لما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء امتلأ قلبه لذلك خوفاً وفزعاً، فانقلب إلى أهله وقال لزوجه خديجة: زملوني زملوني، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه سورة المزمل يأمره فيها بقيام الليل وتسبيح الله عز وجل فيه، وذلك لأسباب: منها أن نهاره سيكون مشغولاً بالجهاد والدعوة وشئون الحياة، ومنها الاستعانة بذلك على تحمل ثقل الدعوة والرسالة.
قال تعالى لرسوله:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 
[المزمل:5]. ألا وهو القرآن العظيم، فهو ثقيل, فيه الأوامر والنواهي، وفيه الرباط والجهاد، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو ثقيل، وليس خفيفاً أبداً. ومع هذا فقد كان ثقيلاً لما يتلى عليه، فإذا كان عليه الصلاة والسلام على راحلته وناقته وقرأ ونزل عليه الوحي بالقرآن تسقط الناقة وتخر على صدرها, ولا تقوم أبداً، وكانت
عائشة تقول: إذا أوحي إليه وفرغ منه جبريل في الشتاء يتفصد جبينه بالعرق من قوة الوحي. فلهذا قال تعالى:
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 
[المزمل:5]. وقد فعل.
قال تعالى:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا 
[المزمل:6]. وهذا بيان إلهي للرسول الكريم. وناشئة الليل: الساعة الأولى من الليل، وناشئة نشأت: ظهرت، فالناشئة: الساعة الأولى من الليل, فبعد أن تنام تستيقظ.
وقوله:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا
[المزمل:6], أي: توافقاً بين القلب وبين السمع والبصر. فعندما يقرأ القرآن هذا الوقت يتواطأ القلب مع السمع الذي يسمع الآيات. وسماع الآيات مع وعي القلب لها يحصل بينهما تواطؤ في القراءة في الليل؛ لأن في النهار تعلو أصوات الناس, وما يتأثر الإنسان بالقراءة هنا، ولكن في الليل يكون الصمت عاماً، ولا صوت فيه أبداً ولا حركة، فإذا قرأت القرآن في هذا الوقت فإنك تسمعه بأذنيك, ولا تسمع غيره، وينتقل إلى قلبك, فتعيه وتفهمه, وتتدبره وتبكي. ولذلك قال تعالى:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا
[المزمل:6], أي: تواطؤاً بين القلب وبين السمع، فيحدث السمع والإيمان في القلب, والاعتقاد بالقلب, والفهم بالقلب.
ثم قال تعالى:
وَأَقْوَمُ قِيلًا
[المزمل:6]. والقيل: القول، أي: القراءة في الليل في هذه الساعة من أشد ما تكون قائمة، وليس فيها خفاء ولا سرعة, بل بتأنٍ وبصوتٍ عالٍ.
وهكذا يقرأ المؤمنون القرآن في الليل, متهجدين به. وهذه سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد علمه ربه هذا, وأرشده إليه، ووفقه له، فقال له:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
[المزمل:6], أي: الساعة الأولى من الليل
هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا
[المزمل:6], لتواطؤ القلب مع السمع، فالسمع يسمع, والقلب يوقن ويؤمن ويستجيب.
وَأَقْوَمُ قِيلًا
[المزمل:6], أي: وأحسن قولاً، فيكون القيل أو القول مستقيماً تمام الاستقامة، ليس فيه تقديم وتأخير وعجلة.
قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا 
[المزمل:7]. فقد أمره بقيام الليل والتهجد في الليل لعلة, وهي: إن لك يا رسولنا! في النهار عملاً واسعاً، فأعمالك في النهار كثيرة من الدعوة والجهاد, والعمل والبيت والأسرة. وهذه الأعمال لا يستطيع فعلها في الليل والنهار, إذاً: فليقم في الليل, ويترك النهار لعمله النهاري. ولذلك قال تعالى:
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا 
[المزمل:7] في أمور دنياك ودينك معاً، فتسبح فيه من الصباح إلى الليل، إذاً: فلن تقوم وتتهجد وتتلو كتاب الله وتتدبره وتتأمله وتعي ما فيه إلا في الليل، وفي ساعة الليل.
ففي النهار له أعمال وله أسرة، وله دعوة وجهاد وغير ذلك, وفي الليل هو متفرغ, وليس هناك عمل. ونحن الآن سلبتنا هذا هذه الكهرباء والعياذ بالله. فمن يوم ما ظهرت انقلب الليل نهاراً، فأصبح الناس يهرفون ويعبثون في الليل أكثر من النهار. ولو أنا إذا دقت الساعة السادسة أطفأنا الكهرباء لتاب الناس, ورجعوا إلى بيوتهم, وعبدوا الله، ولا يخرجون إلا إلى صلاة العشاء فقط، فإذا انتهت صلاة العشاء أطفأناها نهائياً، ووالله إن هذا خير وأبرك من هذا الذي يحدث الآن، فالآن العبث كله في الليل من النساء والرجال والأطفال، وسبب هذا الكهرباء، فقد أصبح الليل كالنهار.
وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا
[المزمل:7]. إذاً: فقم الليل، إما نصفه، وإما ثلثيه، وإما ثلثه، في حدود ما تستطيع؛ لأنك في النهار مشغول بأعمال الدنيا ودعوتك وكل أعمالك الصالحة, فأنت مشغول بكل هذا، وما تستطيع أن تتهجد في النهار.
سبب أمر الله رسوله بذكر ربه وأن يتبتل إليه تبتيلاً لأنه رب المشرق والمغرب، ورب المشرقين والمغربين، ورب المشارق والمغارب، بل كل الكون هو مالكه، فلا تطلب إلا منه، فهو الذي يملك كل شيء, وهو الذي تمد يديك إليه وتسأله، والذي لا يملك شيئاً فلا تطلبه؛ لأنه لن يعطيك.
ثم قال تعالى:
لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
[المزمل:9]. فاسمعوا هذا البيان، فلا إله إلا الله، ولا يوجد إله يستحق أن يؤله -أي: أن يعبد بدعائه والاستغاثة به, أو الذبح والنذر له، أو الخوف منه أو الحب فيه- والله إلا الله، إذ كل هذه المخلوقات مخلوقة مربوبة, والله خالقها ومالكها، وهي تموت وتفنى, ثم يبعثها مرة أخرى؛ ليحاسبها ويجزيها على عملها في دار العمل هذه. إذاً: فلا يوجد إله مع الله, وهم مع هذا يعبدون عيسى، ويعبدون أمه، ويعبدون العزير. وقد كان المشركون من العرب يعبدون اللات والعزى، ومناة وهبل، وغيرها. وجهالنا لما هبطنا من سماء العلى عبدوا الأولياء والقبور، وحلفوا بهم، وذبحوا لهم، ونذروا لهم. وهكذا صرفوا العبادة لغير الله. وسبب ذلك: الجهل.
وما زال الجهل في المسلمين إلى اليوم، وقد خف بعض الشيء بهذه الوسائط العجيبة كالإذاعة والصحف والمدارس, وما إلى ذلك. ولكن ما زال إخوانكم في الشرق والغرب يعبدون أصحاب القبور أولياء الله، ويحلفون بهم، ويذبحون لهم، وينذرون النذور لهم، ويعكفون على قبورهم، ويرحلون من بلد إلى بلد للوقوف على قبورهم وزيارتهم، والرسول يقول: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ). وهذا يرحل من المدينة إلى بغداد لـعبد القادر الجيلاني ، والعياذ بالله.
إذاً: قال تعالى هنا:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
[المزمل:8]. فلنذكر اسم ربنا يا عباد الله! فلنقل: سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم .. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ولا ننس ذكر الله، فقد قال تعالى:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا
[المزمل:8]، أي: انقطع إلى ربك انقطاعاً كاملاً، ولا تخف غيره، ولا تحب غيره، ولا توال غيره، ولا تعبد غيره، ولا إله إلا هو. فهو
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
[المزمل:9], أي: مطلع الشمس ومغربها، فالله هو المالك لهذا الكون, وليس هناك أحد يملك هذا مع الله والله. فلا إله إلا هو، ولا إله يستحق أن يعبد إلا الله، فلا تعبدوا عباد الله! إلا الله، فإنه لا يوجد إله يعبد معه أبداً.
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
[المزمل:9], أي: فوض أمرك إلى الله، ووكله في كل حياتك وشئونك, وهو يتولاك،
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
[الطلاق:3]. هكذا يقول تعالى. ففوض أمرك إلى الله, واعتمد عليه, وتوكل عليه, ووالله ليحمينك ويحفظنك, ويقيمنك وينصرنك. فالله يرشد رسوله إلى هذا، فهو يقول له:
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
[المزمل:9], أي: اتخذ ربك وكيلاً، وكل أمرك إليه، وليس إلى وكيل جاهل من العمال أو العلماء، بل كله إلى الله عز وجل.
وفي هذا إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له. وهذا الذي سمعناه ينبغي أن نأخذ منه ما نستطيع؛ ائتساءً برسولنا، واقتداءً بنبينا صلى الله عليه وسلم, وهو أن نقوم ما شاء الله من الليل, ولو نصف ساعة، ولو ساعة، نرتل القرآن ونتلوه، ونقوم الساعة والساعتين من الليل ناشئة الليل، ونسبح الله في الليل والنهار، ونذكره دائماً وأبداً؛ اقتداءً برسولنا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي بقية أمر الله لنا في الآيات بعد هذه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:
[ أولاً: الندب ] والترغيب [ إلى قيام الليل، وأنه دأب الصالحين وطريق المتقربين ] وهو شعار الصالحين إلى يوم الدين، ولو ساعة يا عباد الله! ولو بين المغرب والعشاء، فإذا لم تستطع أن تقوم في الليل فقم الساعة الأولى بين المغرب والعشاء، وصل عشر ركعات أو إحدى عشرة ركعة.
[ ثانياً: الندب ] والترغيب [ إلى ترتيل القرآن, وترك العجلة ] والسرعة [ في تلاوته ] فتقرأ مثلاً:
يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
[يس:1-3], بخلاف الاستعجال كما يعمل الناس. فالترتيل أولى، وقد أمر الله به رسوله وفرضه عليه, فقال:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا
[المزمل:4].
[ ثالثاً: صلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لتواطؤ السمع والقلب فيها على فهم القرآن ] ففي الليل ما تسمع أحداً إلا صوتك فقط، والقلب يعي ويفهم، فيتقابل القلب والسمع, فتكون قراءتك كلها خير وهدى لك, وعلم ومعرفة.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ الندب ] والدعوة [ إلى ذكر الله تعالى ] بالقلب واللسان [ بأي وجه من صلاة وتسبيح وطلب علم ودعاء وغير ذلك ] وذكر الله له صور عديدة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمها أربع كلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ). وكذلك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير. وكذلك: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: تلاوة كتاب الله. هذه كلها أذكار واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله عز وجل، فلا ننس ذكر الله, ولا نتركه أبداً ولو ساعة, إلا إذا كنا نائمين, وألا تمر ساعة بعبد الله لا يذكر الله فيها.