إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 26للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما استقر المقام بالمؤمنين في أرض الحبشة، واستطاعوا أن يعبدوا ربهم دون خوف من أحد، آمنين على أنفسهم في جوار النجاشي، أزعج ذلك كفار قريش، فبدءوا يخططون للنيل منهم في أرض الحبشة، فأرسلوا وفداً إلى ملك الحبشة محاولين رد المؤمنين إلى مكة ليواصلوا تعذيبهم لثنيهم عن دينهم، وبذلوا في سبيل ذلك الأموال الطائلة من الهدايا لأعوان النجاشي، وما صاغوه من الشبهات للطعن في صحة دين هؤلاء المؤمنين، ولكن الله رد كيدهم، حيث رفض النجاشي طلبهم، وجدد العهد بالأمان للمؤمنين، فبقوا في بلاده آمنين إلى أن أذن الله لهم بالعودة إلى مدينة رسول الله.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة السبت من يوم الجمعة ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب.

    والمقطوعة التي درسناها قبل هذا هي (أول هجرة في الإسلام)، وأول هجرة كانت هي هجرة إبراهيم عليه السلام، فأول من هاجر في سبيل الله هو إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم؛ إذ خرج من بابل بعد الحكم الذي صدر عليه بالإعدام -ونجاه الله منه- وهاجر إلى أرض القدس.

    أما بالنسبة إلى أمة الإسلام فأول هجرة فيها هي هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة - عثمان ومن معه عليهم الرضوان-؛ لأنهم اضطهدوا وعذبوا وضغط عليهم وما استطاعوا أن يعبدوا الله، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد فيها ملك صالح وهو أصحمة النجاشي الحبشي.

    وكما علمنا أنهم نزلوا بالحبشة وبعد أيام قيل لهم: إن المشركين قد اصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى ما كان بينهم وبينه قريش من الخلاف والشقاق، وسبب هذا -كما علمنا-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (والنجم)، فقرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:21-20]، فإبليس عليه لعائن الله تصيد الموقف، وألقى في روع أصحابه المشركين أن الرسول مدح الآلهة التي يعبدونها، وأنه قال: (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة سجد المشركون حوله كلهم، حتى إن رجلاً كُبَّاراً يعجز عن السجود رفع التراب وسجد عليه، فأشيع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اصطلح مع قومه، وهذه الشائعة هي التي جعلت المهاجرين يعودون إلى مكة، فوجدوها أشد ظلماً وحلوكاً من أول مرة.

    قال: [وسبب هذه الشائعة الكاذبة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حول الكعبة سورة (والنجم)، فلما بلغ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، ألقى الشيطان في مسامع المشركين قوله: (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فخيل للمشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قالها] أي: هذه الكلمة الخبيثة [وأنه بذلك قد امتدحها، فلما سجد صلى الله عليه وسلم في آخر السورة -وهي سجدة من عزائم السجدات- سجد المشركون معه، حتى إن الوليد بن المغيرة -وكان كبير السن- أخذ كفاً من البطحاء وسجد عليه، ثم تفرق الناس، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن سجود المشركين كان من أجل ما ألقى الشيطان في مسامعهم من مدح للات والعزى مُوهماً إياهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي امتدحها، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلمه الخبر، فأنزل الله تعالى -تسلية له وتخفيفاً عنه- قوله من سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]] أي: قرأ [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]] أي: في قراءته [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52].

    فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفرح [وذهب عنه ما وجد في نفسه من الخوف والحزن بما أعلمه به ربه من أنّ هذا الأمر جرى على سنة من سننه تعالى في أنبيائه ورسله لحكم عالية يعلمها تعالى] إذ قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي: سُنة عامة فيمن تقدم.

    [ولما قارب المهاجرون دخول مكة تبين لهم أن إسلام أهل مكة باطل] لم يسلموا [وأن المشركين ما زالوا على الشرك والكفر، وأنهم قد ازدادوا قسوة وشدة على المسلمين فلم يدخلوا إلا بجوار] من كان له قريب أو صديق دخل في جواره [أو في استخفاء] دخل سراً بالليل [وأقاموا بمكة بعد عودتهم إليها يتلقون الأذى ويُعذبون ويضطهدون -كما كانوا قبل هجرتهم وعودتهم- فرأوا لذلك أن يعودوا إلى الحبشة مرة ثانية، فعادوا وهاجر معهم خلق كثير بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية].

    [وبقي الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى ربه سراً وجهراً، صابراً موقناً بنصر الله له ولدعوته، وهو يتعرض لأذى قريش كل يوم، ومن أبرز ما سُجل في هذه الفترة من أذى نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدَّث به عمرو بن العاص رضي الله عنه ورواه عنه ابن الأثير وغيره من أصحاب السير وهو قوله:

    حضرت قريشاً يوماً بالحجر] حجر إسماعيل [فذكروا النبي صلى الله عليه وسلم وما نال منهم وصبرهم عليه، وبينما هم كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم ومشي حتى استلم الركن] ركن الحجر الأسود [ثم مر بهم طائفاً فغمزوه ببعض القول، فعرفتُ ذلك في وجهه] هذا عمرو بن العاص يقول [ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، ثم الثالثة فقال لهم: ( أتسمعون يا معشر قريش! والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ) فلم يتكلموا حتى لكأن على رءوسهم الطير، وإن أشدهم وصاة فيه لَيُرفّؤه بأحسن ما يجد] كان أحسن واحد منهم يحاول أن يقول كلمة يمجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، وقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه] أي: لما قال تلك الكلمة: (يا معشر قريش والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح) أي: بالقتل والقتال، فلم يتكلموا وأصيبوا بجبن وانهيار، حتى لكأن على رءوسهم الطير، فما استطاع أحد أن يتكلم بكلمة، وكان أشدهم وصاة أو وصية على الرسول يتلفظ بأحسن القول، وانصرف صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر كالعادة، وقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم؟ أي: من الهون أو الذل، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، يعني يحرضهم لِم لم يأخذوا منه صلى الله عليه وسلم!

    قال: [فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم] كالبدر [فوثبوا إليه وثبة رجل واحد] عملاً بوصية ذلك الحانق الذي لامهم [يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ..] ويضربونه [فيقول: (أنا الذي أقول كذلك)، فأخذ عقبة بن أبي معيط بردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يقول -وهو يبكي- ويلكم!! أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟!] وعقبة بن أبي معيط من شر المشركين وأخبثهم، مات في وقعة بدر بعدما أسر.

    إذاً: لما أخذ عقبة الرسول صلى الله عليه وسلم بردائه قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه، فاحتضن الرسول وهو يبكي ويقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ كمؤمن آل وفرعون.

    قال: [كالتي قالها مؤمن آل فرعون، ثم انصرفوا بعدما نالوا من الصديق ما نالوا رفساً بأرجلهم وضرباً بأيديهم] هذه هي الهجرة الأولى، وإلى نتائجها وعبرها ..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088542050

    عدد مرات الحفظ

    777224713