أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا والحمد لله ربنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان.
وآخر نداء سمعناه وأجبنا من نادانا به والحمد له لا لسواه هو هذا النداء السادس، وهو في وجوب قبول شرائع الإسلام كلها، وحرمة اتباع الشيطان عليه لعائن الرحمن. وهذا النداء هو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208-209]. وهذه الجملة سقطت من النداء عفواً، والآن نضيفها إليه، وليكمل النداء بما أراد الله تعالى أن يخبرنا به.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بعنوان الإيمان لأننا مؤمنون، وقد نادانا ليأمرنا بأعظم أمر وأجله وأقدسه، وهو أن ندخل في الإسلام بكاملنا؛ لأن السلم المراد به هنا: الإسلام، وسمي الإسلام سلماً لأن صاحبه يسلم من غضب الله وعقابه في الدنيا وفي الآخرة.
وأنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يتخير من هذا الدين، ويقول: الشيء الفلاني لا آخذ به، أو الفريضة الفلانية لا أراها، أو القول الفلاني لا أقوله، فالذي يتخير في الإسلام بأن يقبل شرعاً ويرفض آخر ليس بالمؤمن.
وقد تمنى أيضاً أو خطر بباله أن لو يعظم السبت؛ إذ كان معظماً، وكان مفروضاً تعظيمه على بني إسرائيل، والله هو الذي شرعه، وهو الذي كتب عليهم السبت، ولما خانوا وخالفوا مسخ منهم أمة قردة وخنازير، فلما هم بهذا وقبل أن يفعل أنقذه الله بهذه الآية الكريمة، وهي باقية ببقاء هذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].
ومعنى هذا - معاشر المؤمنين والمؤمنات!- إذا ظهر بيننا أو رأينا ظلماً أو شراً أو فساداً أو خبثاً فيجب أن ترتعد فرائصنا، وأن توجل قلوبنا، وأن نسأل الله العفو والعافية قبل أن يعاقب.
وإخواننا في شرق أوروبا انظروا ما يحصل لهم هذه الأيام، وما نزل بهم، ولو أن ذا قلب حي شاهد تلك المناظر فقد يغمى عليه ويموت. وسبب هذا: أنهم زلت أقدامهم، وآثروا الشيوعية والاشتراكية والبلشفية الحمراء، واندمجوا في روسيا، ورضوا بالحياة الهابطة، فهذا بعض الجزاء، وغداً سينزل بنا، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.
وقد سادتنا بريطانيا في الشرق الأوسط، واستعمرت ممالك الهند الإسلامية، وجزر جاوة الإسلامية داستها بنعالها هولندا، وشمال إفريقيا ديار العرب والإيمان والإسلام والنخوة والعزة أذلتهم أيطاليا وفرنسا وإسبانيا وأهانتهم دهراً من الزمن.
والله ليس بغافل، فالمسلمين اليوم تحت النظارة، فإما أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، والفرصة والله متاحة، والزمان موالٍ، والبلاد كلها متحررة، والصوت يرفع في المدينة يسمعه كل مسلم ومسلمة، وليس هناك مانع أن يجتمعوا في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويبايعون إماماً لهم، ويقدم لهم شرع الله في صورة دستور أجمع عليه علماء المسلمين، ويطبقونه في بلادهم، فتنتهي مظاهر الفسق والفجور والظلم والشر، بعد مظاهر الشرك والخرافات والضلالات التي هدمت أساس الإسلام، بدلاً من أن نرضى بتقسيمنا واستقلالنا، وليس هناك ما يمنع أهل الإقليم المسلم أن يقيموا الصلاة، وأن يجبوا الزكاة كما جباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحرموا ما حرم الله كالخمر وما إلى ذلك، لا أن ينمو الكفر، والفساد ينتشر، والقلوب تتمزق، وهكذا حتى تدق الساعة.
وحينئذ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]. وهذا في الدنيا، وأما عذاب الآخرة فلا تسأل، فذو النفس الخبيثة العفنة بأوزار الشرك والمعاصي لن يفلح قط، وإن انتسب إلى محمد مليون مرة.
وعجب هذه الآية يا أبناء الإسلام، فقد قال: فإن زللتم ثم قال: فاعلموا ، فارفعوا رءوسكم واعلموا أن الله عزيز قادر على أن ينتقم ويضرب، وهو حكيم يضع كل شيء في موضعه، فهو لا يغدق الخيرات والأمن والبركات على أمة وهي تغني وتفجر وترقص، وتبيح كشف وجوه النساء، واختلاط النساء بالرجال، والربا، وبيع الخمر، وتسمع من يسب الله ورسوله وهي تضحك، وغير ذلك، وهذه عظائم، فلا تظن أن الله غافل، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
فإن زللتم ومعنى زللنا: وقعنا فيما حرم علينا، واستبحنا المحرمات، وأعرضنا عن الواجبات، وأهملناها وما بالينا بها، وظننا أننا مسلمون وسعداء. وقل اليوم من لا يفهم ما حرم الله وما أوجب الله، فهذه الوسائل الإعلامية علمت الناس، فأصبح كل واحد يعرف الحرام من الحلال إلا من شاء الله.
[ الآية (254) من سورة البقرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. ومن يتعذر عليه حفظه الآن فبعد أن ينتهي الدرس يأخذ المصحف ويحفظ، والذي ما يحسن القراءة يجلس إلى جنب أخيه ممن حضروا الدرس ويقول له: من فضلك أعد النداء حتى أحفظه، فإذا أعاده عليه أربع مرات أو خمس أو عشر فقد حفظه، وهؤلاء هم أهل العزم.
ووالله لأن نحفظ هذا النداء خير لنا من ملء الأرض ذهباً، ولا يوجد تشويق أكثر من هذا. وقد شرفت بأن ناداك رب العالمين، ورزقك الإيمان، وبه أصبحت أهلاً لأن يناديك الله. ثم يأتيك نداء الله ليس في برقية ولا خطاب، وأنت تسمعه في أذنيك ولا تلتفت إليه، ولا تهتم به، ولا تحاول حفظه، ولا تعمل على فهمه، وفهم المطلوب، والواجب أن تقول: سمعاً وطاعة يا إلهي! وتفهم مراد الله منه، وتمسي قرير العين؛ لأنك تلقيت عن الله رب السماوات ورب الأرض ورب العالمين نداء موجهاً إليك، فحفظته وفهمت معناه، فاعمل بمقتضاه، فلا يوجد كمال أعظم من هذا الكمال.
وقد أرشدنا الله إلى السلم المسلح، فهناك آية فيها معنى السلم المسلح، وهي قوله تعالى من سورة الأنفال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]. فإذا شاهدت أوروبا العالم الأسلامي يملك الذرة والهيدروجين، ويملك السلاح بانوعه سالمته، وأعلنت عن السلم، وإذا شاهدونا مخلخلين مزعزعين ضعفاء مهزومين انتصروا وطمعوا أيضاً أن يعودوا إلى مستعمراتهم.
فلنسمع هذا النداء، ولنعي هذا الكلام الإلهي، وأعدوا لهم ما استطعتم [الأنفال:60]، أي: ابذلوا كل ما في قدرتكم حتى تعجزوا. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [الأنفال:60] على اختلاف أنواعها وتلون أحوالها، والقوة ليست دائماً في المال ولا في السلاح، بل هي قوى متنوعة في العلم والمعرفة. [ وكالإنفاق لتحرير الرقيق ] والآن لا يوجد رقيق، بل نحن الآن أرقاء للكافرين، فحتى الإبرة لا نصنعها، ونحتاج إليهم أن يعطونا إبرة. فينفق المال في تحرير الرقيق عندما يوجد الأرقاء، وسيوجدون عند ما يعلن عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فيسقط المشركون أسرى بين أيدينا، فيدخلون في رحمة الله، فنعتقهم بأموالنا [ ومداواة المريض ] أيضاً الذي يئن من الألم ويحتاج إلى دواء، فمداواته باب من أبواب الإنفاق في سبيل الله [ وما إلى ذلك من مواطن الإنفاق في سبيل الله لا في سبيل الشيطان ].
ولا يستطيع نوح أو إبراهيم أو محمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع لكافر مشرك وتقبل شفاعته، فهذا والله ما كان، وإبراهيم أبو الأنبياء عليه ألف سلام وسلام أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن حاله في عرصات القيامة أنه ينادي ربه: رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وها هم قد بعثوا، وأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار! ولا يزال في هذه الحيرة حتى يقال له: انظر تحت قدميك، فينظر فإذا أبوه آزر في صورة ذكر ضباع ملطخ بالدماء والقيح، وأبشع مخلوق هو ذكر الضباع في صورته، فـآزر يمسخ هذه المسخة، ويلقى بين يدي إبراهيم في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيح، وما إن يشاهده إبراهيم حتى يعلو صوته: سحقاً سحقاً، أبعدوه، فيؤخذ بقوائمه الأربع ويلقى في جهنم. فلا أحد يشفع في كافر أو مشرك، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ [النجم:26] بلايين لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]عمن يشفع له. وهذه الآية فاصلة، ولكن أمة الإسلام وآباءنا وأجدادنا عاشوا على الشرك والخرافات، فقد انطمس نور العلم، وانتهت الهداية، ومن القرن التاسع وأمتنا تتخبط في الضلالات، فاقرءوا هذه الآية، وهم يبيعون الشفاعة ببستان، فيجئ المسئول على الزاوية وعلى الطريقة أو المقدم كما يسمونه ويقول: إذا أردت أن تشتري الجنة فأعط هذا البستان للإخوان وسنكتب لك صكاً بأن الشيخ سيدي أحمد البدوي أو سيدي عبد القادر يشفع لك، ونمد أعناقنا ونفرح، وجعلنا القرآن في المقبرة، يقرأ ليلة الموت.
وهذه الآية من سورة النجم، فالملك الذي في السماوات الذي يستطيع أن يقلب هذه المدينة لا تغني شفاعته شيئاً، إلا من بعد أن يأذن الله للشافع، ويرضى للمشفوع له بأن يدخل دار السلام مع أوليائه.
وأما أن يقوم شخص يقول: رب! أشفع في عمي الذي مات كافراً، فوالله لا تقبل له شفاعة، ولا يمكن لأحد أن يشفع، وهذا ليس إلا موقف الخليل فقط، وعنده وعد، فقد قال: وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أعظم من أن يكون أبي في جهنم.
وإذا لم يأذن للشافع فوالله لا يشفع أحد، وإذا لم يرض للمشفوع له فوالله لن يدخل الجنة إلا بعد رضا الله، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]. وقد يشفع الله الأنبياء، ويشفع العلماء، ويشفع الآباء، ويشفع الأبناء في آبائهم، لكن بعد ما علم أن هذا يستحق الجنة، فيكرم الأب بأن يشفع في ابنه؛ إكراماً للشافع وأيضاً للمشفوع له أن يدخل دار السلام؛ لأنه كان ذا إيمان وعمل صالح وتقوى.
[ وإن سألت أيها القارئ! ] أو المستمع! [ عن الفرق بين كفر الملة وكفر النعمة ] ولك الحق أن تسأل [ فاعلم أن كفر الملة هو جحود العبد لبعض شرائع الله تعالى، أو جحودها كاملة بألا يعترف بالدين الإسلامي ] وذلك [ كاليهود أو النصارى والمجوس والمشركين؛ إذ كلهم كفار لعدم دخولهم في الإسلام، وجحودهم له، وعدم اعترافهم به.
وأما كفر النعمة فهو عدم الاعتراف لله تعالى بها، وعدم شكره عليها، وصرفها في غير مرضاته، وبذلك يدخل في عداد الظالمين ] فقد أعطي المال فأنفقه ضد الله، وهذا هو الظلم، فبدلاً من أن ينفقه في مرضاة الله أنفقه في سخط الله، وهذا هو الظلم بعينه.
والذي لا يعرف الظلم يقع فيه، فأكثر من يظلمون لا يعرفون الظلم، فالسيدة لما تتبخر وتتعطر وتتطيب وتحسن ملابسها وتخرج تتغنج في الشارع هذا ظلم؛ إذ أن هذا التطيب والتعطر والتغنج والتكسر لا يكون إلا في بيتها؛ لترغب فحلها فيها؛ من أجل أن تنجب البنين والبنات؛ ليعبد الله جل جلاله وعظم سلطانه، لا أن تخرج في الشوارع متغنجة متكسرة في اللباس؛ من أجل أن تساعد الشيطان على الجريمة، وهذا ظلم [ والذي رزقه الله تعالى مالاً فبخل به وشح فمنع الزكاة ] أولاً [ وتجاهل الواجبات ] كالنفقة على الأولاد والزوجة، والنفقة على الضيف، وعلى الجار الفقير، والواجبات كثيرة [ فـ ] إذا [ لم ينفق فيها فهو قطعاً ظالم؛ إذ وضع المال في غير موضعه ] فكان بذلك ظالماً [ وبذلك هو من أهل العذاب الأليم الذي توعد الله به الظالمين في قوله: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ [الإنسان:31] ] أي: هيأ وأحضر [ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31] ] أي: مؤلماً شديد الإيلام، وسمي العذاب عذاباً لأنه يزيل عذوبة الحياة، وقد يكون العذب بالضرب أو السجن أو العطش؛ ليذهب عنه طعم الحياة وعذوبتها.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر