إن الله عز وجل أرسل الرسل ليدعوا الناس إلى توحيده سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء الرسل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وأحد أولي العزم، فقد دعا قومه إلى نبذ عبادة الأوثان وتوحيد الله بالعبادة فلما أصروا واستكبروا تبرأ منهم وأعرض عنهم وعن معبوداتهم فأثابه الله تعالى بأن جعله أمة قانتاً لله حنيفاً.
قال تعالى:
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 
[الزخرف:20].
فازدادوا ضلالاً إلى ضلالهم الأول فقالوا: (لو شاء الله ما عبدناهم) أي: لو شاء الله لمنعنا أن نعبد الملائكة على أنهم بنات الله.
وقوله تعالى:
مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ
[الزخرف:20] الله حرم عبادة كل مخلوق، وما جاءت الرسل منذ آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم وذريته من أنبياء الله ورسله إلا بالتوحيد وعبادة الله الواحد، وتحريم عبادة أي شيء سوى الله الواحد جل جلاله وعز مقامه.
ولكن لجهالتهم وإغراقهم في هذه الجهالة قالوا: لا علم لنا بذلك، ولو حاولوا الدراسة لما في التوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم لوجدوا أن الله حرم عبادة أي شيء سواه، فما جاءت الرسل والأنبياء إلا بتوحيد الله وعبادته وحده.
فكذبهم وجهلهم ترهات ما أنزل الله بها من سلطان.
وقوله تعالى:
إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
[الزخرف:20] أي: إن هم إلا يكذبون، والخرص: الكذب، فالله لم يأمرهم بعبادة الملائكة ولم يأت بذلك نبي ولا رسول ولا كتاب، بل إن الله حرم منذ خلق البشر أن يوحد ويعبد غيره جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى:
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ 
[الزخرف:21] هذا الذي زعموه من عبادتهم الملائكة، ومن أنهم لم يمنعوا من عبادة الملائكة وأنه لو منعهم لما عاقبهم بذلك، هل لهم كتاب أخبر الله فيه بأنه لا علم لهم أم أنهم كذبة خراصون؟
وهل آتيناهم كتاباً أنزلناه عليهم قبل القرآن الكريم فيه هذا الزعم والكذب والافتراء فهم به مستمسكون، وبه متعلقون، وعلى ما فيه يعملون؟ والجواب: لا. فالعرب كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانوا أهل فترة لم يأتهم نبي إلا نبيهم العربي محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وكانوا يتمنون من قبل أن يأتيهم رسول معه كتاب يؤمنون به ويعملون بطاعته، ولكن لما جاءهم قاوموه وحاربوه وقاتلوه وأخرجوه من بلاده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال تعالى:
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 
[الزخرف:25] أي: انتقم الله من المكذبين السابقين في الأمم السالفة كما انتقم بعد ذلك من ظل على كفره من العرب والعجم، انتقمنا منهم وعاقبناهم وأهلكناهم وعاملناهم بما يليق بأمثالهم من كل فاسق ومجرم وكاذب على الله، والمراد بـ
الْمُكَذِّبِينَ 
[الزخرف:25] أي: المكذبين بالرسل، والمكذبين بالكتب الإلهية السابقة واللاحقة (القرآن الكريم).
ولقد عاقب الله قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون، وكذلك المعرضين من الأمة المحمدية، فلقد شرد الله بأولئك الذين بقوا على الكفر في مكة فغُلبوا وقُهروا وذلوا وسحقهم النبي صلى الله عليه وسلم في المعارك، وأخرجهم من أرضهم وبلادهم وطهرها من أجسامهم ومن أصنامهم وعاد إليها عزيزاً مظفراً منتصراً، وقد أزال شركها ووثنيتها وعوضها بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
قال تعالى:
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 
[الزخرف:28] أي: جعل الله دعوة إبراهيم لقومه وبنيه أن اعبدوا الله ولا تتخذوا معه غيره، ودعا إبراهيم أن يجعل الله النبوة في عقبه إلى يوم القيامة وليبقى ذلك عهداً، والله تعالى أجاب بذلك إلا من ظلم نفسه وكان مشركاً، فجعلها كلمة باقية متسلسلة في عقبه وكل من جاء من الأنبياء والرسل، والعقب الأولاد الأولون من الأحفاد والأسباط ومن أتى بعدهم إلى يوم القيامة من جميع السلالات: الأولاد وأولاد الأولاد من الذكور وأولاد البنات وهكذا،
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً 
[الزخرف:28] أي: مستمرة مسترسلة في العقب، وهكذا فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يأت بعده نبي ولا رسول إلا من أولاده، والعرب كانوا من أحفاد إبراهيم وفيهم جعل الله الرسالة والنبوة، فقد جاءت في أطهرهم وفي أشرفهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أمرهم نبيهم بأن ينشروا ذلك بعده، فقد أرسل إلى الناس كافة، قال تعالى:
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ 
[الشعراء:214] وقل:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا 
[الأعراف:158]، وقال عليه الصلاة والسلام: (
كان الأنبياء قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامّة) فهو رسول إلى العرب والعجم والبيض والحمر والسود، وإلى مشارق الأرض ومغاربها، وكل ذلك كلمة باقية في عقب إبراهيم لأن النبي من سلالته وعقبه، ومن سبقه من سلالته وعقبه عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أرسلوا بكلمة: لا إله إلا الله التي قال عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (
أفضل كلمة قلتها أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله) فهي الكلمة الباقية، وهي كلمة الإسلام والتوحيد، وهي كلمة القرآن والرسالة، وهي طاعة الله وترك الشيطان وأمثاله من الكفار يهود ونصارى ووثنيين وكل ملل الكفر، وملل الكفر ملة واحدة، وقوله تعالى:
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 
[الزخرف:28] أي: لعل عقبه ممن لم يستمسك بها يرجع إليها ويعود لها ويقول يوماً: لا إله إلا الله، ويدين غيباً بدين الإسلام وبمحمد خاتم المرسلين صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وخليل الله إبراهيم قد مضى على نبوته ورسالته الآلاف من السنين وكل من جاء بعده من ولديه النبيين الكريمين نبي الله إسحاق ونبي الله ورسوله إسماعيل، ومن سلالة إسحاق وسلالة إسماعيل، وكفى إسماعيل فخراً وشرفاً أن تكون سلالته بالنبوة محمداً وحده صلى الله وسلم عليه وعلى آله، فهو نبي الأنبياء وسيد الخلق كافة وهو الذي يبعثه ربه المقام المحمود ويشفع في الخلائق كلها من أمة آدم إلى أمته فيستجيب الله له عندما يتقدم للشفاعة ويقول: (أنا لها أنا لها) فيدعو الله بمحامد لا يلهمها إلا ذلك الوقت ويقول: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فلم يقل هذه الدعوات أحد قبله ولا بعده، لا آدم ولا إبراهيم ولا غيرهما، وفي هذا دلالة على عزّة مقامه، وأنه أفضل منهم وأكرم الخلق،
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ
[البقرة:253] وأجمع المفسرون أن الذي رُفع درجات هو خاتمهم وإمامهم الذي صلى بهم إماماً في المسجد الأقصى ليلة أسري به -أعاده الله للمسلمين وأخرج منه الكافرين وأذلهم وأذل أشياعهم وقضى عليهم-، قال تعالى جل جلاله وعزّ مقامه:
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
[الزخرف:28] واختلف الفقهاء إذا أوصى الإنسان بشيء من ملكه لعقبه هل يدخل فيه الذكور والإناث؟
قال بعضهم: يدخل فيها الذكور فقط، وأكثرهم قالوا: يدخل فيها الذكور والإناث، فالقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب تقول العقب هم سلالته وذريته التي أتت بعده وأعقبته في الوجود والحياة من الذكور والإناث.