إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [25]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشبه الجن الإنس في كثير من الجوانب، ومن ذلك التكليف، فكما أن الإنس مكلفون وعلى أعمالهم محاسبون فالجن كذلك؛ وكما أن الإنس يتناكحون وينجبون الذرية فكذلك هو الحال عند الجن، فقد قامت الأدلة على أن الجن يتوالدون وأن ذريتهم أكثر من ذرية الإنس، وهم يعينون نظراءهم من الإنس لمقاصد مختلفة، فإما أن تكون الإعانة بغرض الإحسان والمنفعة، أو تكون بقصد الإضلال والمضرة.
    الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    فلا زلنا نتدارس مبحث الجن، ونحن الآن في آخر مباحث الجن ألا وهو صلتنا بهم، وصلتهم بنا، وقلت: هذا المبحث سنتدارسه ضمن أربعة أمور:

    أولها: استعانة الإنس بالجن.

    وثانيها: وقوع التناكح بيننا وبينهم.

    وثالثها: تلبس الجني بالإنسي.

    ورابعها: تحصن الإنس من الجن.

    أما الأمر الأول فقد مر الكلام عليه مفصلاً في المواعظ السابقة، وقلت: إن الاستعانة بهم تنقسم إلى قسمين: قسم جائز مشروع، وقسم محرم ممنوع، وفصلت الكلام على كل قسم وعلى أنواعه وأدلة ذلك.

    ختمت الكلام على القسم المحرم الممنوع بأن الجن لا يساعدون الإنسان في محرم إلا إذا فعل محرماً، ويستمتع كل منهما بصاحبه، فإذا طلبنا منهم معصية من إحضار ما نريد ونهواه عن طريق ما حرم الله، أو من إيذاء أحد من خلق الله ونحو ذلك، فإنهم في المقابل يطلبون منا أن نسجد لهم، وأن نستعين بهم، وأن نذبح لهم، وأن نحسن إليهم، وأن نرجوهم، وأن نخافهم، أو أن نسجد لشيء يأمروننا بالسجود له، وأحياناً يقع التناكح بيننا وبينهم.

    الإعانة بقصد الإضلال

    قد لا يقع من الإنسي طلب معونة من الجني، لكن الجني يتطوع لإحضار المطلوب للإنسي دون أن يطلب منه من أجل أن يستدرجه، ومن أجل أن يوقعه في الشرك، وهذا حصل بكثرة لكثير من أئمتنا لكن ليقظتهم وبصيرتهم وقوة إيمانهم ما راجت عليهم هذه التلبيسات.

    فمن ذلك ما ذكره أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد توفي سنة واحدة وستين وخمسمائة للهجرة، وهو من شيوخ أهل السنة الصالحين، ومن العلماء الربانيين، يقول الإمام ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة في ترجمته في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين إلى صفحة واحدة وثلاثمائة ترجمه في إحدى عشرة صفحة، يقول: انتصر أهل السنة لظهوره؛ لأنه كان شيخ أهل السنة في زمانه، وتقدم معنا أن الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لما ذهب إلى بغداد تتلمذ عليه وتلقى العلم منه، وكان يقول: إذا تواترت الكرامات عن أحد فتواترها عن الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولذلك يقول ابن رجب الحنبلي : انتصر أهل السنة بظهوره، وهو من العلماء الربانيين، وممن تأدب بآداب الشرع القويم، ومع ذلك كان إذا حصل منه شيء أحياناً يظهر له النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فيوجهه بالتي هي أكمل.

    جاءه مرةً بعض طلبة العلم وألح عليه في الأسئلة بحيث اغتاظ الشيخ وغضب وقال: ليس الآن وقت أسئلة اسكت، فلما ذهب نام الشيخ، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: يا عبد القادر ! أنت معلم الخير، فلا ينبغي أن تغضب وإن ألح، عليك بالرفق، فاستيقظ من نومه مباشرةً وأرسل إلى هذا التلميذ وقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبني فيك، فماذا عندك؟ سلني عنه، وهذا أدب نبوي شريف، والله يقول لنبيه عليه صلوات الله وسلامه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ، وما كان يزيده جهل الجاهل، ولا سفاهة السفيه إلا حلماً، وقد شهد الله له بأنه على خلق عظيم، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.

    هذا الشيخ المبارك الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يخبر عن نفسه كما في الذيل على طبقات الحنابلة صفحة أربع وتسعين ومائتين، قال الإمام ابن رجب : وهذه قصة مشهورة عنه.

    خلاصتها: أنه كان في سفر مع بعض أصحابه فاشتد عليه العطش، وكان الوقت حاراً، فأظلتهم سحابة، ثم نزل منها ما يشبه الندى والرطوبة حتى ارتووا، ثم خرج من تلك السحابة نور تبعه دخان وفيه صوت ينادي: يا عبد القادر ! أنت عبدي وأنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، فقال الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: اخسأ يا لعين، فقال له من معه: كيف عرفت أنه اللعين وأنه الشيطان الرجيم؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات، كيف يحل الله ما حرم على عباده؟ وما حرم علينا إلا لما فيه من ضرر، فكيف إذاً يحل لي؟ ثم سمع صوتاً آخر يناديه من هذه السحابة التي خرج منها نور وتبعه دخان يقول: يا عبد القادر ! لقد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا الفعل، لكن ما استطعت أن أضلك ليقظتك ولعلمك، قال: هذا بفضل الله لا بعلمي يا لعين، والله هو الذي منّ علي بهذا وهو خير الحافظين، ونسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فمن وكل إلى نفسه هلك، ومن وكل إلى الخلق ضاع، ومن وكل إلى الله فهو في حفظ عظيم.

    وهنا لم يطلب الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا معونةً من الجن، وما اتصل به جني وقال: أريد أن تحضر لي قربةً من الماء، وإنما الشياطين فعلوا هذا من أجل إضلال هذا الشيخ وإضلال الناس به.

    تشكل الجن بصور الصالحين كابن تيمية وغيره بقصد الإحسان

    وهذا يفعله الجن أحياناً مع كثير من العباد، بل يفعلون مثل هذا مع الكفار ليزيدوهم كفراً على كفرهم، والشيخ ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يخبر عن نفسه أنه كثيراً ما كانت تتشكل الجن بصورته، أحياناً للمؤمنين وأحياناً للكافرين، أما المؤمنون فمن أجل أن يساعدوا أصحاب الإمام ابن تيمية، وأما الكافرون فمن أجل أن يحصل بذلك إضلال وفتنة لهذا الشيخ الإمام، وفي مجموع الفتاوى في عدة أماكن في الجزء الحادي عشر صفحة تسع وثلاثمائة ذكر حوادث لتشكل الجن بصورته وهو غائب في مكان فيتشكلون في مكان آخر ويقضون حاجة بعض الناس هناك على أن الفاعل هو الشيخ ابن تيمية وهو في مكان آخر، فهو في بلاد مصر ويتشكل الجني بصورته في بلاد الشام، ويقضي حاجة بعض عباد الرحمن، وذكر هذا في الجزء التاسع عشر صفحة سبع وأربعين، وذكره في الجزء الثالث عشر صفحة اثنتين وتسعين.

    يقول عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين: وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وأحياناً لا يوجد استغاثة كما ستسمعون، وقد يخلصونه مما يكره، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاء، أو أن ملكاً تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل له إنما هو الشيطان، وأنه لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تطلب منه أن يشرك، وعندما استغاث بميت ولجأ إليه وقال: يا شيخ عبد القادر : فرج كربي، يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أغثني، يا أبا بكر اكشف عني ضري، رضي الله عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين، فعندما فعل هذا واستغاث هذه الاستغاثة الشركية جاءه الشيطان مباشرةً وقضى له حاجته يريد أن يضله وأن يثبته على هذا الشرك، وإذا نزل به ضر لجأ إلى المخلوق مرةً ثانية، في البداية لا بد من طعم يطعمه من أجل أن يخرجه من دين الله، فإذا استحكم بعد ذلك منه أنه مشرك فإنه لا يقضي حاجاته بعد ذلك؛ لأنه قبض عليه وأدخله القفص.

    وذكرت في بعض المواعظ أن بعض الناس في بلاد الشام ذكر لي مرةً قصة من القصص وله شأن من حيث المكانة والشهادات في هذه الأيام، وقال لي: أنتم لا تؤمنون بكرامات الأولياء، قلت: للأولياء كرامات ويوجد تخريف ففرق بين الأمرين، فقال: أنا أحكي لك قصة هل تؤمن بها؟ قلت: اذكر، يقول: كان بعض الناس يقود سيارةً من الأتوبيسات الباصات الكبيرة التي تسع ستين فما يزيد من سيارات الأجرة، يقول: كان وهو في طريق النزول من اللاذقية إلى حلب وهي طريق كلها مرتفعات جبال ووديان، يقول: فلما علوا جبلاً ونزل في الوادي وهو مزفت ولم يبق فرامل في السيارة، يضع رجله على الكابح والسيارة لا تقف، وبدأت تهوي كأنها الريح، قال: فبدأ ينادي: يا ألله يا ألله يا ألله! فما أحد أجابه ولا وقفت السيارة، فالتفت إلى الشيخ عبد القادر وقال: يا شيخ عبد القادر ! أنا في جوارك، أنا في حماك، أغثني.. تداركني قال: فما شعر إلا بالسيارة وقفت، وسمع صوتاً يناديه: أما تستحي أتعبتني من بغداد إلى بلاد الشام، وعندك في بلاد الشام في حلب واللاذقية ودمشق أولياء كثر لم لم تستنجد بواحد منهم وتلجأ إليه؟ يريد الشيطان أن يضله بهؤلاء وبأولئك، قال لي: هذه تؤمن بها أم لا؟ قلت: لها عندي حالتان:

    الحالة الأولى: الغالب أنها مكذوبة، والناس يتناقلون كثيراً من الأخبار الشركية التي لا حقيقة لها، ولو تتبعت السند لوجدت أنه ما وقع ولا حصل شيء من ذلك، وهذا يقع بكثرة، ثم يأتي الشيطان فينشر بين الناس كذباً ويحكي أكذوبة فيتناقلها الناس ولا حقيقة لها.

    قلت: وعلى التنزل والتسليم أنها وقعت، فلعل الجن هم الذين أمسكوا الأتوبيس، ولهم قوى عظيمة كما أخبرنا ربنا جل وعلا عنهم، وفعلوا ذلك من أجل أن يفتنوا هذا الإنسان وهؤلاء الستين راكباً ليخبروا الأمة بعد ذلك بأنه إذا وقع فيك ضر فالجأ إلى الشيخ عبد القادر ولا تلجأ إلى الله القوي القادر سبحانه وتعالى.

    ثم قلت: أنا أعجب من عقلك وأنت تحكي هذه القصة، أنت تقول: استغاث بالله فما أجابه، واستغاث بالشيخ عبد القادر فأجابه، فهل صار الشيخ عبد القادر أرأف وأرحم وألطف وأبر بالعباد من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ قال: لا، الله هو أرحم لكن كل شيء له باب وله مفتاح، فمفتاح رب العالمين أولياؤه فنلجأ إليهم من دونه، وهم بعد ذلك واسطة بيننا وبين الله جل وعلا.

    وهذا قول المشركين قبل بعثة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، حيث كانوا يلجئون إلى هذه الوسائط من أجل أن يقربوهم إلى الله زلفى، فهنا استغاث وحصل له كما يقول الشيخ ابن تيمية شيطان من أجل أن يضله.

    قال الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله: وتارةً يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً، ويكون كافراً وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي، فيسقيه ويدعوه إلى الإسلام، فيسلم على يديه، ثم يدله على الطريق، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، ويكون من مؤمني الجن، أحياناً هذا يقع، يراه بعض مؤمني الجن منقطعاً في فلاة، فيتصلون به وقد يكون على معصية فينصحونه، ثم يقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، باسم بعض الشيوخ الصالحين من الإنس، وحتماً هو في هذا الإخبار مخطئ وأخبر بخلاف الحقيقة كما سيأتينا، فهي معصية جرت منه مع المعونة التي قدمها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089103376

    عدد مرات الحفظ

    781701085