالضم، أي: هو عالم الغيب، ومن هو عالم الغيب؟ الله جل جلاله، والغيب هو كل ما غاب عن الأبصار ولم يكن موجوداً، فالله عليم به، والساعة وما يقع فيها هي غيب من الغيوب، ولولا علمه بالغيب ما قال: الساعة تأتيكم، فعُلم أن الساعة آتية لا محالة، وإتيان الساعة لإنهاء هذه الدورة في هذه الحياة ضروري ولابد منه، إذ إننا خلقنا لنعمل، فإذا عملنا فإننا سنجازى في الدار الآخرة، ومثل ذلك الشغالون يشتغلون في النهار وفي آخر النهار أو في نهاية الشهر يأخذون أجرتهم، فها أنتم تعملون في هذه الحياة الدنيا، فهذا يعمل الصالحات وهذا يعمل السيئات، والجزاء يكون بعد نهاية العمل، وبالتالي فهذه الحياة والله لتنتهي ولابد.

    سعة علم الله وإحاطته بالخلق

    لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سبأ:3]، أي: لا يغيب عنه وزن ذرة أبداً، قال القرطبي: حتى النملة، أي: ميزان النملة لا يغيب عن الله أبداً، لا يَعْزُبُ [سبأ:3]، أي: لا يغيب ولا يستتر ولا يخفى عنه أبداً، بل وإن كان مثقال ذرة، فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:3]، فلماذا نقول: أنه غير قادر على أن يحيينا بعد موتنا؟ إن الذي قدر على إيجادنا بعد انعدامنا يقدر قطعاً على إيجادنا بعد موتنا، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ [سبأ:3]، أي: وزن، ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ [سبأ:3]، أي: أصغر من الذرة أو أكبر، إِلَّا [سبأ:3]، وهو موجود ومدون ومكتوب.

    معنى قوله تعالى: (في كتاب مبين)

    ثم قال تعالى: فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3]، ألا وهو كتاب القضاء والقدر، فهذه الآية تقرر عقيدة البعث والجزاء والقضاء والقدر، وكما تعلمون أن أركان الإيمان ستة ومنها: الإيمان بالقضاء والقدر، قال: إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3]، أي: بين وواضح، وهذا الكتاب هو كتاب المقادير، فمن كتبه؟ كتبه الله عز وجل، فقد ورد في الحديث أن: ( أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة )، فلا يوجد أي حدث في الكون إلا وهو مكتوب في ذلك الكتاب، واجتماعنا هذا والله مكتوب في ذلك الكتاب، ولولا هذه الكتابة لما استمرت هذه الحياة ولا استقامت أبداً آلاف السنين، بل ستخرب وتنتهي في لحظة، لكنه النظام الدقيق الذي جعل لكل شيء يقع في هذا الكون وقتاً ومكاناً وصفة، وبالتالي لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر، وهذا يتجلى فيما نشاهده من هذه الكائنات.

    لطيفة

    واللطيفة التي لا ننساها: أنك لو وقفت الآن بين إخوانك ونظرت إليهم -وهم مئات- فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، فسبحان الله العظيم! أي علم أعظم من هذا؟! وأية قدرة أعظم من هذه القدرة؟! إذ تقف البشرية كلها في صعيد واحد ما تجد اثنين لا يفرق بينهما، مع أن الهيكل والجسم واحد، فمن الذي يقدر أن يفعل هذا؟ هذا هو الخالق العظيم، هذا هو عالم الغيب والشهادة، هذا هو الذي يقول للشيء: كن فيكون، فكيف يعبد معه غيره؟! وكيف يكفر به؟! فيا للعجب!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089143592

    عدد مرات الحفظ

    782150012