قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: ( قال له رجل: إنَّ صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة؟! قال: أجل! نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي بأيماننا، أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار ) ].
هنا أورد النسائي هذه الترجمة وهي: باب: النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار، هذه الترجمة عقدها النسائي بالرغم من أن الحديث الذي قبله مشتمل على ما استندت عليه هذه الترجمة، أو يدل على هذه الترجمة، وهو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستنجى بثلاثة أحجار )، لكن هنا أورد هذه الترجمة المشتملة على النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار، وأورد فيها حديث سلمان: (أنه قال له رجل: إن صاحبكم يعلمكم حتى الخراءة؟!) وهذا الرجل جاء في بعض الطرق عند ابن ماجه أنه من المشركين، وقال هذا على سبيل الاستهزاء, أو على سبيل العيب؛ لكن سلمان رضي الله عنه وأرضاه ما قابل ذلك الكلام بالذم أو التوبيخ، بل قابله بالإثبات, وأن هذه ممدحة ومحمدة، وهو أن ديننا كامل، وأن كل شيء علمناه حتى عند قضاء الحاجة، فما حصل تقصير في شيء ونقصان في شيء، بل الشريعة كاملة غاية الكمال، حتى أدب قضاء الحاجة علمنا إياها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعندما رد عليه سلمان (قال: نعم) فما قابله بالتوبيخ, أو السب, أو الشتم، أو قال: كيف تستهزئ؟ بل قال: نعم، علمنا كيف نقضي الحاجة؟! وكيف نجلس؟ ولا نفعل كذا ولا كذا.. إلى آخره، وكل هذه من آداب قضاء الحاجة.
وهذا مما يستدل به أهل السنة -وكثيرا ما يأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- في بيان العقيدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما يحتاجون إليه في أمور العقيدة، وقال: كيف يقال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الناس دون أن يبين لهم أمور العقيدة, وتركهم يخوضون ويتخرصون فواحد يقول: المراد كذا والمراد كذا، والرسول ما بين لهم المراد؟ فكيف يبين الرسول عليه الصلاة والسلام آداب قضاء الحاجة ولا يبين أمور العقيدة؟! هذا كلام يعقل؟! وهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية وفي غيرها، وبين فيه كمال الشريعة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينها في العقائد كما بينها في الأحكام، بل بيانها في العقائد أتم وأكثر.
ثم قال: كيف يعقل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بين للناس أمور قضاء الحاجة كما جاء في حديث سلمان, ثم لا يبين للناس أمور العقيدة؟ بل من باب أولى تبيينه، وهذا هو الذي وقع وحصل، فهذا المشرك أتى بهذه الكلمة يريد أن يستهزئ؛ ولكنه قوبل بعكس ما يريد، وأن هذه محمدة وليست مذمة؛ لأن شريعتنا كاملة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بين لنا كل شيء، وهذا هو شأنه, وهذه مهمته صلى الله عليه وسلم ووظيفته ووظيفة الأنبياء من قبله، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم شر ما يعلمه لهم )، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين آداب قضاء الحاجة.
( أجل! نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول )، يعني: أننا إذا جلسنا لقضاء الحاجة لا نتجه إلى الكعبة، وهذا من آداب قضاء الحاجة.
( أو نستنجي بأيماننا )؛ أي: أن ننزه اليمين عن أن تتعرض للنجاسات، وإنما نخص الشمال بذلك، فنجعل الشمال هي التي تتولى هذه المهمة، ولا نستنجي باليمين، وهذا من آداب قضاء الحاجة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم.
( أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار )؛ لكي يكون هناك شيئان: الإنقاء -وهو: التنظيف , والتطهير, والتطييب- والإيتار؛ لأن الثلاثة وتر، ومن المعلوم أن الحجر الواحد وتر، لكن ذكرت الثلاثة الأحجار ليحصل مع الإيتار الإنقاء؛ وهو حصول التطهير والتنظيف.
قوله: [ أخبرنا
إسحاق بن إبراهيم ].
إسحاق بن إبراهيم هو: ابن راهويه عند المحدثين، وابن راهويه عند أئمة اللغة يعبرون براهويه, يقولون: إنه مختوم بـ(ويه)، يعني: الأسماء المختومة بـ(ويه)، كـ(نفطويه), (سيبويه), (راهويه)، أما المحدثون فإنهم ينطقون بها على أنها راهويه.
و إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قد ذكرت فيما مضى فائدة تتعلق به ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ويستدلون بها على تمييزه عمن يشابهه في الاسم، فالمعروف عن ابن راهويه أنه يقول: أخبرنا، ولا يستعمل حدثنا، وقد استعمل حدثنا لكنها بندرة، ويماثله في هذه الطريقة النسائي الذي معنا، فكل ما عندنا (أخبرنا).
وبعض العلماء يفرقون بين حدثنا وأخبرنا؛ فيجعلون (حدثنا) فيما سمع من لفظ الشيخ عندما يقرأ وهم يسمعون، فعند التعبير يقول: حدثنا، أما إذا كان الشيخ يسمع وواحد يقرأ فالسامعون عندما يتحملون عنه وعندما يروون عنه يقولون: أخبرنا، ومن العلماء من لا يفرق بينهما؛ مثل: النسائي , وابن راهويه، فهم يستعملون أخبرنا فيما سمعه وفيما قرئ على شيخه وهو يسمع.
وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه خرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه ، فهو شيخ لأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. فأصحاب الكتب الخمسة: الشيخان البخاري ومسلم، وأبو داود, والترمذي، والنسائي كلهم رووا عنه مباشرة، فهو شيخ للخمسة، أما ابن ماجه فلم يرو عنه شيئاً ولم يخرج له شيئاً، وهو ثقة, حافظ, كما عرفنا ذلك فيما مضى.
[ أخبرنا أبو معاوية ].
أبو معاوية هذا سبق أن مر ذكره، وقلنا: إنه مشهور باسمه ومشهور بكنيته؛ ولكن كنيته أكثر، واسمه محمد بن خازم -بالخاء المعجمة والزاي- الضرير, وهو من رجال أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الأعمش ].
الأعمش، هو سليمان بن مهران، والأعمش لقبه، وهو مشهور بلقبه، وتأتي الرواية عنه باسمه، كما تأتي الرواية بلقبه، فيقال: سليمان بن مهران، ويقال: سليمان فقط، ويقال: الأعمش؛ ولكن بكلمة الأعمش لا يلتبس بغيره، وهو من رجال الجماعة, وهو ثقة.
[ عن إبراهيم ].
إبراهيم أيضاً سبق أن مر بنا، وهو: ابن يزيد بن قيس بن أسود النخعي، وهو محدث, فقيه، وسبق أن ذكرت لكم فائدة معروفة مشهورة بالإضافة إليه، وقيل: إنها من أولياته، فهو أول من عرف عنه في الإسلام أنه عبر بهذه العبارة، قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد، قال: وأول من عرف عنه في الإسلام أنه عبر بهذه العبارة فقال: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه) إبراهيم النخعي، وعنه تلقاها الفقهاء من بعده، فصاروا يتداولونها ويعبرون بها.
وما لا نفس له مثل الذباب, والجراد, وهذه الحشرات, التي ليس فيها دم، و(ما لا نفس)، يعني: ليس له دم، فهذه كلمة مشهورة عن إبراهيم النخعي، وهو من رجال الجماعة، وهو ثقة, حافظ, فقيه.
[ عن عبد الرحمن بن يزيد ].
سبق أن مر بنا أن إبراهيم النخعي يروي عن الأسود بن يزيد، وهنا يروي عن عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن بن يزيد أخو الأسود بن يزيد، وهما خالان له؛ لأنه يروي عن خاليه: الأسود , وعبد الرحمن ابني يزيد بن قيس النخعيين.
وسبق أن مر بنا روايته عن خاله الأسود , وهنا يروي عن خاله عبد الرحمن بن يزيد، فهما أخوان يروي عنهما ابن أختهما إبراهيم بن يزيد النخعي.
وعبد الرحمن بن يزيد ثقة، خرج حديثه الجماعة مثل أخيه الأسود بن يزيد، كل منهما من رجال الجماعة، وكل منهما من الثقات الحفاظ.
[ عن سلمان ].
سلمان هو: الفارسي رضي الله عنه، وقد أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الخندق بحفر الخندق، وحديثه في الكتب الستة، وله في الكتب الستة ستون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة، وانفرد البخاري بواحد ومسلم بثلاثة.