إسلام ويب

بلوغ المرام - كتاب الطهارة [2]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تباينت آراء العلماء في الحكم على حديث القلتين، والصحيح أنه حسن، وقد اختلف أهل العلم في الحكم على الماء إذا وردت عليه نجاسة، فجماهير أهل العلم على أن الماء لا ينجس إذا كان قلتين إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، أما إذا كان الماء دون القلتين فإنه ينجس وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة عليه يكون نجساً، ولا عبرة بقلة الماء أو كثرته.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا مطروداً.

    وصلنا إلى الحديث الخامس أو الحديث الرابع على حسب اختلاف ترتيبات طبعات كتاب الحافظ ابن حجر ، وقد وصلنا إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

    قال الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام: [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي لفظ: ( لم ينجس )، أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة و الحاكم و ابن حبان .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )، أخرجه مسلم .

    و للبخاري : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ).

    ولـمسلم : ( منه ).

    ولـأبي داود : ( ولا يغتسل فيه من الجنابة ) ].

    الحديث الأول: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، والكلام على هذا الحديث من وجوه:

    تخريج حديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)

    الوجه الأول: من حيث تخريجه، فقد ذكر المؤلف أن الأربعة أخرجوه وهم: أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وكذلك أخرجه ابن خزيمة في مصنفه، و ابن حبان و ابن الجارود في المنتقى.

    ومن المعلوم أن هذه الثلاثة الكتب غلب على فعل أصحابها أنهم لا يروون هذه الأحاديث إلا إذا كانت قد صحت عندهم، خاصة ابن الجارود و ابن خزيمة و ابن حبان ، وإن كان بعض أهل العلم اشترط في بعض كتبه ولكنه ربما ذكر بعض الألفاظ الضعيفة.

    وعلى هذا: فإذا روى ابن الجارود في المنتقى، أو روى ابن حبان في صحيحه، أو روى ابن خزيمة فقل: إن الحديث صححه ابن خزيمة و ابن حبان و ابن الجارود .

    وهذا الحديث روي من طرق كله عن حماد بن أسامة ، عن الوليد بن كثير المخزومي ، واختلف على الوليد بن كثير من أربعة طرق:

    الطريق الأول: رواها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي يسمى المكبر، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه .

    الطريق الثاني: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه النسائي رحمه الله، وتابع الوليد بن كثير في هذا الإسناد محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث صاحب المغازي، فقد رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

    الطريق الثالث: يرويها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره.

    الطريق الرابع: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير المخزومي عن محمد بن عباد عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.

    هذه أربعة طرق، فتلاحظ أن الوليد بن كثير رواه مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر ، وهذان الطريقان مرة يقول الواحد فيهما: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومرة يقول: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فحصل أربعة طرق، وهذا الاختلاف في الروايات عند أهل العلم جعلتهم يختلفون في هذا الحديث المشهور: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، ولأجل هذا الاختلاف الكبير وجدنا كلام أهل العلم في هذا الحديث، حتى إن بعضهم صنف في ذلك مصنفاً كاملاً لهذا الحديث من حيث الكلام على أسانيده، ومن حيث الكلام على فقهه وألفاظه.

    درجة حديث: (إذا كان الماء قلتين) وطرقه

    الكلام على هذا الحديث من حيث كلام أهل العلم نقول: اختلف العلماء في هذا الحديث، فبعضهم صححه، وهذه هي طريقة أكثر أئمة الحديث، وأكثر أهل الحديث وأصحاب فرسانه، فقد صححه الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، و أبو عبيد القاسم بن سلام ، و البيهقي ، و الدارقطني ، و أبو داود ، و أبو حاتم ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان ، وكثير من أهل العلم، و الخطابي حتى قال: كفى شاهداً في صحة هذا الحديث أن أئمة الشأن -يعني أهل الحديث المشهورين، ونجوم الأرض- صححوا هذا الحديث.

    إلا أن الذين صححوه اختلفوا، فبعضهم صحح كل الطرق الأربعة التي ذكرناها وقالوا: إن الوليد بن كثير من رجال البخاري و مسلم ، وهو ثقة، وقد حفظ حماد بن أسامة عن الوليد كل هذه الطرق، ولأجل هذا صحح كل الطرق الأربعة، وهذه طريقة البيهقي في خلافياته.

    وبعض أهل العلم صحح بعض الطرق، فـأبو داود رحمه الله كما في سننه صحح رواية حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر ، ورجح هذه الرواية، وضعف ما سواها، وبالمقابل: جاء أبو حاتم الرازي في علله، وكذا ابن مندة ، فصححا رواية الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ورجحوا هذه الرواية. وبعض أهل العلم رجح الطريقين، وهما:

    الطريق الأول: الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الطريق رجحه أبو داود .

    الطريق الثاني: الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا رجحه أبو حاتم .

    ثم جاء الدارقطني وقال كما في علله: ثم وجدنا شعيب بن أيوب رواه عن حماد بن أسامة ، عن الوليد بن كثير قال: حدثنا محمد بن عباد بن جعفر و محمد بن جعفر بن الزبير ، كلاهما عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فيكون شعيب بن أيوب -وكان من الثقات- روى عن حماد بن أسامة قبل أن يتغير من كلا الطريقين، قال: فعلمنا أن الوليد بن كثير و أن حماد بن أسامة روياه من طريقين، فيكون الدارقطني صحح طريقين.

    وبعض أهل العلم صحح ثلاث طرق فقال: إن الوليد بن كثير روى عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، وهذه رواية صحيحة صححها أبو داود ، وكذلك الوليد بن كثير رواها عن محمد بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، وهذه رجحها أبو حاتم ، وكذلك رواية الوليد بن كثير ، عن محمد بن جعفر ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذه قلنا: رواها النسائي ، وتابع الوليد بن كثير محمد بن إسحاق في مصنف ابن أبي شيبة ، فتكون الطرق الصحيحة الأقرب هي ثلاث طرق، الطريق الأول: رجحه أبو داود ، والطريق الثاني رجحه أبو حاتم ، والطريق الثالث رواه ابن خزيمة وكذا ابن حبان ، ووجدنا محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث، ووافق على ذلك، فتكون الروايات الأقرب هي ثلاث طرق.

    وبعض أهل العلم ضعف هذا الحديث، وهذا الطريق الثاني، وهو تضعيف العلماء لهذا الحديث، لكن تضعيفهم على أنواع: فبعضهم ضعفه لأجل الاضطراب في سنده، والاضطراب في متنه، وهذه طريقة أبو عمر ابن عبد البر ، و ابن العربي ، وغيرهم، فقالوا: إن الوليد بن كثير وإن كان من رجال البخاري و مسلم ، إلا أن هذا الاختلاف الكبير مدعاة لتضعيف هذا الحديث، فهذا لا يقبل من كبار الحفاظ فضلاً أن يكون من أوساطهم، فلا يقبل.

    ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الرد على هذا ليس بوجيه؛ أولاً: لأن الاختلاف الحاصل في هذا الحديث هو بسبب حماد بن أسامة ؛ لأن حماد بن أسامة تغير بآخر أمره عندما كبر، فجاء بعض الرواة فروى عنه بعدما كبر، ورواة رووا عنه قبل أن يكبر، ورووا عنه بعد أن كبر، فحفظوا الرواية التي لم يختلف عليها، فجاء الصغار فرووا عن حماد فاختلفوا عليه، فنقول: يمكن الترجيح، والاضطراب لا يعول عليه إذا أمكن الترجيح فصحت أسانيد بعضه على بعض كاملاً، إن الاختلاف هنا لم يكن فيه راوٍ ضعيف، ولأجل هذا نصحح هذا الحديث؛ لأنه إما أن يكون من طريق محمد بن عباد ، وإما أن يكون من طريق محمد بن جعفر ، وكلاهما إما أن يكون عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وإما أن يكون عن عبد الله بن عبد الله بن عمر وكل هذه الطرق صحيحة، كما تقول: حدثني عبد العزيز بن باز ، ومرة تقول: حدثني محمد بن عثيمين كلاهما عن محمد بن إبراهيم ، رحمة الله تعالى على مشايخنا، فإذا اختلف عليك هذا الأصل، فالمتن صحيح، فأنت لم تختلف على راوٍ منهما ضعيف، فلو قلت: حدثني عبد العزيز بن باز عن محمد إبراهيم أو مرة قلت: حدثني رجل لا أعرفه عن محمد إبراهيم ، حينئذ نقول: هذا الاضطراب يجعلنا نتوقف في هذه الرواية ولا نصححها.

    على هذا فالاضطراب ليس أصلاً يضعف به الحديث، إلا إذا كانت متساوية الأسانيد، وأيضاً يكون فيها راوٍ ضعيف، هذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم.

    وبعض أهل العلم ضعفه لأجل الاضطراب في متنه، قالوا: فمرة يقال: ( إذا بلغ الماء قلتين )، كما في الروايات المشهورة، ومرة يقال: ( إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاث )، ومرة يقال: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة )، قالوا: فهذا الاضطراب في المتن مع اختلافهم في القلة على تسعة أقوال، ذكرها الحافظ ابن المنذر في الأوسط، قالوا: فهذا يدل على ضعف هذا الحديث.

    والذي يظهر والله أعلم: أن هذا ليس مدعاة لتضعيف هذا الحديث لأمور:

    أولاً: لأن رواية: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة ) هذا الحديث ليس من هذه الطرق، فإنه رواها جابر بن عبد الله ، وفي سنده القاسم، وهذا رجل يكذب في الحديث، وقال البخاري فيه: سكتوا عنه، فهذا يدل على أنه لا يعول رواية ضعيفة على رواية مشهورة.

    ثانياً: أن اختلافهم في تفسير القلة لا يعني بالضرورة الضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، أحياناً يعلق بعض الأمور على أمر قد اعتاده الناس في زمانهم، ومن المعلوم: أن القلة كانت معروفة وهي قلال هجر، ولهذا ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى سدرة المنتهى قال: (فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الثمار كبرها كأنها قلال هجر، ولو لم تكن قلال هجر معروفة لما عول النبي صلى الله عليه وسلم على شيء لا يعلمه أصحابه، فدل على أن القلال المذكورة في هذا الحديث هي قلال هجر.

    ولهذا: فإن الراجح والله أعلم: أن القلال المرادة في هذا الحديث هي قلال هجر، كما ذكر ذلك الإمام الشافعي و أبو عبيد ، وكذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، ولهذا قال ابن تيمية : وأما لفظ القلة فهو لفظ مشهور، وهو الجرة الكبيرة، وهي التي تسمى الحُب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمثل بهما كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: ( وإذا ثمرها كقلال هجر ).

    إذا ثبت هذا فإن الراجح والله أعلم: صحة هذا الحديث بثلاثة طرق وإن كان الطريق الرابع يمكن أن يصحح كما ذكر ذلك البيهقي ، لكن الذي نجزم به هو أن الحديث روي من ثلاث طرق، وكلها بإذن الله حسنة الإسناد، صحيحة المعنى.

    شرح ألفاظ حديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)

    الوجه الثاني: الكلام على الحديث من حيث شرح ألفاظه:

    أولاً: الحديث له قصة، وهي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي رواية: ( لم ينجس )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لم يحمل الخبث )، الخبث: هو النجس، ومعنى الحديث: ( إذا كان الماء قلتين )، يعني: كثيراً، ( لم يحمل الخبث ) أي: فإن الماء يستطيع أن يمنع نفسه أن تؤثر فيه النجاسة، فلو وقعت النجاسة في الماء الكثير فإنها لا تؤثر فيه.

    ولهذا أورد الحافظ ابن حجر رواية: ( لم ينجس )، وهي التي رواها الحاكم بفتح الجيم (ينجس)، من باب تعب أي نجس، يتعب ينجس، ويمكن أن يضم مضارعها، فهي من باب قتل يقتل، يعني نجس ينجس، وقد بالغ بعض أهل العلم فقال: معنى ( لم يحمل الخبث ): يعني: لا يستطيع أن يتحمل الخبث، وهذه الرواية لولا أن بعض أهل العلم ذكرها لم نذكرها؛ لأن رواية (لم ينجُس)، أو (لم ينجَس)، تمنع تفسير هذا المعنى.

    وهنا فائدة وهي: نزل القرآن والسنة بلغة العرب، ولغة العرب حمالة الوجوه، فتجد أن اللفظ الواحد يأتي له معانٍ كثيرة، لكن الغالب أن هذه المعاني لها مبرراتها، فتجد أن اللفظ الواحد بدخول حرف الجر يغير المعنى مثل: آمن تقول: آمن به، وآمن له، وآمنه، فكل هذه المعاني الثلاثة لها معنى، وإن كان أصل الأمان معلوماً، فكذلك هي لغة العرب، كاليد، فتأتي أحياناً بمعنى النعمة مثل: لولا أن لك يداً عندي لم أجزها، وتطلق أيضاً على الجارحة، لكن لا يمكن إطلاقها على النعمة إذا جاءت مثناة، كما قال الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فلا يمكن أن نفهمها على معنى القوة؛ فكأنك تقول: لما خلقت بقوتي، فلماذا لم تقل: قوة واحدة، ولماذا لم تقل: قوة ثالثة، وهل لفظ بقوتين معنى معتبر؟ فدل ذلك على أنه غير مراد، ولهذا قال الفراء: إن التثنية تمنع المجاز.

    لأجل هذا وقع خلل كبير عند العلماء في تفسير هذه الألفاظ، أقصد العلماء المتأخرين، وإلا فإن أهل العلم كانوا يقولون كما قال ابن عباس بسند صحيح عند ابن جرير : إذا أعياكم التفسير فعليكم بلغة العرب، ولغة العرب تفهم بأشعارها، والشعر لا بد أن يعرف من صاحبه -هذا ضبط علماء اللغة- فربما يكون مدخولاً على اللغة، كما قال ابن الأخطل :

    قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق

    هذه كلمة جميلة، استوى يعني استولى، لكن هذا البيت الشعري غير معتبر عند لغة العرب، وقد ذكرت هذا لأن بعض المتأخرين وبعض الصحفيين، وبعض الكتاب والمفكرين، يفهمون معنى من المعاني اللغوية التي ربما أيدتها اللغة بمعنى، لكنها في هذا السياق لا يمكن أن تحمل هذا المعنى الذي ذكروه، ثم ينسبونه إلى الشريعة ويقولون: هم رجال ونحن رجال، وهذا خطأ فادح.

    ولهذا كان الأئمة ينكرون على أن يتبوأ الإنسان مبوأ تفسير وهو لا يعلم لغة العرب، بل قال مالك رحمه الله: لا ألفين أحد يتبوأ يفسر القرآن وهو لا يعلم لغة العرب إلا ضربته نكالاً، يعني هذا شديد، فلا تفسر من القرآن وأنت لا تجيد لغة العرب، أو تقول: وهذا اللفظ يحتمله، ولا مانع، مع أن لغة العرب لا تحتمل مثل هذا المعنى.

    ذكرت هذا لمناسبة لوجود معانٍ كثيرة تختلج في الذهن عند ورود بعض الأحكام الشرعية، وعند عدم فهم مصطلحات الأئمة رحمهم الله، عند ذكرهم للألفاظ، فيأخذها المتأخرون احتجاجاً على واقع يعيشونه، في حين أن الأئمة لهم مصطلح يختلف عن المصطلح الذي فهمه المتأخرون.

    حكم الماء إذا وقعت عليه نجاسة

    الوجه الثالث من الكلام على الحديث: الحديث استدل به بعض أهل العلم على التفرقة بين الماء الكثير والماء القليل، فقالوا: إن الماء الكثير -وهو ما بلغ قلتين- لا ينجس، فقد دل عموم لفظ هذا الحديث، على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فإنه لا ينجس، سواء تغير الماء بالنجاسة أم لم يتغير، وهذا عموم، وهذا العموم ليس على إطلاقه؛ لأن هذا العموم مخصص بالإجماع الذي نقله ابن المنذر و الشافعي وغيرهما على أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد أوصافه فإنه ينجس، سواء كان الماء كثيراً أم قليلاً، فيبقى الأصل على أن الماء الكثير لا ينجس، إلا إذا تغير بالنجاسة.

    وقالوا: ودل مفهوم هذا الحديث على أن الماء إذا كان قليلاً فإنه ينجس؛ لأن لغة العرب يؤخذ منها بالمنطوق والمفهوم، فإذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا بلغ الماء قلتين )، فمفهومه: إذا بلغ الماء أقل من قلتين فإنه يحمل الخبث، ولأجل هذا ذهب الإمام أبو حنيفة و الشافعي والمذهب عند الحنابلة: على أن الماء القليل -وهو دون القلتين- إذا وقعت فيه نجاسة نجس ولو لم يتغير، فلو رأينا إناءً أو حوضاً صغيراً أقل من القلتين وقعت فيه نجاسة، فإن الجمهور يقولون: نجس، ولسنا -على كلامهم- بحاجة إلى أن ننظر هل تغير أم لم يتغير؛ قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، ومفهومه: إذا بلغ الماء أقل من قلتين حمل الخبث، ثم قالوا: والقلة هنا: هي قلال هجر، قال عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج إمام أهل مكة والحجاز: رأيت قلال هجر، فإذا القلة قربتان أو قربتان وشيئاً، قال الإمام الشافعي : والأحوط في ذلك أن نجعلها قربتين ونصفاً، فتكون القلتان خمس قرب، والقربة مائة رطل، وتقدر بالكيل مائة واثنين كيلو، فتكون القلتان خمسمائة وعشرة كيلو، فإذا بلغ خمسمائة وعشرة فهو كثير، ودون ذلك القليل، هذا مذهب الجمهور.

    وتستغرب أحياناً كيف الأئمة يقع بينهم خلاف في هذا الأمر؟ فهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، والحكمة أنك تعلم أنه مهما بلغ الإنسان من العلم فلا بد أن يخطئ الحق، وهذا كما يقول ابن تيمية رحمه الله: وذلك ليكون الدين كله لله؛ فليس هناك معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.

    وعلى هذا: فلا يسوغ لنا أن نحتج بقول عالم من العلماء؛ لأن هذا العالم قد خالفه أئمة مثله أو أعظم منه، وبالمقابل مسائل الخلاف التي يبحثها الناس لا ينبغي أن ينكر بعضنا على بعض، ولو أنكر بعضنا على بعض لصار كلام الله وكلام رسوله يضرب بعضه بعضاً، ولهذا المسائل الخلافية التي كل واحد عنده دليل معتبر فيها، فإنه لا يجوز أن ينكر فيها، كما نقل ذلك النووي رحمه الله بالإجماع على ذلك.

    وتجدون أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الناس لفظاً عاماً على مستحب بالجملة، فالرسول لا يبين للناس أمراً مستحباً، لكنه يبين للناس بلفظ عام لا حكماً فرضاً أم واجباً، أم شرطاً، أم مستحباً؟ فتجده يقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( خذوا عني مناسككم )، يا أبا هريرة ! ( إني أوصيك بثلاث )، فتجده يخبر الشخص، لكن لا يجعله لفظاً عاماً؛ لأن بعض الناس لا تتحمل قلوبهم بعض السنن، فربما شق ذلك عليهم.

    وأرى أنه لا ينبغي إخبار العامة بدقائق بعض تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانوا حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بهداية، أو ربما لم تتمحض نفوسهم للانقياد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يشكل عليهم، ويظنون أن هذا قصور ليس له داع، وغير ذلك من الألفاظ، ولكن من قوي دينه، وكان من طلبة العلم، فيبين له ذلك؛ لأن هذه مراتب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، مراتب زائدة على الفرض، فلا يستطيع أن يتحملها كل أحد.

    لأجل هذا كان محمد صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- لا يبين هذا على عامة الناس، حتى تأتلف قلوبهم على قاعدة سواء، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، لكن موطن الدرس، وموطن البحث، وموطن العلم، فهذا لا بأس بذكره كما كان السلف يقولون ذلك، لكنهم لا يعولون على الردود والألفاظ والرد بكتاب على فلان، قال الإمام الشافعي : ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالته بكتاب لفعلت، ولكن هذه ليست طريقتي ولا هديي، فإذا جاءت يبينون الحكم الشرعي، والحمد لله، لكنهم لم يكونوا يسعون في مثل ذلك، إلا بعد ما جاء المتأخرون فأكثروا، ولهذا قال الإمام الزهري رحمه الله: العلم نقطة كثره الجاهلون.

    فلا ينبغي أن نهتم بالردود البسيطة التي هي من باب فاضل ومفضول، لكنها إذا جاءت من باب العرض، البحث والدراسة، والفتوى، فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا مما إذا سمع الناس تسنموا منازل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، هذا هو مذهب الجمهور.

    القول الثاني في المسألة: قالوا -وهو مذهب مالك رحمه الله، ومذهب الحسن البصري ، ومذهب ابن عقيل الحنبلي، واختيار ابن تيمية رحمه الله كما مر معنا: أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فإن كانت قد غيرت النجاسة أحد أوصافه، حكمنا عليه بالنجاسة، وإن لم تغير أحد أوصافه حكمنا عليه بالطهورية، سواءً كان هذا الماء قليلاً أم كثيراً قالوا: أما هذا الحديث، وهو حديث ابن عمر ، وهو صحيح، دل بمنطوقه على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة لم يحمل الخبث، ما لم يتغير بالإجماع، ودل بمفهومه على أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فإنه ينجس، لكن هذا المفهوم معارض بمنطوق أصرح منه وهو حديث أبي سعيد في بئر بضاعة: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، ولم يفرق عليه الصلاة والسلام بين قليل وكثير، والقاعدة تقول: إن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، والقاعدة معناها: أن إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً عاماً يشمل جميع معانيه، فهذا اللفظ يحتمل وروده على معنى، وهو القليل، وعلى معنى وهو الكثير، فلما لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن هذا الحكم يشمل القليل والكثير، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم وهي: أن اللفظ العام يشمل جميع ألفاظه ما لم يرد بخصوصه نص، فقالوا: إن حديث أبي سعيد منطوق، وحديث عبد الله بن عمر مفهوم، والقاعدة عند الفقهاء: أن المنطوق مقدم على المفهوم، ثم قالوا: إن حديث عبد الله بن عمر يفيد أنه إذا كان الماء كثيراً، لم يحمل الخبث، سواء غيرته النجاسة أم لم تغيره، فإذا خرج الماء الكثير للتغير بالإجماع، فلأن يخرج حديث أبي سعيد عن هذا الحديث أيضاً بصحيح مثلها، وهذا أصح، والله تبارك وتعالى أعلم.

    حكم سؤر السباع

    المسألة الأخرى: أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث -وهم الحنابلة- على أن سؤر السباع نجس، ومعنى سؤر الباقي والفضلة، الذي نسميه اللعاب، وقالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن هذا قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وهذا دليل على أنه لو بلغ قلتين فحمل الخبث نجس والذي حمل الخبث هي السباع، فقال الحنابلة: إن هذا الحديث دليل على أن سؤر السباع نجس، ولم يخرج من ذلك إلا ما دل الدليل عليه، والذي دل الدليل عليه أن سؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر؛ لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات )، فدل ذلك على أن سؤر الهرة ليس بنجس.

    وذهب أحمد في رواية أيضاً، وهو اختيار ابن قدامة وبعض العلماء المعاصرين، كالشيخ محمد إبراهيم والشيخ ابن سعدي : على أن سؤر الحمار والبغل طاهر وليس بنجس، وإن كان في حكم السباع، فعرق ولعاب الحمار والبغل طاهر، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما حكم على الهرة قال: ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات ).

    ومن المعلوم أن البغلة والحمار من الطوافين علينا، وقد كان الصحابة يركبونه ولا يتوقى أحدهم من عرقه، بل كان يركب ثم ينزل فيصلي، مع أن وقت المدينة فيها حر شديد، فدل ذلك على أن الحمار والبغل والهرة، وما دونها في الخلقة لعابها طاهر، وكذلك عرق البغل والحمار، وهذا هو الراجح.

    وذهب مالك و الشافعي و الزهري إلى أن سؤر السباع طاهر، واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ بما أفضلت الهرة؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع )، وهذا الحديث نص في المسألة، وقد رواه الشافعي في مسنده، وكذا البيهقي، إلا أن هذا الحديث لا يفرح به، فإن الحديث مضطرب، فمرة يرويه داود بن الحصين عن جابر ، ومرة عن أبيه عن جابر ، و داود لم يسمع من جابر .

    ثانياً: أن الحديث روي من ثلاث طرق كلها ضعيفة، فقد رواه الشافعي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى ، و إبراهيم بن أبي يحيى ضعيف، بل قال بعضهم: ضعيف جداً، وروي من طريق آخر، وهو طريق ابن أبي حبيبة ، وقد قال فيه البخاري : سكتوا عنه، و البخاري إذا قال عن رجل: سكتوا عنه، أو فيه نظر، فإن ضعفه شديد، والله أعلم.

    وعلى هذا: فسؤر الأسد، والنمر، والذئب، وغير ذلك نجس، لكن إذا صار عند إنسان فهد يصيد به فيدربه مثلما يدرب الكلب، وصار يختلط بالإنسان، فيكون حكمه حكم الطوافين، والكلب إذا صار يختلط مع الإنسان فلا يكون حكمه حكم الطوافين؛ لوجود النص، وهو حديث أبي هريرة و عبد الله بن مغفل ، واللفظ للبخاري و مسلم بحديث أبي هريرة : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب )، هذا قول عامة أهل العلم، خلافاً لـمالك رحمه الله.

    أقوال العلماء في أقسام المياه

    هناك مسألة نستكمل بها حديث أبي سعيد وحديث عبد الله بن عمر ، وإن كان ليس لها شأن في حديث ابن عمر ، وهي مسألة تقسيم المياه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

    القول الأول: هو قول عامة الفقهاء، وهو قول أبي حنيفة والمذهب عند الشافعي ، والمذهب عند الحنابلة، على أن الماء ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: طهور وهو الباقي على خلقته وحقيقته، كمياه الآبار، ومياه الأنهار، ومياه البحار، أو حكماً، وهو المتغير بمكثه، أو بما يشق نزح الماء عنه كطحلب ونحوه، فهذا يسميه العلماء طهوراً، فحكمه طاهر في نفسه، مطهر لغيره.

    الثاني: الطاهر، وهو الذي تقع فيه بعض الطاهرات، ويتغير بعض أوصافه، فيقولون: هذا طاهر غير مطهر، يعني طاهر في نفسه، فلو وقع على الثياب فلا ينجسها، لكنه لا يرفع الحدث، سواء كان الحدث أصغر أم أكبر، ولا يزيل النجاسة.

    القسم الثالث: النجس، وهو المعروف، وهو الماء المتنجس.

    وقد استدل العلماء على أن الماء ثلاثة أقسام بحديث: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ).

    وذلك أنه كان مستقراً عندهم أن ماء البحر ليس بنجس، لكنه وقع عندهم خلاف: هل يرفع الحدث أم لا؟ ولهذا قال: أنتوضأ بماء البحر؟ فكان ذلك معروفاً عندهم: على أن الماء طهور يرفع الحدث، ونجس وطاهر، وحاشا صحابياً أن يظن أن ماء البحر نجس، والذي يظهر والله أعلم أن هذا ليس دليلاً لهم، وذلك لأن الصحابي حينما رأى ملوحة الماء في ماء البحر ظن على أن الشيء الطاهر إذا وقع على ماء وأثر في أحد أوصافه، ينقله عن الطهورية، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا لا يؤثر إذا كان وصف الماء باقياً، قال: ( هو الطهور ماؤه )، فدل ذلك على أن بقاء المائية موجودة، فهذا هو الراجح، والله أعلم في تفسيره.

    استدلوا أيضاً بالحديث الذي سوف يأتي قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الإنسان في الماء الراكد، وإن يغتسل منه، وقال: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري )، وفي رواية: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه )، فنهى عن أمرين: عن البول، وعن الاغتسال، فإذا وقعت نجاسة في الماء، فإنه وإن لم يكن نجساً، لكنه لا يرفع الحدث، وهذا تكلف.

    والراجح والله أعلم أن الماء ينقسم إلى قسمين: هذا قول الحسن البصري ، واختيار بعض أصحاب الحنابلة، وبعض الحنفية، كـالكمال ابن الهمام ، و ابن تيمية ، وأكثر المعاصرين قالوا: إن الماء لا يكون إلا طهوراً ونجساً، وما وقعت فيه بعض الطاهرات في هذا الماء فلا يخلو من حالين:

    الحال الأولى: أن تغير أوصافه، فتقلبه من أن يكون ماءً إلى وصف آخر، مثل أن يكون عصيراً، أو ماء ورد، أو غير ذلك، فلو قلت لك: أحضر لي شاياً، فأحضرت لي ماءً، فيه بعض أوصاف الشاي، فهذا يسمى ماءً، ولو قلت لك: أحضر لي ماءً، فأحضرت لي شاي، فهذا لا يسمى ماء فهو طاهر، لكنه لا يرفع الحدث، لا لأن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام، ولكن لأن الماء ينقسم إلى قسمين، وإن كان هناك قسم من المائعات، لكنه لا يسمى ماء، فيسمى وصفاً آخر.

    وعلى هذا بعض الناس في بعض الكتب يقولون: إن الشيء قسمان: طهور ونجس، وهذا ليس صحيحاً، بل الماء قسمان، ولكن المائعات ثلاثة أقسام: طهور وطاهر ونجس، والله أعلم، وهذا هو الراجح.

    الإمام أبو حامد الغزالي ، عندما جاء إلى هذه المسألة وجد أن مذهب الشافعي رحمه الله أبعد عن مذهب مالك قال: وددت أن مذهب الشافعي كمذهب مالك ، يعني لأجل أن يقلده، نحن نقول: الحمد لله، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا قال الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، ولسنا بحاجة إلى أن نقول: قول فلان أو غيره، فكلام أهل العلم يستدل لهم، فليس كلام أحدهم حجة على كلام الآخر.

    والقول الثاني أصح، ويدل على ذلك أدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، وكلمة (ماءً) عند العلماء يقولون: نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعم، فيدل ذلك على أنه متى ما سمي ماء جاز الوضوء به، وإذا لم يسم ماء لم يصح الوضوء به، وجاز التيمم.

    ودل ذلك على أن دخول بعض أوصاف الطاهرية على هذا الماء، ولم يسلبه مسمى الماء، فإنه يصح الوضوء به، ودليله: ما ثبت في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته ناقته: اغسلوه بماء وسدر )، ومن المعلوم أن السدر لو اختلط بالماء صار طاهراً دخل في الماء، فعلى كلامهم يكون طاهراً، ومن المعلوم أن غسل الميت لا بد أن يكون بماء طهور، فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يغسل بماء طهور؟ وكذلك قال في قصة ابنته في حديث أم عطية : ( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك، واجعلن في السابعة كافوراً أو شيئاً من كافور )، ومن المعلوم أن الكافور ربما يغير الماء، وإن كان لا يغير مسمى الماء، والله تبارك وتعالى أعلم.

    وإذا وقع الماء في الطين، مثل الساقي؟ والجدول الصغير فلو أن إنساناً خاض فيه، فخرج التراب، فلا ترى إلا ماءً كدراً، فهل تتوضأ منه أم لا؟ نقول: إن كان الماء باقٍ على صفائه، فهذا لا بأس بالوضوء منه، ولو كان فيه طاهر وهو التراب، أما إن خرج مسمى الماء بأن يكون لزجاً، فهذا لا يجوز الوضوء به؛ لأنه صار طيناً، ولهذا لا يصح الوضوء به، كذلك ماء البرك، إذا وقع فيه الطحلب، فغير بعض أوصافه، فهذا يجوز الوضوء منه ولو كانت رائحته كريهة، وكذلك السخانات التي تكون أحياناً قد بقي عليها فإذا فتحها الإنسان في وقت الشتاء وجد رائحة كريهة فيها، هذه الرائحة الكريهة أحياناً لا يستطيع أن يتوضأ منها، فهي ليست نجسة؛ لأنها رائحة من الصدأ الذي فيه، فهذا لا تسلبها الطهورية.

    وإذا وقعت حمامة في خزان مياه بعض البيوت، فوجدوا رائحة كريهة ولم يعلموا ذلك إلا بعد ثلاثة أيام، وقد توضئوا بهذا الماء، فالعبرة بتغير الماء فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزيت إذا وقعت فيه فأرة، قال: ( القوه وما حوله وكلوا سمنه )، فنقول: إن تغير لون الماء، فلا شك أن الحمامة نجسة لأنها ميتة، فقد أثرت، وعلى هذا فنقول: متى تغير الماء في حقكم؟ إن قالوا: ثلاثة أيام، نقول: تعيدوا صلاة ثلاثة أيام، ولا يقال: يعذر بالجهل؛ لأن هذا من الواجبات والشروط، والشروط تعذر بالجهل من حيث رفع الإثم، لكن يبقى التكليف قائماً.

    ولهذا لو صلى من غير طهارة ناسياً فقد وجب عليه أن يعيد ولو بعد عشر سنين، كما ثبت ذلك بإجماع أهل العلم، أما إذا وجد رائحة كريهة لكنه لو وضعها في كأس ما وجد تغيراً، فهذا تغير لرائحته بالمجاورة، وهذا التغير بالمجاورة، إنما هو رائحة، مثله مثل إذا وقعت بعض جيف الدواب والحيوانات والشياه عند الماء القليل، أو الماء الذي يكون في البراري، فأحياناً إذا شربت من الماء وجدت فيه رائحة كريهة، فهذه الرائحة بالمجاورة، ولهذا لو أخذت من أسفل ربما لا تجد شيئاً من ذلك، هذا الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلم بهذا التقسيم.

    ولعلنا نقف عند هذا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089162831

    عدد مرات الحفظ

    782300464