الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.
ها نحن مازلنا مع سورة الممتحنة المدنية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
[الممتحنة:10-11].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
[الممتحنة:10]. في السنة السادسة من الهجرة النبوية تم صلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جهة وبين المشركين الكافرين من جهة، وكان من مواد ذلك الصلح: أن من جاء من مكة إلى رسول الله في المدينة على الرسول أن يرده إلى مكة، ومن جاء من المدينة إلى مكة لا يرده المشركون، وهذا فيه غلظة وشدة، وهو يشمل الذكر والأنثى، ولكن لا يوجد فيه نص على الأنثى، فأنزل الله تعالى هذه الآيات حين هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة لتسلم، وكان أبوها شر الآباء قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
[الممتحنة:10], أي: إذا خرجت المؤمنة من مكة إلى المدينة مهاجرة,
فامتحنوهن
[الممتحنة:10], بأن تقول: والله الذي لا إله إلا هو لا أعدل عن الإسلام، وما جئت إلا من أجل الإسلام، وما جئت لأجل مال ولا لعشق رجل في المدينة ولا غير ذلك. فإن حلفت على ذلك فإنهم يبقونها عندهم، وقد فعلت أم كلثوم ذلك, وجاء أخواها عمار بن عقبة والوليد يطالبان الرسول أن يردها عليهما, وكانا كافرين. فبين تعالى حكم هذه المرأة ومن كان مثلها إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ
[الممتحنة:10], أي: الله يعلم ذلك وأنتم لا تعلمون، فلا بد من محنتها واختبارها.
ثم قال تعالى:
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
[الممتحنة:10], أي: فإن ظهر أنها مؤمنة بعد الامتحان فلا يجوز إرجاعها إلى الكفار، بل تبقى مع المؤمنين في المدينة.
ثم قال تعالى:
لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ
[الممتحنة:10], أي: لا المؤمنات يحللن للكافرين، ولا الكفار يحلون للمؤمنات المسلمات، وهذا إلى يوم الدين، فلا يحل لمؤمن أن يتزوج كافرة أبداً، ولا يحل لكافر أن يتزوج مؤمنة. وأهل الكتاب مستثنون من هذا في بعض الأمور، فيجوز للمسلم أن يتزوج اليهودية أو النصرانية، ولكن لا يحل للمؤمنة أن تتزوج يهودياً أو نصرانياً أبداً، بل ذكر أهل العلم أنه لو أن شخصاً تزوج مؤمنة وهو يهودي أو نصراني وجب على المسلمين أن يغزوا ديار ذلك المشرك لتخليص المرأة المؤمنة؛ لأنها أمة الله وتعبد الله، فإذا تسلط عليها زوج كافر فإنه سيمنعها من عبادة الله، وهي ما خلقت إلا للعبادة, بخلاف المؤمن إذا تزوج يهودية أو نصرانية فإنه قد يلزمها بطاعة الله؛ لأنه الحاكم عليها, والأمر له وليس لها، أما إذا تزوج كافر مؤمنة فإنه قد يلزمها بترك الصلاة والغسل وغيرها من شعائر الإسلام, وأما بالنسبة إلى المشركين الكافرين من غير اليهود والنصارى فلا المؤمنة تحل له, ولا الكافر يحل لها أبداً. وهذا حكم الله.
ثم قال تعالى:
وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا
[الممتحنة:10], أي: على زواجهم من المؤمنة, وهو المهر, وأم كلثوم لو كانت متزوجة وجاء زوجها يطالب بها لا نردها إليه؛ لأنها لا تحل له، ولكن نعطيه مهرها. فأي مهاجرة كانت تحت زوج وجاء زوجها يطالب بمهرها فإن على إمام المسلمين أن يعطيه المهر, وإن لم يفعل تعاون المسلمون فيما بينهم وأعطوه, ولا بد من هذا.
ثم قال تعالى:
وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
[الممتحنة:10], أي: إذا هاجرت المؤمنة من بلاد الكفار كـأم كلثوم فإنه يجوز للمسلم أن يتزوجها؛ لأنها انقطعت عن الكفر والكافرين، بشرط: إذا آتيتموهن أجورهن، فلا بد من المهر لها.
وقوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا
[الممتحنة:10]. العصم جمع عصمة, فإذا أرادت امرأة كافرة وكانت متزوجة بمسلم البقاء في الكفر والتزوج من الكافرين فإن للمسلم أن يطالب الكفار أن يدفعوا نفقته على تلك المرأة, وهو المهر, كما أن على المسلمين أن يعطوا الكافر مهر زوجته التي أسلمت.
وقوله تعالى:
ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
[الممتحنة:10], أي: هذا هو حكم الله بين المسلمين والكافرين.
ثم قال تعالى:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[الممتحنة:10]. وخلاصة حكم الله هو: أنه إذا هاجرت مؤمنة إلى بلاد المسلمين وكانت زوجة رجل كافر فلا يحل لنا بعد امتحانها أن نردها إلى ذلك الكافر, وعلينا أن نعطيه مهرها إذا طلبه، وإذا ارتدت امرأة مؤمنة -والعياذ بالله- وعادت إلى الكفر فإن لزوجها أن يطالب بمهرها من الكفار الذين ذهبت إليهم, ولا حرج في ذلك.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: وجوب امتحان المهاجرة، فإن علم إسلامها لا يحل إرجاعها إلى زوجها الكافر؛ لأنها لا تحل له، وإعطاؤه ما أنفق عليها من مهر، ويجوز بعد ذلك نكاحها بمهر وولي وشاهدين إن كانت مدخولاً بها، وإن لم تكن مدخولاً بها بعد انقضاء عدتها، وإلا فلا حرج في الزواج بها فوراً ] ولهذا تسمى سورة الممتحنَة أو الممتحِنة, وإذا انقضت عدتها فإن له كما قال أحمد والشافعي: أن يتزوجها أي مؤمن على شرط أن يعطيها مهرها.
[ ثانياً: حرمة نكاح المشركة ] فلا يجوز لمؤمن أن يتزوج مشركة سواءً كانت ماسونية أو شيوعية أو مجوسية أو من أي ملة من ملل الشرك, أما الكتابيات فلا بأس.
[ ثالثاً: لا يجوز الإبقاء على عصمة الزوج المشركة، وللزوج المسلم الذي بقيت زوجته على الكفر أو ارتدت بعد إسلامها أن يطالب بما أنفق عليها من مهر، وللزوج الكافر الذي أسلمت زوجته وهاجرت أن يسأل كذلك ما أنفق عليها ] وعلى المسلمين إعطاء الكافر مهر زوجته المؤمنة التي فارقته.
[ رابعاً: ومن ذهبت زوجته ولم يردّ عليه شيء مما أنفق عليها، ثم غزا المسلمون تلك البلاد وغنموا فإن من ذهبت زوجته ولم يعوض عنها يعطى ما أنفقه من الغنيمة قبل قسمتها ] وذلك بأن يعطى مهرها [ وإن لم تكن غنيمة فجماعة المسلمين وإمامهم يساعدونه ببعض ما أنفق من باب التكافل والتعاون.
خامساً: وجوب تقوى الله تعالى بتطبيق شرعه، وإنفاذ أحكامه، والرضا بها ].