بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
هذه ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر صفر، من سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة, ورقم هذا الدرس فيما أحسب (مائة وثلاثة وستون) من أمالي شرح بلوغ المرام .
ويفترض أننا أنهينا باب الإمامة والجماعة في الأسبوع الماضي، لولا أنه بقي عندنا حديث واحد، كان حقه أن يلحق بإخوانه فيما مضى، لكن على كل حال إن شاء الله خير، ونحن نأتي عليه الآن بإذن الله تعالى، ألا وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام ).
تخريج الحديث
المصنف ذكر هذا الحديث ونسبه إلى
الترمذي، وقال: بإسناد ضعيف، والحديث قد رواه الإمام
الترمذي في جامعه أو في سننه، في كتاب الصلاة, باب ما ذكر في الرجل يدرك الإمام وهو على حال كيف يصنع؟ ورواه
الترمذي كما عند المصنف هنا عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ورواه أيضاً عن
معاذ بن جبل، فـ
الترمذي رواه عن
علي و
معاذ بن جبل، وقال
الترمذي عقب الحديث: إنه حديث غريب.
وهذه من المصطلحات المعروفة عند المحدثين، لما يقول: هذا حديث غريب، وكثيراً ما يستخدم الترمذي هذا المصطلح.
والغريب في الأصل معناه: أنه لا يروى إلا من طريق واحد، أو بإسناد واحد، والغريب قد يكون صحيحاً، كحديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات ). ولكن الغالب على الغرائب الضعف؛ ولهذا فإن المحدثين إذا أطلقوا الغريب فقد يقصدون الضعيف، وهذا تقريباً مطرد عند الترمذي، فإذا قال: (غريب) فمعناه ضعيف، إلا إذا أضاف إلى الغرابة وصفاً آخر, مثلما إذا قال: صحيح غريب. أو حسن غريب. أما إذا قال: غريب وسكت، فالمعنى أنه ضعيف.
وهذا المصطلح أيضاً يشارك الترمذي فيه أبو نعيم في الحلية وجماعة، بل كثيراً ما تجد العلماء إذا قالوا: غرائب فلان، فهم يقصدون أن هذه من أحاديثه الضعيفة، التي لا يشاركه أحد فيها غيره، والغالب عليها الضعف.
إذاً: الترمذي هنا قال: حديث غريب، وهذا إشارة إلى ضعفه، ولهذا قال رحمه الله: لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه, فأشار إلى الغرابة الاصطلاحية، ولم يزد في الحديث وصفاً آخر يخرجه عن الضعف.
ثم قال الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا عند أهل العلم، يرون أنه إذا جاء المصلي والإمام على حال، أنه إذا وجده ساجداً فليسجد، وإذا وجده قائماً فليقم.. إلى آخره، وذكر هذا عن عبد الله بن المبارك وجماعة، بل ذكر الترمذي عن بعض السلف أنهم قالوا: (إذا وجد الإمام ساجداً فليسجد، فلعله ألا يرفع رأسه من تلك السجدة حتى يغفر له). يعني: هذه سجدة الآن، وهي ضمن الصلاة، فالعبد يثاب عليها، ولعله أن يغفر له بتلك السجدة التي لم يدرك ركوعها, ولا تحتسب له ركعة كاملة، ولكنها تحتسب له عبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: ( إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ).
والنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يقول: ( إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفع لك بها درجة ) .. إلى آخره.
فدل على أن السجود بمجرده عبادة، ولهذا بعض العلماء قال: إنه يتعبد بالسجود، ومن ذلك سجود التلاوة، ومن ذلك سجود الشكر، لكن حتى السجود الذي في الصلاة ولا يعتد به في الركعة، مثل ما لو وجد الإمام ساجداً، فإنه يعد عبادة.
أما ما يتعلق بإسناد الحديث عند الترمذي وغيره: فإنه روي كما قلت عن علي ومعاذ، فأما حديث علي رضي الله عنه فإن في إسناده الحجاج بن أرطأة، وهو كما يقول العلماء: صدوق مدلس، فانفراده بهذا الإسناد ضعف. هذا حديث علي.
وأما حديث معاذ ففيه العلة نفسها الحجاج بن أرطأة ؛ لأنه ذكره بالإسناد.
وفيه أيضاً علة أخرى: وهي أنه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وعبد الرحمن لم يدرك معاذ بن جبل، فالحديث إذاً ضعيف, وهو أيضاً منقطع.
فكلا الإسنادين عند الترمذي ضعيف.
شواهد الحديث
فوائد الحديث
ننتقل إلى فوائد حديث الباب, أما معانيه فواضحة، أما ما يتعلق بفوائده.
أول فائدة في الحديث: أن المصلي إذا جاء والإمام على حال يستحب له أن يتابع الإمام على الحال التي هو عليها، وذكرنا قول الترمذي في هذا الباب، وما نقل عن بعض السلف قالوا: (لعله لا يرفع رأسه حتى يغفر له).
الفائدة الثانية: أن هذا الأمر للاستحباب، والإمام الصنعاني رحمه الله في سبل السلام شرح بلوغ المرام ذهب إلى أن هذا للوجوب، وأنه يجب على المسبوق أن يدخل مع الإمام بالحال التي وجده عليها، سواء وجده راكعاً أو ساجداً أو قاعداً بين السجدتين، أو قاعداً للتشهد، واستدل بحديث الباب، وببعض الآثار الأخرى التي أيضاً لا تخلو من ضعف، ولكن الذي أميل إليه: أن الأمر في هذه الأحاديث هو على سبيل الاستحباب، وليس على سبيل الوجوب؛ لأن الركعة التي لا يعتد بها لا يؤمر بها إيجاباً.
وأيضاً ربما حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكرة لما قال له: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ). مع أن أبا بكرة استعجل لإدارك الركوع، يدل على أن الأمر في ذلك ليس للوجوب، ولكنه للاستحباب، وأنه لو تأخر المصلي وسعه ذلك، ولعلنا ذكرنا فيما مضى آثاراً نقلت عن بعض الصحابة، بالذات عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو أنهم كان بعضهم ربما كان تأخر عن الإمام وهو قائم، يعني: قبل الركوع، وإن كانت السنة اللحاق بالإمام بلا شك, لكن بعضهم قد يتأخر عن الإمام لسبب.
أيضاً من الفوائد وهي الثالثة: أن نقول: هل يجب على المأموم إذا دخل مع الإمام أن يكبر تكبيرة الإحرام، أو يدخل معه على الحال التي هو عليها، ثم يكبر إذا قام؟
نقول: الصحيح أنه يكبر تكبيرة الإحرام؛ ليكون بذلك ملتحقاً بالإمام، ومتابعاً لصلاته، بينما لو سجد مثلاً مع الإمام بدون تكبير، فهو وإن وافق الإمام في الحركة والحال والصفة، إلا أنه لم يوافقه في المتابعة والدخول في الصلاة، فالأقرب أن السنة أنه إذا جاء والإمام على حال يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم.
هل نقول: ثم يقرأ دعاء الاستفتاح مثلاً؟
لا؛ لا يشرع له لا قراءة دعاء الاستفتاح، ولا قراءة الفاتحة أيضاً، وإنما يكبر ثم يلتحق بالإمام على الحال التي هو عليها.
وبناءً على ذلك نقول: لو أنك جئت والإمام قد رفع من الركوع، ثم كبرت معه لا تقرأ دعاء الاستفتاح، وإنما تقرأ دعاء الرفع من الركوع، وهو: ( ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ) .. إلى آخره؛ لأنه يفترض أنك مع الإمام على الحال التي هو عليها، كما أنك لو جئت وهو ساجد تكبر عن قيام، ثم تسجد، ثم تقول: (سبحان ربي الأعلى)، أو جئت وهو قاعد بين السجدتين تقول: (رب اغفر لي)، أو جئت في التشهد تقرأ التشهد، فهذه مما يخفى على كثيرين، أسمع بعض المأمومين إذا التحقوا بالإمام وهو ناهض من الركوع كبروا ثم قرءوا دعاء الاستفتاح، فنقول: الاستحباب أن يكبروا تكبيرة الإحرام عن قيام, ثم يلتحقوا مع الإمام بالحال التي هو عليها.
وربما الفائدة الرابعة في الباب ولا نطيل فيها؛ لأنها سبق أن مرت معنا أكثر من مرة: وهي ما إذا جاء الإنسان والناس ركوع، فماذا يصنع؟ ذكرنا هذه المسألة تفصيلاً، وذكرنا الأقوال، وذكرنا الخلاف، وذكرنا عن بعض السلف، كما نقل عن ابن الزبير، وأنه قاله على المنبر، وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة أنهم قالوا: إنه يكبر ويركع في المكان الذي هو فيه، ثم يدب إلى الصف، وبعض العلماء قالوا: إن هذه من السنن المهجورة.
الشيخ الألباني رحمه الله في بعض مصنفاته قال: إن هذه من السنن المهجورة، وأطال فيها الكلام. نحن ذكرنا التفصيل السابق، وممكن أحد يذكرنا بالاختيار الذي رجحناه في هذا الباب. إذا جاء والإمام راكع هل يركع قبل الصف، أم يصبر حتى يصل إلى الصف, أم ماذا يعني؟
الذي اخترناه أنه إذا كان قريباً من الصف فإن السنة أن يكبر ويركع ثم يلتحق بالصف، وهذا لا ينافي حديث أبي بكرة ؛ لأن حديث أبي بكرة رضي الله عنه محتمل لأكثر من معنى كما أسلفنا.
تقريباً هذه هي أهم الفوائد التي في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه.
ملخص أحاديث باب صلاة الجماعة والإمامة في بلوغ المرام