الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: بين كل أذانين صلاة.
عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بين كل أذانين صلاة -قالها ثلاثاً- قال فى الثالثة: لمن شاء )].
الحديث متفق عليه.
وقد استدل بهذا الحديث الشافعي وهي رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله: على أن الصلاة بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الفجر لا بأس بها، استدلالاً بحديث عبد الله بن المغفل : ( بين كل أذانين صلاة )، وصلاة نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وأما النكرة في سياق النفي فتفيد العموم، وقالوا: إنه لم يثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه المنع من الصلاة، وإنما هو فعله، وفعله وهو الترك يدل على الاستحباب والجواز؛ لحديث عبد الله بن المغفل وحديث عمرو بن عبسة كما عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل، فصل فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح )، وأما حديث ( إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا سجدتي الفجر )، فهذا جاء من حديث ابن عمر ومن حديث عائشة ، ولا يصح في الباب حديث بالمنع، وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم جواز الصلاة من غير استحباب.
عن عبد الله بن شقيق قال: ( سألت
هذا الحديث رواه مسلم.
وقول عائشة رضي الله عنها: ( وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدًا ركع وسجد وهو قاعد ) فهذا يفيد أنه على حسب حاله، والله أعلم.
عن زيد بن ثابت قال: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرةً بخصفة أو حصير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، قال: فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ) وفي رواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرةً في المسجد من حصير ) ].
الحديث متفق عليه.
لكن في البخاري نص صريح أن ذلك في رمضان.
هذا الحديث فيه فائدة وهي أن العالم يجب أن يكون حليماً مع أهل الخير، فإن أهل الخير أحياناً يشددون على أنفسهم، ويرغبون في الخير ويبالغون فيه، فلربما تصرف تصرفات ليس فيها من الحكمة، حيث إن بعض الصحابة وليسوا من كبارهم بدءوا يحصبون الباب، ويضربون الباب، يريدون أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فكان صلى الله عليه وسلم يتأبى خوفاً من أن تفرض، وكان صلى الله عليه وسلم معهم حليماً؛ ولهذا ينبغي للعالم والداعية أن يترفق بمتبوعيه أكثر من ترفقه بغيرهم، إلا إذا كانوا من أشداء متابعيه وأشداء أهل الخير فإنه لا حرج أن يغلظ عليهم، كما أغلظ على معاذ بن جبل وغيره، والمشاهد من بعض الدعاة أنهم يبالغون في النقد على مريد الخير والراغب فيه، وإن أخطئوا فينبغي أن يكون ذلك همساً لا رفعاً وعلواً.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهو يفيد أن صلاة المرء في بيته فيها فضيلة كبيرة، ولا ينبغي للإنسان أن يجعل سننه في المسجد بل يجعل سننه في البيت، وإذا كان يقول: أنا لو لم أتسنن وأسبح بعد الصلاة فأنا قدوة، فلربما رآني الناس أخرج فيظنون أني لا أصلي، فنقول: لا حرج وهذا حسن منك، فتصلي تطوعاً من التطوعات المطلقة، وتجعل السنة الراتبة في البيت. فبهذا تجمع بين خيري الخيرين.
فإن كان يخاف أن ينسى فالأولى به أن يكون حازماً مع نفسه فيصلي، لكن لو أن شخصاً قال: أنا أريد أن أصلي في البيت وقادر، فنقول: صل هذا التطوع المطلق، فإذا رجعت إلى بيتك صل السنة الراتبة، فإذا كنت تقول هذه فروض نفسك، فإذا وصلت بيتك ونسيت فعاهد نفسك أن تصلي في المسجد.
وأما ما جاء عند الإمام أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أخذ ناحية من المسجد فلم يزل يصلي حتى أذن العشاء ) فهذا يفيد على أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يصليها في المسجد، وهذا الحديث إسناده جيد، والله أعلم.
وقد ذهب الحسن البصري وغيره إلى تفسير قوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل:6] قال: هي الصلاة ما بين المغرب والعشاء.
عن أنس رضي الله عنه قال: ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لـ
هذا الحديث متفق عليه.
الحديث يفيد أن الإنسان لا ينبغي له أن يشدد على نفسه، فإنه يكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ليصل أحدكم نشاطه ).
ومن المسائل: أن الإنسان ينبغي له أن يعرف نفسه، فيكون فقيه البدن قبل فقيه الشرع؛ لأن فقه الشرع لا يتأتى إلا مع فقه البدن، فلا ينبغي له أن يشدد على نفسه ولا يشدد على الناس.
ومن جميل ما يروى في الأثر أن البراء عندما ذكر: ( أربع لا تجوز في الأضاحي. فقال له الراوي: إني أكره كسيرة القرن، قال: فما كرهته فاجعله على نفسك، ولا تجعله عذاباً على الناس ).
وهذا يفيد أن بعض المفتين هداهم الله إذا كانوا لا يرون شيئاً من الأشياء المستحدثة ويجدون غضاضة، وليس عندهم شيء يحرمه، فيقول: لا يمنعون، لكن ينبغي له أن يقول: إن نفسي تعافه، إن نفسي تكرهه، وليس فيه ما يدل على المنع، فهذا أفضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب: ( إني أجد نفسي تعافه، وليس هو بأرض قومي ) فينبغي أن يفرق بين كراهية نفسه لما تربى عليه، وكراهيته لما فقهه من الشرع. والله أعلم.
عن علقمة قال: ( سألت أم المؤمنين
هذا الحديث متفق عليه.
قد أخذ من هذا الحديث بعض العلماء فائدة وهي أن المداومة على الطاعة وإن قلت أفضل من العبادة الكثيرة المتقطعة؛ ولهذا كان عمله ديمة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اختص على هذه الأمة أنه ما من عمل يعمله إلا يداوم عليه، ( وكان إذا صلى صلاة أثبتها )، يعني: داوم عليها، فلما صلى بعد العصر ركعتين كان قد شغل عنها بعد الظهر أثبتها، فكان ذلك من خصوصياته.
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ( أخبرته أن
الحديث متفق عليه.
والغريب أن الإنسان يجاهد نفسه على أعمال الجوارح ولا يجاهد نفسه على أعمال القلب، من ترك الغل وترك الحسد وترك البغضاء وعفة اللسان ومحاولة تطهير القلب من الغل والحقد والحسد، عليه أن يجاهد نفسه في ذلك، ولقد ذكر ابن حزم في مداواة النفوس وهو كتاب عظيم في بابه أنه ربما جاهد نفسه فكان رقيد الفراش من شدة المجاهدة! وهذا الذي ينبغي أن يكون.
اختلف أهل العلم في هذا، فبعضهم قال: تمر كما جاءت، وهذا ليس صحيحاً بأن يقال: تمر كما جاءت، وإنما تمر كما جاءت عند العوام الذين لا يعرفون، أو عند الذي لا يدرك، فإنه من المعلوم أن من عقائد السلف أن بعض الآيات المتشابهة التي لا يفهم أنها من الصفات أم لا في حقه سبحانه وتعالى؟ يقال: أمروها كما جاءت، كما نقل عن الثوري و سفيان ، وأما أهل العلم فإنهم يعلمون، فليس ثمة في الصفات شيء متشابه، وإنما المتشابه هو الذي لا يعلم تأويله إلا الله، ولهذا يقول الراسخون: آمنا به كل من عند الله، وأننا لا نكيف شيئاً لم نره ولم يدركه العقل ولم يأتنا بمثال.
القول الثاني: إن ذلك من باب المقابلة، فقوله: ( فإن الله لا يسأم حتى تسأموا )، كما يقال: فإن فلاناً لا ينقطع عن حجته حتى ينقطع الخصم، فبانقطاع الخصم يقف العالم، لكنه لم تنقطع حجته، فكان ذلك من باب المقابلة، كما قالوا: في وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54].
وقال بعضهم: إن هذا على سبيل المجاز، بمعنى: أن الله لا ينقطع عن الثواب حتى تنقطعوا عن العمل، والذي يظهر والله أعلم هو المعنى الثاني، ( فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا ) يعني: لا ينقطع حتى تتوقفوا، ويكون القول الثاني من باب اللازم، والله أعلم، فليس هذا إثبات للسآمة، تعالى الله عن ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] وقال: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فالحي القيوم هو القائم على أعمال الناس لا يمل، بل هو صمد تصمد له الخلائق تبارك وتعالى وجل في علاه.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( بت ليلةً عند خالتي
هذا الحديث متفق عليه.
وفيه مسائل:
وأما الجمهور: فإنهم يرون عدم الصحة إذا وجد مكان عن اليمين.
والقول الثالث في المسألة: هو اختيار أبي العباس بن تيمية ورواية عند الإمام أحمد : أن الصلاة عن يسار الإمام لا تصح إلا مع الحاجة، مثل أن يكون ضيق وحرج فيصح، وأما مع العدم فلا تصح، وأما الجمهور فلا يرون الصحة مطلقاً.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر و العراقي في طرح التثريب: إجماع العلماء على أن الصلاة أكثر من إحدى عشرة ركعة من الليل جائزة، خلافاً للشيخ الألباني رحمه الله، والله أعلم.
وذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن مذهب جمهور الفقهاء على أن صلاة التراويح ثلاثاً وعشرين ركعة أفضل.
إذاً الذي في مسلم : ( وكان في دعائه )، وهناك رواية ذكرها مسلم من باب المتابعة، ولم يذكرها على أنها أصل، فكأن مسلماً يريد أن يبين أمراً فتابع في ذلك، ودائماً قاعدة المتابعات عند مسلم لا تؤخذ بكل ألفاظها، وإنما تؤخذ بما وافقت الأصل، والله أعلم.
وهذا الدعاء كان يقوله من الليل، سواء كان في الصلاة أو يقوله بعد الصلاة.
ومعنى: ( ولم يتوضأ ) أي: لم يبالغ مثل وضوئه، يسبغ الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، إنما كان مرة مرة.
قال المؤلف: [ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ) ].
هذا رواه مسلم.
هذا الحديث يفيد أن هذا ليس من العدد في صلاة الليل، ولهذا أم المؤمنين ذكرت صلاة ركعتين خفيفتين، ثم قالت: ( يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن ولا طولهن )، فلم تذكر هذه الركعتين من الإحدى عشرة ركعة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق والنار حق والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وقد استدل به بعض أهل العلم على أن هذا من دعاء الاستفتاح. وقال بعضهم: إن هذا ليس من دعاء الاستفتاح، وإنما هو: إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهض للصلاة يدعو، فكأن هذا نوع من طلب الإعانة والتوفيق، والذي يظهر والله أعلم أنه يقوله إذا كبر.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها ) ].
قوله: ( يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها )، هذا الحديث يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن أم المؤمنين، وقد تكلم الحفاظ على هذه الرواية، وقد أنكرها الأثرم تلميذ الإمام أحمد ، ورأى أنها شاذة كما ذكر ذلك محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل.
والحقيقة إنما ضعفها لأنها خلاف المشهور، من أنه كان يصلي ركعتين ركعتين، فإذا خشي أحدكم من الصبح صلى ركعة واحدة، وأنا حقيقة يشكل علي هذا، لكني أقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث عن سعد بن هشام عن عائشة : ( أنه كان صلى الله عليه وسلم يوتر أكثر من واحدة ) فلربما أوتر بتسع يجلس في الثامنة ثم يقوم، وربما أوتر بسبع، وربما أوتر بواحدة، وربما أوتر بثلاث، هذا الثابت، وربما أوتر بخمس وتكلم في إسناده، وأما ما يذكره الحنابلة أنه أوتر بإحدى عشرة فلم يصح فيه حديث، والله أعلم.
وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يزيد عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما جاء في كتاب الترمذي من حديث عاصم بن ضمرة عن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من النهار يعني صلاة الضحى أربع ركعات، يصلي على الملائكة المقربين ). فقد استدل به إسحاق وغيره على أن صلاة النهار تصلى أربع ركعات بسلام واحد، وهذا الحديث فيه كلام طويل، خاصة أنه من مفاريد عاصم بن ضمرة و عاصم بن ضمرة يقبل حديثه إذا لم يأت بما ينكر، وأما زميله الحارث الأعور فإنه منكر، يعني ضعيف، والله أعلم.
وعلى هذا فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن السنة والأفضل في النهار أن يصلي ركعتين فيسلم، ركعتين فيسلم، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة وإن كان في سنده كلام: ( وكان يجلس في كل ركعتين التحية ). وعلى هذا فالأفضل أن يصلي ركعتين ركعتين.
وأما من الليل فإن الخلاف أشد، فقد ذكر بعض الحنابلة: أنه إن قام إلى ثالثة من صلاة الليل فكأنما قام إلى ثالثة من الفجر، وهذا قول شديد، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك على سبيل الأفضلية.
ومما يدل على ذلك: أن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) وفي رواية مسلم : ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين ) وهذا ليس على سبيل الوجوب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم صلى تسع ركعات بسلام واحد، وسبع ركعات بسلام واحد كما في صحيح مسلم من حديث سعد بن هشام ، فدل على أن قوله: ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ) هذا على سبيل الأفضلية، بدليل أنه ليس على عمومة لوجود الناسخ وهو حديث سعد بن هشام عن عائشة ، فهذا يدل على الاستحباب خلافاً للحنابلة، وهذا هو الرواية الصحيحة عن أحمد كما ذكرها الأثرم، والله أعلم.
ذهب أبو حنيفة إلى أن يصليها مثل صلاة المغرب، وجاء في رواية عن ابن عمر : ( ولا تشبهوها بالمغرب )، والحديث ضعيف ولكن الأفضل ألا يفعل، والأفضل أن يجعلها بتشهد واحد وسلام واحد أو سلامين، والسلامين أفضل.
وأما إذا قام ساهياً من صلاة الليل، وقلنا: إن الراجح هو أن الأفضل أن يصلي ركعتين ولو صلى أربعاً جاز، فإذا كان قد سها فالأفضل في حقه أن يجلس، فإن استمر جاز، ومنه تعلم أنه إن صلى إماماً بالناس صلاة الليل ثلاث ركعات سهواً ثم سلم، فذكر، قالوا: صليت ثلاثاً، فلا يقوم ويصلي ركعة، ولا يسجد للسهو، فإن لم يسجد للسهو وصلى بعدها ركعتين، فأخبر أنه قد صلى ثلاثاً قبلها فإنه ولا يلزمه شيء، ولكن لو سجد للسهو كما هو رأي ابن أبي موسى في كتابه (الإرشاد) وهو اختيار ابن تيمية : أن سجود السهو جبران فيسجد ولو تذكر بالأمس أنه لم يصل، يقول ابن تيمية : إن سجود السهو جبران مثل جبران الدم في الحج، وهذا القول إن فعل به حسن ولكنه ليس بظاهر والله أعلم، كما هو مذهب عامة أهل العلم على أنه إذا فصلها بفاصل طويل انقطع سجود السهو، والله أعلم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعةً واحدةً توتر له ما قد صلى ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
يقول العلماء: إن هذا خبر من باب الأمر، (صلاة الليل مثنى) يعني: من باب: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [البقرة:228] فهذا خبر بمعنى الأمر وهو أقوى، وقد جاء في رواية مسلم ما يفيد ذلك: ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين )، وكما قلت: إن ذلك على سبيل الاستحباب، والله أعلم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسًا حتى إذا كبر قرأ جالسًا، حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آيةً قام فقرأهن ثم ركع ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
استدل ابن تيمية بهذا الحديث على أن الأفضل أن يكون الركوع والسجود قائماً، وكما قلت: إن هذا يفعله في بعض أحواله، وإلا فقد ثبت في الصحيحين: ( أنه كان إذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد )، وهذا يفيد أنه يفعل ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم.
الحالة الثانية: إذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد.
الحالة الثالثة: وهو بعد ما كبر: إذا قرأ وهو قاعد حتى إذا لم يبق من السورة إلا ثلاثون أو أربعون آيةً قام، فهي ثلاثة أحوال، والله أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلةً حتى أصبح، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
معنى (حتى أصبح) يعني: حتى طلع الصبح، ومعنى: (حتى طلع الصبح) أي: نام عن صلاة الفجر حتى تعدى الإسفار، هذا هو الذي يظهر والله أعلم، وقد ذكره البخاري ، وقال بعضهم: إن هذا فيمن فاته صلاة الليل، وليس بجيد، والذي يظهر أن هذه العقوبة وهي بول الشيطان لا يكون إلا لفعل منكر وهو ترك صلاة الفجر عن وقتها، والله أعلم.
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) ].
الحديث متفق عليه.
هذا الحديث يفيد مثلما يفيد حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين.. ) الحديث.
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الإنسان إذا دعا على خلاف المشروع فلربما يستجاب عليه دعاؤه، استدلالاً بقوله: ( لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه )، واستدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الأعرابي: هل كنت تدعو دعاء؟ قال: كنت أقول: اللهم إن كنت معذبي في الآخرة فعجله لي في الدنيا ) أو ( فعذبني فيه في الدنيا ) قال: ( سبحان الله! لا تطيقه ).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا دعا على نفسه من غير شعور ومن غير علم ظاناً أن ذلك ينفعه فإن الله لا يستجيبه؛ لأن الله يعلم ما في قلب المرء، كما كان ابن عمر يصنع ذلك، ويقول: لا ينبغي للمرء أن يذكر كل ما في قلبه، لكن الذي يظهر والله أعلم أنه إذا دعا ظاناً أن ذلك ينفعه عن اجتهاده الخاطئ وألح فربما استجاب؛ لأن الله وكله إلى نفسه، وأما إذا دعا وهو غافل مثل (فيسب نفسه) فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا يستجاب؛ لأن ذلك لم يكن من قلبه، وقد قال الله تعالى: (قد فعلت) في قراءة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] وهذا منها، والله أعلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليلًا طويلًا، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) ].
الحديث متفق عليه.
هذا الحديث يدل على أن ترك ذكر الله يصيب المرء بالخمول وهذا أمر مجرب؛ ولهذا يكره نفسه، وأنت جرب، انظر إذا تركت الوتر أو تركت قراءة القرآن أو تركت الأوراد تجد أنك تعاف نفسك، وقد ذكر العلماء فائدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاتي العشي كما في الصحيحين: ( أنه قام إلى سارية من سواري المسجد كأنه غضبان )، قال بعض العلماء: لأنها قلت عبادته، فظهر ذلك في وجهه بأبي هو وأمي، إذا كان ذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم فحال غيره من باب أحرى وأخلق؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف نفسه فيكثر، يقول أحد السلف: ما زلت أرى البركة في وقتي إذا أنا زدت في حزبي، فما زلت أزيد في حزبي حتى بدأت أقرأ عشرة أجزاء كل يوم؛ لأنه قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
عن جابر رضي الله عنه: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن في الليل لساعةً لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة ) ].
هذا الحديث رواه مسلم.
وما هذه الساعة من الليل؟ هل هو أول الليل أو وسطه أو آخره؛ لأن عائشة تقول: من كل الليلة قد أوتر الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، زاد مسلم : ( من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر )، وقوله: ( فانتهى وتره إلى السحر ) من رواية مسلم.
أقول: إن الذي يظهر والله أعلم، أن الساعة هي الثلث الأخير، لما روى أبو داود من حديث عمرو بن عبسة أنه قال: ( يا رسول الله! أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير، فصل فإن الصلاة مشهودة مقبولة ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) ].
هذا الحديث متفق عليه، وأما رواية: ( حين يمضي ثلث الليل الأول ) فهي رواية منكرة، والله أعلم، وأما الرواية الصحيحة: (حين يبقى ثلث الليل الآخر )، كما ذكر ذلك ابن تيمية و ابن القيم عندما ذكرها في الصواعق المرسلة.
استدل العلماء بهذا الحديث على أن الدعاء في آخر الليل مستجاب، ومما يؤكد ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفر له، فإن قام وصلى غفر له ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أنه قال: ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا هو نام، فإذا ذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدتان، وإن صلى انحلت العقد ) وهذا يفيد أنه ينبغي للإنسان أن يوقت الساعة، حتى ولو لم يقم الليل، يوقتها من الليل، يعني قبل الفجر بعشر دقائق، فإذا انتبه قام فذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ودعا ربه ولو كان على فراشه، يعود نفسه وهي سهلة ميسورة.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر