إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [3]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الدنيا فانية زائلة، وكل لذة فيها مكدرة منغصة، ولا نعيم مقيم ولا لذة دائمة إلا في الجنة، فمن دخلها لا يشقى ولا يبأس، بل ينعم دائماً ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، موضع سوط فيها خير من الدنيا وما فيها، نساؤها مطهرات، لو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، ليس فيها بول ولا غائط بل رشح من عرق كالمسك وتسبيح وذكر للرحمن الرحيم عدد الأنفاس، كل هذا لمن آمن بشريعة ربه، والتزمها في كافة شئونه الظاهرة والباطنة، خلافاً لأهل الأهواء والانحلال الذين يقولون: الدين بين العبد وبين ربه، وأما شئون الدنيا فلا دخل للدين فيها.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    فكنا نتدارس الباب الرابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمات رب العالمين، عنون عليه فقال: باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء. ثم روى عن ثلاثةٍ من شيوخه: قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، وأحمد بن عبدة الضبي البصري رحمهم الله جميعاً، عن أنسٍ رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبيث)، وكان يقول كما في الرواية الثانية: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

    هذا الحديث قال عنه الإمام الترمذي : أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن، بعد أن بين أنه روي في الباب أحاديث أخرى عن غير أنس رضي الله عنه، فقال: وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

    قبل أن نتدارس مباحث هذا الحديث الشريف فيما يتعلق بإسناده وفكره وتخريجه وبيان الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي عليه رحمة الله، قبل هذا أحب أن أقدم مقدمةً تدور على أمرين اثنين ترتبط بهذا البحث ارتباطاً وثيقاً، هذان الأمران هما ما يتعلق بشهوات الدنيا وملذاتها، وإلى أي شيءٍ ستستحيل في نهاية الأمر، وبينت إخوتي الكرام أن شهوات الدنيا رخيصةٌ خسيسة، قررت هذا من وجوه عشرة في الموعظة الماضية، ومن ذلك قلت: لا يوجد شهوة على وجه التمام والكمال إلا في جنات النعيم بجوار رب العالمين سبحانه وتعالى، أما هذه الدنيا فمهما كان فيها من نعيم فهي دار عناءٍ وبلاءٍ وكدٍ وتعبٍ وشقاء، ولو لم يكن فيها إلا الموت لكفى منغصاً، والأمر كما قال أئمتنا في حال الدنيا:

    أحلام نومٍ أو كظلٍ زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

    وكانوا يقولون:

    هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى زوال

    وما دنياك إلا لاسم فيءٍ أظلك ثم آذن للزوال

    أظلك هذا الفيء ثم آذن وأعلن بأنه سيزول عنك وينتقل، هذا هو حال الدنيا، لو صفت فإنها ستزول، وكفى هذا منغصاً فيها، مع أنها ليست بصافية، ولا يوجد فيها لذةٌ خالصةٌ كما تقدم معنا. ولذلك عندما جاء رجلٌ إلى العبد الصالح يونس بن عبيد ، فقال له: إذا أكلت تألمت، وإذا جعت تألمت، يعني: أمرٌ يحير طبع هذه الحياة، إذا جاع الإنسان تألم، ويقرصه الجوع في أمعائه، وإذا أكل وزاد فإنه يتألم من التخمة ويصعب عليه أيضاً عندما تمتلئ بطنه، فماذا أفعل؟

    قال: يا عبد الله! هذه الدار لا توافقك، فاطلب داراً أخرى لا تجوع فيها، وإذا أكلت لا تتألم، اطلب داراً أخرى لا تجوع فيها ولا تعرى، ثم إذا أكلت تتلذذ وتتنعم ولا تتألم، ويونس بن عبيد من أئمتنا الربانيين، توفي سنة تسعٍ وثلاثين ومائة، وقيل: سنة أربعين ومائة للهجرة، وهو من شيوخ الإسلام الكرام الكبار في زمنه، حديثه مخرج في الكتب الستة، ومن ورعه ومناقبه وفضائله رحمه الله ورضي الله عنه: أنه كان يبيع الملابس وهو شيخ الإسلام في بغداد، فجاءه رجلٌ وقال: أريد نقرة بأربعمائة درهم، قال: ما عندنا إلا نقرة بمائتين، هذا أعلى شيء، قال: أريد بأربعمائة، قال: لا يوجد، فذهب يونس بن عبيد إلى حاجةٍ فعاد فرأى ابن أخته قد باع النقرة بأربعمائة درهم، وعاد ذاك المشتري مرةً ثانية وقال: أريد نقرةً أخرى بأربعمائة، قال ابن أخت يونس : هذا بأربعمائة هل يناسبك؟ فرد المشتري وقال: يناسبني، خذ الدراهم فهي حلال، فاشتراه بأربعمائة، فقال يونس لابن أخته: ويحك نبيعه بمائتين فكيف بعته بأربعمائة؟ قال: هو رضي، قال: ابحث عنه، فبحث عنه حتى وجده ثم أعاده قال: أنت بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن تأخذ المائتين الزائدة، وإما أن تعيد النقرة، فـ(الدين النصيحة)، و(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فأنت تأخذه بأربعمائة، لا يمكن أبداً، إما أن تعيده وتأخذ فلوسك، وإما أن تأخذ المائتين الزائدة، قال: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا رجلٌ من المسلمين، قال: سألتك بالله فأخجله، قال: أنا يونس ، قال: يونس بن عبيد ؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! إذا كنا في الغزو، ووقفنا في نحر الأعداء، واشتد علينا البلاء نقول: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا، وفرج عنا، فيفتح الله علينا وينصرنا على أعدائنا، نحن إذا اشتد علينا الكرب نلجأ إلى الله بهذا الاسم المبارك فنقول: اللهم رب يونس بن عبيد ، هذا الولي الذي اصطفيته لنفسك، ولك ربوبيةٌ وعنايةٌ خاصةٌ به نسألك أن تنصرنا فكنا ننصر على أعدائنا.

    هذه الدار لا توافقنا، إذا أكلت تتألم، وإذا جعت تتألم، فاطلب داراً أخرى.

    وهذا العبد الصالح من درر كلامه: ارحم الغريب والأغرب من الغريب؟

    قالوا: من الغريب؟ ومن الأغرب؟

    قال: الغريب الذي إذا عرف السنة عرفها، وأما الأغرب فهو الذي يعرف بالسنة، ويدل الناس عليها هذا أغرب الناس، إن أغرب الناس حقيقةً من يعرف بالسنة ويقال عنه وله: مخرفٌ مبتدع.

    ومن يقول عنه هذا؟

    يقول هذا من في بيته آلات اللهو ومزامير الشيطان، في بيته هذا ويقول بعد ذلك عمن يعرف بالسنة والذي هو أغرب الناس: إنه مبتدع، سبحان ربي العظيم!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089105958

    عدد مرات الحفظ

    781743870