إسلام ويب

الاستقامةللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حقيقة الاستقامة هي المحافظة على الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المخالفات في جميع الأماكن والأوقات، فهي باختصار المواظبة على التقوى وملازمتها على كل الأحوال، بأن تجعل بينك وبين ما يسخط الله وقاية بفعل الطاعات وترك المنكرات.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]. وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطاهرين، وعن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:

    فيا معشر الإخوة الكرام! إن الموضوع الذي سأتحدث عنه وهو الاستقامة له سببان بارزان هما الدافع للحديث عنه في هذه الساعة المباركة.

    السبب الأول: هو في ذهني من زمن قديم، وله تأثير كبير على نفسي، وعلى حياة الناس أجمعين، ويعلم الله الذي لا إله إلا هو أن هذا الموضوع الذي سأتحدث عنه لا يغيب عني في لحظة من اللحظات، وعندما أقارن بين حياتنا وحياة السلف الكرام أرى البون الشاسع بين الحياتين، والكلام الذي أصلوه، والكلام الذي قالوه عندما نعرضه على حياتنا كأننا نراه خيالاً، أو أنه لا يمكن أن يتصف به الإنسان، وما ذلك إلا لتخليطنا وتفريطنا واستقامة من سبقنا على طاعة الرحمن وتقصيرنا.

    فمثلاً: يقول الفضيل بن عياض عليه رحمة الله، وهو شيخ المسلمين في زمنه وإمام الحرم المكي، يقول: من علامة الإخلاص ثلاث خصال إذا وجدت في إنسان فهو مخلص: الصفة الأولى: استواء المدح والذم من الناس. إذا مدحك الناس أو ذموك لا تتأثر لا بمدحهم ولا بذمهم. هذا من علامات إخلاصك. فعندما أعرض هذا القول على حياتنا أتيقن يقيناً وأجزم جزماً أنني لست من هذا الصنف، استواء المدح والذم من الناس، هذا من علامة الإخلاص، وإنما حال سلفنا عندما استقاموا استوى عندهم الناس، فلا يؤثر مدحهم ولا ذمهم.

    والأمر الثاني: نسيان رؤية الأعمال في الأعمال، أي: عندما يقوم الإنسان بالأعمال ينساها، وكأنه لا يقوم بشيء بحضرة الرب جل وعلا، والأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فيما نقله عنه تلميذه البار الصالح ابن القيم في مدارج السالكين، يقول: وكان شيخنا كثير اللهج -أي: يلهج ويردد هذا الكلام كثيراً- كثير اللهج بهذه الكلمات، فيقول: لا لي شيء، وما عندي شيء، وما مني شيء، ويردد هذا البيت مراراً:

    أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي

    أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسكين في مجموع حالات

    أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده يات

    ثم يقول بعد ذلك:

    والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذات

    وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له يات

    فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاصي

    ما عندي شيء، ولا مني شيء، ولا لي شيء.

    وكان يقول عليه رحمة الله: والله -وهذا ما نقله عنه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين في آخر الجزء الأول- والله منذ إن احتلمت، وبلغت وعقلت إلى الآن ولا أعلم أنني أسلمت إسلاماً جيداً، وإنني أجرد إسلامي كل وقت.

    والشيخ ابن القيم يقول: قال هذا الكلام في آخر عمره، يقول: للآن أصحح إسلامي. هل ينسى أعماله عندما يقوم بالأعمال؟ هذا من علامات الإخلاص، والله عندما أعرض هذا الكلام على حياتي أرى بوناً شاسعاً بينه وبين عملي.

    والأمر الثالث: أن يريد الثواب عند الله في الآخرة. هذه الثلاث من علامات الإخلاص:

    الأولى: أن يستوي المدح والذم عندك أيها المكلف من الناس، فالناس لا يملكون شيئاً، الموجود خالق ومخلوق، فالمخلوق ينبغي أن يكون شعارك أمامه كما قال خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77].

    والثانية: أن ينسى الإنسان أعماله عندما يقوم بالعمل، فمن وجد خيراً فليحمد الله: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29].

    والثالثة: أن يريد من عمله الثواب عند ربه وليس شيئاً آخر، وهكذا قول بعض السلف الكرام أيضاً، وإذا كنت تحب أحداً في الله، فضع نفسك على المحك والاختبار، فمن علامات الحب في الله: أنه لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، سبحان الله العظيم! والله إنها لكبيرة إلا على الخاشعين، إذا كنت تحب إنساناً في الله فأحسن إليك وتكفل بنفقتك كبيرها وصغيرها لا يزداد حبك له إذا كان الحب لله خالصاً، وهكذا إذا دار بينك وبينه اختلاف في الآراء، وجرى بينك وبينه شيء من النزاع فلا يؤثر هذا على الحب في الله.

    من علامة الحب في الله أنه لا يزيده البر ولا ينقصه الجفاء، الذي ينظر في حياتنا يرى أن حياتنا تدور في حال المحبة مع المنفعة، وفي حال العداوة مع المضرة، فمن نفعنا أحببناه، ومن خالفنا في الرأي عاديناه وقد يكون من أولياء الصالحين.

    فالذي ينظر إلى هذا الكلام الذي قاله سلفنا، ووالله ما قالوا كلاماً جزافاً، إنما قالوه بناءً عن حركة عملية، وعن واقعٍ كان يصدر عنهم، فهذا الكلام الذي قالوه وترجموه بأعمالهم عندما نعرض عليه حياتنا، نرى بوناً شاسعاً بين ما قرره سلفنا الكرام، وبين ما نعيشه الآن، فما سبب ذلك؟

    السبب في هذا: أن من سبقنا استقاموا فهان عليهم كل شيء في طاعة الله سبحانه وتعالى، وإننا الآن نروغ كما تروغ الثعالب فتغيرت حياتنا عن حياة سلفنا الصالح. هذا الأمر الذي هو أحد السببين البارزين في ذهني، فأردت أن أتكلم عن الاستقامة لعل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم الاتصاف بهذه الصفة الجليلة الفاضلة لنحذو حذو سلفنا المباركين؛ إنه على كل شيء قدير.

    والأمر الثاني: أنني زرت بعض الإخوان من قريب بعد عيد الفطر المبارك، وهو في بلدة أبها، فرأيت عنده كتاباً بعنوان: (الاستقامة) وهو في مجلدين، ومن الغريب الذي يشرح القلوب أنه لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، كتاب (الاستقامة) في مجلدين، وكل مجلد لا يقل عن أربعمائة صفحة في بيان الاستقامة وأثرها في حياة المؤمن، وكان في نفسي أن أستعيره منه لقراءته، ولكن ما قدر الله ذلك، فقلت: إن شيخ الإسلام عليه رحمة الله ما بحث في هذا الخلق الكريم، وفي هذا الوصف العظيم في مجلدين كبيرين إلا لما لذلك الخلق وذلك الوصف وهو الاستقامة من أثر كبير في حياة المؤمنين، وهذا ما سنتدارسه في هذه الساعة إن يسر الله وأعان.

    سأتكلم عن هذا الموضوع ضمن خطوط محددة حتى لا يشرد بنا الحديث إلى هنا وهناك، فسأتكلم.

    أولاً: عن ماهية الاستقامة وحقيقتها.

    ثم سأتكلم ثانياً -النقطة الثانية- عن منزلة المستقيمين عند رب العالمين.

    والنقطة الثالثة التي سيكون الحديث فيها: طلب نصوص الشرع الكريم الاستقامة من المكلفين.

    والنقطة الرابعة هي: تواصي سلفنا الصالح بهذا الأمر وتحذيرهم من التفريط فيه.

    والنقطة الخامسة وهي ختام الكلام على هذا الموضوع: حول دقيقة في موضوع الاستقامة نبهت إليها النصوص الشرعية، سأنبه عليها تأسياً بتلك النصوص التي تحدثت عن الاستقامة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089205203

    عدد مرات الحفظ

    782739172