واستدل المالكية ورواية عند الإمام أحمد على أن الإتمام وإن كان جائزاً إلا أنه مكروه؛ وذلك لأنه خالف المأمور، وأقل مخالفة المأمور الوقوع في غير المستحب. وهل يلزم من الوقوع في غير المستحب الوقوع في المكروه؟ هذه مسألة أصولية، الذي يظهر: أنه لا يلزم، لكن دوام فعله صلى الله عليه وسلم مع أمره بالقصر دلالة على أن ترك القصر مكروه، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس ، وجاء نحوه عن عمر .
هذا الحديث استدل به الحنفية و ابن حزم على وجوب القصر؛ لأن الله فرض الصلاة في الحضر أربعاً، فإذا كان لا يجوز للإنسان في الحضر أن يزيد أو ينقص عن أربع، فكذلك في السفر لا يجوز له أن يزيد أو أن ينقص عن ركعتين، بل ذهب ابن حزم إلى أبعد من الحنفية، فقال: لو صلى المسافر خلف مقيم وجب أن يقصر، وأما أبو حنيفة فإنه ذهب إلى ما ذهب إليه الجمهور من أن المسافر يتم متابعة لإمامه؛ لقوله: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا... ) الحديث.
وأما مناقشة الجمهور لهذا الحديث فإنهم قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فرض الله الصلاة على لسان نبيه )، يعني: أن الفرض يطلق على التشريع، ولا يلزم من التشريع الوجوب، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( فرض الله الصلاة على لسان نبيه ) يعني: شرع، والتشريع هو بيان مشروعية الحكم أو الفعل في الجملة، وأما أن يكون واجباً من عدمه فهذه مسألة أخرى، بدليل أنه قال: ( وفي الخوف ركعة )، مع العلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف أكثر من ذلك، بل لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في السنة الثابتة الصحيحة أنه صلى أقل من ركعتين، وإنما التخفيف في الخوف هو تخفيف أركان لا تخفيف أعداد، وتخفيف الأركان، يعني: أن يترك الطمأنينة، وأن يترك الركوع، كما قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، وعلى هذا فكما أنه لا يسوغ أن يصلي في الخوف ركعة، فكذلك يجوز أن يتم في القصر في السفر.
وذلك لما ثبت في جامع الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أنه قال: ( إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، وعن الحامل والمرضع )، وجه الدلالة: أنه لا يصح أن تصلى الصلاة إلا إتماماً إلا إذا كان في ذلك سفر، وما عدا الأمرين فلا يسوغ القصر، والله أعلم.
والجمهور -كما قلنا- يقولون: الصلاة ركعة باعتبار الجماعة؛ فهؤلاء يصلون ركعة مع الإمام، ثم يرجعون فيصلون ركعة لوحدهم، فليس المقصود أن يصلوا ركعة فقط، فلم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف -التي قيل: إنها خمس- أنه صلى ركعة واحدة، فمعنى صلى صلاة الخوف ركعة على اعتبار أمرين: على اعتبار الجماعة، وعلى اعتبار أنه لا يركع، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] هذا الاعتبار، وأما أن يصلي ركعة واحدة فهذا لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، والله أعلم.
وبعضهم يقولون: إذا كان مسافراً وصلى صلاة الخوف فتكون الركعتين بمثابة ركعة واحدة؛ لأن الأربع في السفر تكون ركعتين، والركعتان في الخوف تكون ركعة، فتكون إذا كان في الخوف وهو مقيم ركعتين، وهذا بعيد.
عن أنس بن مالك قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وفيه مسائل:
والصحيح: أنه إذا فارق عامر قريته، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والسلف؛ لحديث أبي بصرة الغفاري : ( حينما ركب من الفسطاط فلما لم يجاوز البيوت -وفي رواية: وهم يرون البيوت- فقال: هلم إلى الغداة وقال: كل، قال: أولست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم )، والحديث رواه الإمام أحمد و الدارقطني، وإسناده جيد.
الراجح والله أعلم: هو مذهب السلف والخلف خلافاً للمذهب عند الحنابلة، وهو أنه يجوز أن يقصر ولو أدرك جزءًا من الوقت وهو مقيم، بمعنى: أذن الظهر وهو في البلد ثم سافر، فإنه إذا أداها بعد أن فارق عامر قريته فله أن يقصر؛ وذلك لأن أنساً يقول: ( صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين )، وليس فيه ما يدل على أنه خرج بعد الظهر أو خرج بعد العصر، أدرك الوقت أو لم يدرك، فترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
أما إذا كان العكس بأن دخل عليه الوقت وهو مسافر ثم أقام فإنه يأثم إن قصر؛ لأن الحنابلة يبالغون في الوقت، يقولون: أدرك مقيماً، والجمهور يقولون: العبرة بحال أداء العبادة، فيؤديها متماً.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشراً ). وفي رواية: ( خرجنا من المدينة إلى الحج ) ].
هذا الحديث متفق عليه، لكن قوله: وفي رواية: ( خرجنا من المدينة إلى الحج ) هذه رواها مسلم.
وقد استدل به العلماء على مسائل:
وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك، وذهب ابن المنذر و إسحاق إلى أنه يقصر ما لم يبلغ تسعة عشر يوماً؛ لقول ابن عباس : ( أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين ) قالوا: ولم يحفظ أنه جلس أكثر من ذلك، وهذا قول ابن المنذر و إسحاق وقواه ابن رشد في بداية المجتهد، وهذا القول له وجه على اعتبار أن الأصل في الصلاة الإتمام، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قصر أكثر من ذلك، فنبقى على الأصل، وعندي أن هذا القول أقوى من قول من قال: أربعة أيام، وأقوى مما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : ( أنه كان يقصر الصلاة ما لم يجمع إقامة ) وهذا اختيار ابن تيمية ، ومعنى (يجمع إقامة) يعني: يعمل عملاً، وحال المقيم بأن يؤثث بيته، أو أن يعمل مثل ما يعمله المقيم، مثل أن يكون طالباً يدرس، أو موظفاً يعمل وعمله عمل المقيم، أما الانتداب فهذا ليس عمله إنما عمل مقيم، إنما هو كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام فتركها، وهذا غير، أما الذي يتوظف أو يدرس فهذا حاله حال المقيم، فإنه يكون قد أجمع إقامة، فحينئذٍ يجب عليه الإتمام، والله أعلم.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب الحنابلة والشافعية: إن المكي يتم صلاته في مكة وفي منى وفي عرفة وفي مزدلفة؛ لأنه لم يسافر فلم يقصر الصلاة؛ وذلك لأن القصر لا تكون إلا في السفر وليس هو مسافر، وذلك لحديث أنس بن مالك الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم )، فدل على أن غير المسافر لا تشطر صلاته.
الدليل الثاني: أن أبا العباس بن تيمية إنما جوز للمكي أن يقصر؛ لأنه يراه مسافراً، فلو افترضنا أن ذلك كان في عهده فاليوم أصبحت منى حياً من أحياء مكة، فإن القول بأنه مسافر لا يصح، ثم إن الذين يذهبون اليوم إلى عرفة لا يحملون الزاد والراحلة، فعلى رأي ابن تيمية يجب الإتمام، والذين يذهبون إلى مزدلفة لا يحملون الزاد والراحلة، والذين يذهبون إلى منى لا يحملون الزاد والراحلة، فيلزم على ذلك حتى على رأي ابن تيمية أن يتم المكي، إلا إذا كان من أهل جدة فهذا شأن آخر، والذي يظهر والله أعلم أن المكي يتم الصلاة.
وأما من قال: يقصر للنسك فهذا يلزمه أن يقول: إن المكي من حين أن يشرع في الإحرام يقصر ولو في بيته، أقول: ولا قائل به كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر و
هذا الحديث رواه البخاري و مسلم دون قوله: (قال حفص ، يعني: ابن عاصم ) فإن هذا من رواية مسلم.
واستدل أبو العباس بن تيمية بهذا الحديث على أن السنة في السفر ترك السنن الرواتب.
إذاً: السنة الترك.
وذهب الحنابلة إلى أن السنن الرواتب من شاء ترك ومن شاء فعل، وهذا هو مذهب مالك ، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر : أن هذا هو مذهب جمهور السلف؛ أنه إن شاء صلى وإن شاء ترك.
وذهب أبو حنيفة و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد : أنه يسن له أن يصلي السنن الرواتب.
أقول: إن قول مالك و أحمد قول قوي، وأما قول أبي العباس بن تيمية فالحقيقة أني لم أجد له سلفاً، إلا قول ابن عمر وليس ظاهراً، يعني: أن السنة الترك، هذا والله لم أجده؛ لأن المعروف عن الصحابة أنهم كانوا يتطوعون في السفر، وإذا قلنا: السنة الترك فإن السنة ألا تصلي، وهذا فيه ما فيه.
ثم اعلم رعاك ربي أننا لو قلنا: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل إنما هو في السنن الرواتب خاصة ما عدا الفجر، وأما ما عدا ذلك من التطوعات فإنها مشروعة في الحضر والسفر، ومن ذلك: سنة الفجر، وسنة الضحى، وصلاة الليل، وبين كل أذانين صلاة، والصلاة ما بين المغرب والعشاء؛ لما روى حذيفة قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، قال: ثم أخذ ناحية من المسجد فلم يزل يصلي حتى أذن العشاء )، وهذا يدل على أنه يستحب أن يحيي ما بين المغرب والعشاء كما هو مذهب الحنابلة، وذكر ابن قدامة في المغني تفسير قوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [السجدة:16] قال الحسن : هو الصلاة ما بين المغرب والعشاء.
وعليه: فإن ابن عمر الذي قال روى أبو داود ( أنه كان يصلي بعد الجمعة ست ركعات إذا كان بمكة )، وهذا يدل على أنه لا يترك التطوع مطلقاً خلافاً لما يفعله الآن بعض طلبة العلم، وبعض الناس تجد أنهم إذا سافر أحدهم لا يصلي إلا الفرائض، وهذا خلاف المشروع، والله أعلم.
قول أحمد و مالك هو قول الجمهور الثلاث صح، يقول: إن شاء صلى وإن شاء ترك، يعني: أنه لا يؤمر بالسنن الرواتب في الإقامة، لكنه مأمور في الجملة، هذا القصد، يعني: أنه مشروع، لكن لا يعاتب على الترك مثلما يعاتب في السنن الرواتب، وإلا فلو صلى فإنها محمدة والله أعلم.
وأما من قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يتطوع فهذا بعيد بعيد بعيد، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم من حرصه على الصلاة: ( كان إذا سافر يصلي على راحلته ) كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وكما رواه أهل السنن من حديث أنس ، فإذا كان يصلي على راحلته فيبعد أن يبقى في مكة أو في غيرها لا يصلي، ومما يدل على ذلك أنه كان يتطوع ثمان ركعات كما في فتح مكة، كما في حديث أم هانئ ، والله أعلم.
فإذا قلت: لم يصل السنن الرواتب فالسنة أنه بعد الفريضة لا يصلي، والواقع أن له أن يصلي، سماها راتبة أو لم يسمها، فإن المشروع أن يصلي الإنسان بعد الفرض، وبعد الأذان مشروع للإنسان يصلي، أما إذا قلنا بهذا فإن معنى ذلك أن السنة ألا يصلي بعد الفرض، وهذا خلاف المشروع، إذا قلت: السنة ألا يصلي سواء كان راتبة أم غيرها فهذا محل نظر.
ابن تيمية المحفوظ عنه أنه يرى أن السنة الترك، وهذا رأي الشيخ محمد بن عثيمين ، وهذا العمل السائد عند أكثر طلبة العلم، أما الفعل فقد نقل أبو عمر بن عبد البر : أنه مشروع للإنسان أن يصلي، وإن ترك فجائز؛ لكن الترك هنا لا يعاتب مثلما يعاتب على الترك في السنن الرواتب، أما أبو حنيفة و الشافعي فيقولون: يعاتب، هذا الفرق.
عن أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق ) ].
هذا الحديث رواه مسلم وروى البخاري بعضه.
هذا الحديث يفيد أنه إذا جد به السير فإنه يجمع جمع تأخير، وأما إن أدرك الزوال صلى الظهر ثم ركب.
واستدل العلماء بهذا الحديث على أنه لا يشرع الجمع للمسافر الذي أقام، وإنما الجمع لمن جد به السفر أي: لمن كان يمشي، وأما الذي يبقى فإن الواجب في حقه أن يصلي الصلوات بأوقاتها، وهذا مذهب مالك وهو مذهب أبي حنيفة.
وذهب أحمد و الشافعي وهو قول عند بعض المالكية: إلى أنه يجوز للمسافر الذي مكث أن يصلي الظهر والعصر جمعاً، والمغرب والعشاء جمعاً، إلا أن الأفضل أن يصلي الصلاة بأوقاتها، وأحسن ما يستدل به على الجواز هو فعله صلى الله عليه وسلم بعرفة وبمزدلفة، ولا يصح حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث فجمع، وأما حديث معاذ الذي رواه مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك جمع الظهر والعصر ثم دخل، ثم صلى المغرب والعشاء ثم دخل ) فهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ، فأشار البخاري و أحمد و النسائي وغيرهم إلى ضعف هذا الحديث، والله أعلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر ). وفي حديث وكيع قال: قلت لـابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته. وفي حديث أبي معاوية : قيل لـابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته ].
هذا الحديث رواه مسلم ، وهذا الحديث يرويه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقد تكلم العلماء رحمهم الله: أنه جاء في رواية: ( من غير خوف ولا مطر ) وفي رواية: ( من غير خوف ولا سفر ) فـحبيب بن أبي ثابت يروي: ( من غير خوف ولا مطر )، و محمد بن مسلم بن تدرس المكي المعروف بـأبي الزبير المكي يروي: ( من غير خوف ولا سفر )، وقد رجح البيهقي رحمه الله رواية: ( سفر )، وخطأ حبيب بن أبي ثابت .
وبعضهم يصحح رواية حبيب؛ لأنه قوله سفر وهو بالمدينة لا معنى له، ( من غير خوف ولا سفر )، وهو في المدينة لا معنى له فيرجح هذا بالمعنى.
والبخاري روى الحديث بمعناه، وقد رواه البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثمانياً وسبعاً ) ثمانياً يعني: الظهر والعصر، وسبعاً المغرب والعشاء، إذن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع في الإقامة؛ أي: وهو مقيم، أما في السفر فإنه لم يحفظ عنه إلا في ما جد به السير كما مر معنا.
وهذه المسألة مسألة طويلة، الخلاف فيها كثير، بل بعضهم رأى أنه لا يعمل بهذا الحديث على إطلاقه، وأحسن ما يقال في هذا الحديث أن يقال: أنه إذا وقع الناس في حرج وضيق لوجود حاجة أنه يجوز أن يجمعوا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بشرط عدم الاعتياد، وهذا رواية عند الإمام أحمد وهو مذهب محمد بن سيرين و أبي علي بن أبي هريرة و القسام من الشافعية و الخطابي وكأن النووي قواه، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية : أنه إذا احتاج الإنسان وشق عليه ترك الجمع في الحضر أنه يجوز له بشرط عدم الاعتياد.
ومثل هذا الطلاب الآن الذين يدخلون في الامتحان الساعة الثالثة قبل الأذان، وقد لا يخرجون إلا عند اصفرار الشمس في العصر أو بعد غروب الشمس، فحينئذٍ يجوز لهم أن يجمعوا الظهر والعصر؛ لأنه ليست فترة مستمرة، ومثل ذلك ما قاله ابن تيمية: الخباز الذي يشعل النار فربما خسر بإشعال النار فيبدأ يخبز وربما خرج عليه الوقت فيصلي جمع تقديم لأجل ألا يضيع ماله سدى، وفي الماضي لم يكن مثلنا قاز أو غاز ما عندهم إلا الحطب إذا قام خلاص، فهذا القول قول قوي.
وأوسع المذاهب في الجمع هم الحنابلة، والحنابلة لا يرون الجمع من باب الصفة ولكنهم يرونه من باب العدد، ثم بعد ذلك الشافعية ثم بعد ذلك المالكية ثم الحنفية، فالحنفية لا يرون الجمع إلا الجمع الصوري، وأما مالك فيرى الجمع لكنه ضيق فيه، فيرى الجمع في المطر، ويرى الجمع في السفر، ويرى الجمع في عرفة ومزدلفة ومنى، ويرى الجمع في المستحاضة، لكنه لا يرى الجمع في المرض، وعلى هذا فلا يرى الجمع أيضاً في البرد الشديد، ولا في الريح الشديدة، لكنه يرى الوحل قريباً من المطر، والله أعلم.
أما الحنابلة فيرون الأعذار ثمانية تقريباً أو تسعة، أما ابن تيمية فيقول: العبرة بأن الأعذار موصوفة وليست محصورة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: العبرة بالبنيان وليست الحوائط والبساتين، والعبرة بالبنيان وليست العمارات، يعني: لو أنا خرجنا الآن مسافرين عن طريق المطار، وحاجزين بوردينج وكل شيء فلا نقول: إن المطار فيه مدارس، المطار مستقل، ما يقال: إن المطار متعلق بالرياض، هذه أمور مجتمع مدني تغير عن حياة الصحابة، العبرة بالبنيان، مسألة أنه يوجد مدرسة هناك وأن أناساً يدرسون عيالهم هناك، هذا بعيد؛ لكن بين المطار وبين الرياض تفاوت فلا عبرة.
على كل حال، في المدن الكبرى الأمر مختلف، مثل بومباي أكبر مدينة من مدن الهند، هم المدينة عندهم مثل الولاية، ومثل ساو باولو في البرازيل من أكبر مدن العالم، ساو باولو، بومباي، هذه مدن نحن نسميها إقليماً، مثل: منطقة الرياض غير مدينة الرياض، وهم لضيقها متواصلة ليس عندهم مثلنا، يعني: بعض مدن أوربا تخرج من دولة إلى دولة والبنيان متصل، من دولة إلى دولة ليس من مدينة إلى مدينة، أنا ما ذهبت لكن الإخوة يقولون: وأنت ماشي من دولة إلى أخرى تجد بوابة وتدخل مدينة ثانية على طول، دولة ثانية، هذا لا عبرة، العبرة في أمرين: أن تكون هي دولة أو مدينة، واتصلت فيها الصفوف، أما المنطقة مثل بومباي فهذه غير.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر