إسلام ويب

هل للقاتل من توبة؟للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد توعد الله عز وجل أهل العصيان بالنيران، جزاء تعديهم لحدوده، واستخفافهم بقدرته سبحانه وجبروته، ولكن ليس كل من عصى متوعداً بذلك، فإن الله برحمته التي وسعت كل شيء أمهل العصاة والمذنبين ليتوبوا مما اقترفوا ويئوبوا إلى رحاب مولاهم عز وجل، وجعل غاية إمهال العاصي أن يكون ذلك قبل حلول أجله، وقبل قيام الساعة، فالبدار إلى التوبة إلى الرب الرحيم الغفار.
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، وشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جرى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه أجمعين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    معشر الإخوة الكرام! كنا نتدارس الأخلاق الواجبة التي ينبغي أن يقوم الإنسان بها ليتصف بحسن الخلق، وهذه الأخلاق الواجبة تكون في ثلاثة أحوال، ولها ثلاثة أنواع، لا بد من الإتيان بها لتحصيل حسن الخلق.

    أولها: أن نعامل الخلق بالعدل، فلا ظلم ولا جور، وأن نحب لهم ما نحبه لأنفسنا، وهو الأمر الثاني، وأن نساعدهم إذا تعين مساعدتهم علينا، هذه الأمور الثلاثة معاملات واجبة، أخلاق حسنة واجبة، من انحرف عن شيء منها فهو سيئ الخلق بلا شك.

    عباد الله! وقد كنا في الموعظة الماضية نتدارس الأول منها: معاملة الخلق بالعدل، فلا ظلم، ولا جور، فقلت: إن هذا العدل يكون في عدة أمور، في أرواح الناس وأبدانهم، فلا يجوز أن نظلمهم في ذلك، ولا أن نعتدي عليهم في أموالهم وممتلكاتهم، في أعراضهم وحريمهم، في حقوقهم وقدرهم ورتبتهم، هذه الأمور الأربعة لا يجوز أن نجور ولا أن نظلم فيها، لنتصف بالعدل في عباد الله في هذا الأمر.

    إخوتي الكرام! لقد أخذنا الأول منها، وهو: أن يأمن الناس منا في أرواحهم وأبدانهم، فلا يجوز أن نقتلهم، ولا أن نضرب أبدانهم، سواء كانوا أحراراً أو عبيداً، وسواء كانوا من المكلفين، أو من الحيوان البهيم كما تقدم معنا تقرير هذا بأدلته الصريحة الصحيحة.

    إخوتي الكرام! وهذا الأمر بالمحافظة على أرواح الناس وأبدانهم، وعدم الاعتداء عليهم هو آكد وأهم ما يجب علينا نحو خلق الله وعباد الله، وقد بينت ما في الاعتداء على ذلك من عقوباتٍ عظيمةٍ كبيرة، وقد هول الله جل وعلا من أمر قتل النفس المعصومة، فجعل قتل نفس واحدة بمثابة قتل الناس جميعاً، قال الله جل وعلا في سورة المائدة بعد أن ذكر قصة ابني آدم وكيف اعتدى أحدهما على أخيه بالقتل، قال الله جل وعلا: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] .

    من قتل نفساً بغير نفس، أي ما قتل نفساً تستحق القصاص، أو من غير سبب فسادٍ في الأرض، من قتل نفساً بغير نفس، أو بغير سبب فسادٍ في الأرض، فلا يجوز قتل النفس المعصومة إلا بسببين: إما عن طريق القصاص، وإما أن النفس تستحق القتل لإفسادها في الأرض عن طريق الحرابة وقطع الطرق، وعن طريق الكفر بالله والردة ومحاربة شريعة الله، وعن طريق الاعتداء على الأعراض، كل هذا من باب الفساد في الأرض، فلا يجوز أن يقتل نفساً معصومةً إلا قصاصاً، وإلا إذا كانت تلك النفس تفسد في الأرض، وأما في غير هاتين الحالتين فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، وقد تعددت أقوال أئمتنا في ترتيب هذا التشبيه، والذي يبدو لي ويظهر والعلم عند الله، أن ربنا جل وعلا جعل قتل النفس بمثابة قتل جميع الخلق من أوجهٍ ثلاثة: في الحرمة، فالنفس الواحدة محرمٌ عليك قتلها، ويجب أن تحافظ على حياتها، والناس جميعهم كذلك يشتركون في هذا الأمر، وفي القصاص، يجب عليك القصاص إن قتلت نفساً أو نفسين أو قتلت الناس جميعاً، فلا يجب عليك إلا هذا.

    والثالث: في الوعيد، فإذا قتلت نفساً أو أكثر فلك جهنم خالداً مخلداً فيها، وعليك غضب الله ولعنته، ولك في جهنم عذابٌ عظيم، فالعقوبة في ذلك سواء قتلت نفساً أو أكثر.

    إذاً فكأنما قتل الناس جميعاً في الحرمة، والقصاص، والوعيد، كما نقل عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما في تفسير الطبري وغيره، قال: هذا في حق من قتل نبياً أو عالماً، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، يقول: هذا لو كان المقتول نبياً على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه، لو كان المقتول نبياً أو كان عالماً، ولا يقصد هذا الإمام المبارك حصر الآية في هذا، إنما يريد أن يبين أشنع صور قتل النفس، فأشنع صور القتل أن يقتل الإنسان نبياً أو أن يقتل عالماً وهو خليفة النبي كما قال الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:21-22].

    مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32] ، أي: قتلها بغير إفسادها في الأرض، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا [المائدة:32]، بأن لم يقتلها، وتركها تتمتع في الحياة التي منحها الله لها، (ومن أحياها)، بأن خلصها من موت وهلكةٍ أو حرق أو غرق، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].

    عباد الله! وكان الواجب علينا في هذه الموعظة بعد أن تدارسنا هذا الحق أن نتدارس الأمر الثاني الذي ينبغي أن نتصف بالعدل فيه وعدم الجور، ألا وهو المحافظة على أعراض الناس وحريمهم، لكني أعجب من إخوتي الكرام حث تساءلوا عن الموعظة السابقة، وأسئلتهم دارت حول أمرين: بعضهم يقول: لو تاب القاتل ألا يغفر الله له؟ وأنت تذكر في الآيات: أن من قتل نفساً بغير نفس فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فإذا تاب هل يناله هذا الوعيد؟ وإذا لم يتب هل سيخلد في نار جهنم؟ كانت أسئلة عدد من الإخوة الكرام حول هذين الأمرين: إذا تاب القاتل ألا تقبل توبته؟ وإذا لم يتب هل هو مخلدٌ في نار جهنم كالكفار؟

    وحقيقةً كل من الأمرين وجيه معتبر ينبغي أن نقف عنده، وهذا ما سأتكلم عليه في هذه الموعظة إن شاء الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089441651

    عدد مرات الحفظ

    785081264