الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل! اللهم انفعنا بما علمتنا! وعلمنا ما ينفعنا! وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم إنا نسألك الهدى والسداد في القول والعمل، وبعد:
فنسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن ييسر لنا إتمام هذا الشرح بما كنا قد بدأنا به من العناية بالأسانيد والرجال وفقه أحاديث أئمة السلف، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين! ولا إلى أحد من خلقه! إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وبعد:
فقد وصلنا إلى قريب من نهاية باب إزالة النجاسة، وهو حديث عائشة ، فقد شرحنا حديث عمرو بن خارجة ثم وقفنا عند حديث عائشة ، وإن شاء الله سوف نشرح جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب حتى ننتهي.
ولعلنا نخفف من العناية بجمع الطرق المبالغة في ذلك؛ لأن البعض ربما لا يتحمل ولم يتعود؛ لكن كل حديث سوف نذكر مداره وعلته ومن ضعفه من أهل العلم، وليس على سبيل التوسع والإسهاب كما كنا في السابق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: [ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ) متفق عليه.
ولـمسلم : ( لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه )، وفي لفظ له: ( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه ) ].
وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم عن بعض الحفاظ أنه أنكر سماع سليمان بن يسار من عائشة وقال: إنما هي فتوى من سليمان بن يسار ، ولكن الراجح والله أعلم أن الحديث صحيح بهذا الإسناد: أن عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار و سليمان أخبرته عائشة ، وهذا لا يضير أن يكون عمرو بن ميمون سأل سليمان بن يسار ، وأن يكون سليمان بن يسار سأل عائشة ، وعلى هذا فربما سليمان بن يسار في بعض الأحاديث قال ذلك من عنده، وربما قال ذلك مرة من عائشة ، وهذا يدل على أن الراوي -كما قلنا- أحياناً ينشط فيذكر الحديث موصولاً، وأحياناً لا ينشط فيذكره مرسلاً، وهذه طريقة الأئمة، وعلى هذا فينبغي لطالب العلم ألا يضعف هذا الحديث بدعوى أنه اختلف في وصله وإرساله، فربما يكون الراوي من عادته أنه ينشط فيذكره موصولاً، وربما لا ينشط، فيذكره مرسلاً كما عرف ذلك عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وجاء في بعض الروايات: أن الذي يغسل المني عائشة ، وهذا أيضاً لا يضير، فقد جاء عند ابن خزيمة -كما سوف يأتي إن شاء الله- ( أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي )؛ ولأجل هذا احتج ابن خزيمة في مصنفه على صحة القول بأن المني طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي و عائشة تغسله أو تحكه، وهذا يدل على صحة طهارة المني، كما هو معلوم وسوف يأتي إن شاء الله.
الحديث رواه مسلم من طريق إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد أن رجلاً نزل على عائشة رضي الله عنها، فسأل عائشة رضي الله عنها، فقالت عائشة رضي الله عنها: ( إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، وإن لم تره نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه )، فهذا يدل على أن رواية الفرك جاءت حينما رأت عائشة رجلاً غسل الثوب كاملاً، حينما رأى في المنام ما يرى النائم.
ومما يدل على ذلك الرواية الأخرى الثالثة، قال: (وفي لفظ له: ( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه ) )، وهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني قال: ( كنت نازلاً على
أما ماء المرأة، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين فقال: ( إذا علا ماء المرأة ماء الرجل ) فدل على أن المرأة لها ماء، ولكن بعض الفقهاء قال: إن ماء المرأة ماء أصفر، ومن المعلوم أن بعض النساء ربما تنزل، وبعض النساء ربما لا تعلم بالإنزال، وبعض النساء ربما تنزل فتخرجه من الخارج، وبعض النساء تنزل من داخل فرجها.
وعلى هذا فإن كثيراً من الناس لا يعلم صفة ماء المرأة، والذي تراه المرأة غالباً إنما ذاك المذي؛ لأنه لزج ويخرج عند أول الشهوة؛ لكن كثيراً من النساء ربما لا تعلم أنها تنزل، ومما يدل على ذلك أن أم سليم حينما أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كما في الصحيحين: ( يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقالت
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يغسل المني، وهذا من باب الاستطابة والتنظف، إلا أن أهل العلم اختلفوا في حكم المني، هل هو طاهر أم نجس؟
القول الأول في المسألة: نجاسة مني الآدمي، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وهي رواية عند الإمام أحمد نصرها الإمام الشوكاني كما في السيل الجرار، وفي نيل الأوطار، إلا أن الحنفية قالوا: إن كان رطباً فيجب غسله، وإن كان يابساً فيجوز فركه، فقالوا: إن الفرك نوع من الإزالة؛ لأن الحنفية كما تعلمون يرون أن النجاسة: عين خبيثة لا يلزم إزالتها بالماء كما مر معنا، فيقولون: إن النجاسة: عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها، فلهذا يرون إزالة النجاسة: بالماء، والريح، والشمس، هذا القول الأول.
واستدلوا بأدلة منها: حديث الباب، والشاهد فيه: قول عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني من ثوبه فيخرج إلى الصلاة وإني لأرى أثر المني فيه )، قالوا: وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغسله، قالوا: وأما الفرك فقالوا: إن الفرك معناه: الإزالة، فالإزالة على مذهب أبي حنيفة يكفي فيها الفرك، وعلى مذهب مالك رحمه الله قال: الفرك هو الفرك جداً حتى يزول، فهو نوع من إزالة النجاسة، وبعضهم ضعفوا هذا، وقالوا: إن الفرك الموجود في الثوب إنما هو في ثوب النوم وليس في ثوب الصلاة، وهذا فيه تكلف واضح؛ ويرده قول عائشة في رواية ابن خزيمة : ( إن كنت لأحكه يابساً بظفري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه )، فهذا تكلف معروف.
واستدلوا أيضاً قالوا: إن الفرك -لو صح- دليل على تسامح الشارع فيما عمت به البلوى، فإن القاعدة فيما تعم به البلوى التخفيف، فإن الشارع خفف وجود بعض القاذورات تحت الظفر إذا لم يعلمها الإنسان، وخفف الشارع في رذاذ البول إذا وقع في ثوب الإنسان، وخفف الشارع في الاستجمار، فإذا استجمر الإنسان فإنه قطعاً لم يتيقن نقاء المحل، فكل ذلك مما عمت به البلوى فخفف الشارع في ذلك.
وقالوا: مما يدل على النجاسة -وانظروا لهذا القياس لأجل نعرف أن استدلالات السلف وقياسهم لا يلزم أن تكون موافقة لأقوال واستدلالات المتأخرين، قالوا وهذا يسميه العلماء القياس المنطقي- أن المني موجب للغسل وهو الطهارة، هذه المقدمة الأولى، وهذا لا إشكال فيه، ثم المقدمة الثانية قالوا: وكل ما أوجب حدثاً فهو نجس، هذه المقدمة الثانية، ثم شطبوا آخر المقدمة الأولى مع أول المقدمة الثانية فقالوا: وعلى هذا فكل مني نجس، وهذه يسمونها العلماء: قياس المناطقة، كما تقول: كل حمار أبيض، وكل أبيض له صوت، وعلى هذا فيكون الحمار له صوت، وهذه المقدمة يمكن أن تكون صحيحة ويمكن أن تكون خاطئة، وعلى هذا فهذا الاستدلال لم يكن معروفاً عند المتقدمين من الصحابة، ولا من التابعين، وهذا قياس أدخله بعض المناطقة وبعض علماء الأصول في الاستدلال، وليس صحيحاً؛ لأننا نقول: إن قولكم: إن المني موجب للحدث صحيح، وقولكم: كل ما أوجب حدثاً فهو نجس ليس صحيحاً مطلقاً، والدليل: الريح والضراط، أوجب حدثاً ولكنه ليس بنجس، كذلك على الراجح أن بعض الأشياء تخرج من فم الإنسان وهي طاهرة مثل البصاق، وبعضها يخرج من فم الإنسان وهو نجس عند قول الجمهور مثل القيء، أو الدم الكثير، مع أن المخرج واحد، ولأجل هذا نقول: لا يلزم أن يكون مخرج الشيء يلزم منه النجاسة مطلقاً أو الطهارة مطلقاً، كذلك لا يلزم كل ما أوجب حدثاً أن يكون طاهراً أو أن يكون نجساً، والله تبارك وتعالى أعلم.
وأحسن شيء يستدل به ما رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث معاوية بن خديج عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة : ( هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي جامعك فيه؟ قالت: نعم إذا لم ير فيه الأذى )، وهذا الحديث بوب البخاري في صحيحه ما يؤتيه معنى هذا الحديث، قال: باب وجوب الصلاة في الثياب، ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه أهله إذا لم ير فيه أذى. قال الحافظ ابن حجر : وفي هذا دلالة أن البخاري أخذ هذه العبارة من حديث معاوية بن أبي سفيان ، وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه أبو داود و النسائي و ابن خزيمة و ابن حبان ، وصححه ابن خزيمة و ابن حبان ، والحديث إلى الحسن أقرب، فإن معاوية بن خديج قد رواه عنه سويد بن قيس ، و سويد بن قيس قد رواه عنه يزيد بن أبي حبيب ، و يزيد بن أبي حبيب قد رواه عنه الليث بن سعد ، والحديث على هذا إسناده جيد؛ الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن معاوية بن أبي سفيان ، وهذا الحديث حسن؛ لكن أهل العلم قالوا: إن قوله: (إذا لم ير فيه أذى) دليل على أن هذا المني أذى، وهو نجس؛ لأن الله يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، هذا دليل الحنفية.
والأقرب والله أعلم أن هذا الحديث لا يلزم منه النجاسة؛ لأن الأذى يطلق على النجس ويطلق على القذر، فإن المخاط يطلق عليه أذى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم ) إشارة إلى الثوم والبصل، والثوم والبصل ليسا بنجس، فدل على أن إطلاق الأذى لا يلزم منه النجاسة.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعية والحنابلة في المذهب عندهم، وهو الذي نصره ابن حزم في المحلى وهو قول داود الظاهري وغيرهم، وهو قول جمع من الصحابة، وهو قول عائشة وقول ابن عباس وقول أبي هريرة وغيرهم.
واستدلوا بحديث الباب حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرك المني من ثوبه ويصلي فيه، فلو كان نجساً لم يكن عليه الصلاة والسلام يسمح بفركه؛ لأن الفرك لا بد معه من أن يبقى شيء عالق في نسيج الثوب.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المني فقال: ( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكيفك أن تميطه عنك بخرقة أو إذخرة )، الإذخرة: الشجرة المعروفة، فهذا الحديث نص في أن المني إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، ومن المعلوم أن المخاط والبصاق طاهر، ولكن هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب أن رفعه خطأ؛ لأن المعروف عن عطاء بن أبي رباح أنه رواه عن ابن عباس من قوله، كما روى ذلك الشافعي و ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج -وهو من أوثق الناس في عطاء - رواه عن عطاء عن ابن عباس ، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية والله أعلم، وقد صححه مرفوعاً المجد أبو البركات ، ولكن الأقرب والله أعلم أن الحديث ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رواه عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً، والصواب كما قلنا: إن ابن جريج رواه عن عطاء عن ابن عباس من قوله.
طيب! الحديث الثالث في المسألة مما يقوي هذا القول هو قول ابن خزيمة أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كانت تحت المني من ثوب النبي صلى الله عليه سلم وهو يصلي )، وهذا يدل على الطهارة، كونه يصلي وهي تحت، فلو كان نجساً لقطع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، والمسألة واضحة ولا داعي لذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك، فالأقرب والله أعلم أن المني طاهر؛ لكن ينبغي للإنسان أن يتنظف منه، والله أعلم.
وهذا الحديث إن شاء الله أنه صحيح، وقد تكلم الحفاظ فيه ما بين مؤيد لصحته وما بين مضعفه، وأكثر أهل العلم على تصحيحه، وقد حسنه الإمام البخاري رحمه الله وقال: حديث أبي السمح حديث حسن، وحسنه القرطبي و ابن الملقن في البدر المنير، وهو ظاهر صنيع الإمام أحمد رحمه الله حينما احتج بذلك يعني: أخذ بهذه المسألة.
وذهب بعضهم إلى تضعيف هذا الحديث كما نقل عن أبي عمر بن عبد البر رحمه الله، فإنه قال: وأما الحديث الذي فيه الرش من بول الغلام فهذا حديث لا تقوم به حجة، والمحل يعني بذلك محل بن خليفة ضعيف.
يقول الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: لا أعلم أحداً وافق أبا عمر بن عبد البر في تضعيفه لـمحل بن خليفة ، و محل بن خليفة وثقه كبار الأئمة المتشددين كـأبي حاتم و النسائي و ابن معين . كذلك ضعف لأجل يحيى بن الوليد و يحيى بن الوليد ثقة، وعلى هذا فالصحيح أن تضعيف من ضعفه كما نقل عن أبي عمر بن عبد البر ، وتبعه على ذلك عبد الحق الإشبيلي في كتاب الأحكام ليس بصحيح، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فإن أبا السمح لا يعلم عن اسمه، بل قال بعضهم -كما نقل عن أبي زرعة و البزار - إن هذا اسمه، وقيل: اسمه إياد ، وقيل: مالك ، وقيل غير ذلك، ولا يعلم له حديث إلا هذا.
ومما يقوي الحديث وأنه صحيح أنه جاءت أحاديث شواهد تدل عليه بالمعنى، منها: حديث أم قيس بنت محصن رضي الله عنها قالت: ( أتت النبي صلى الله عليه بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه على حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء، ثم غسل به ثوبه، ولم يغسله غسلاً )، والحديث متفق عليه، وفي رواية أنها قالت: ( بابن لها لم يأكل الطعام )، ومما يقوي هذا ما جاء في صحيح البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم، وإنه أتي بصبي فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله غسلاً )، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.
والحديث فيه مسائل:
ذكر أهل العلم أن المسألة فيها أربعة أقوال؛ لكن أشهرها قولان:
القول الأول: أن بول الغلام وبول الجارية في الحكم سواء، وهو وجوب الغسل، هذا هو مذهب الحنفية والمالكية.
وهنا ننظر لأجل لا نسب بعض طلاب العلم حينما أحياناً يغفلون عن بعض الروايات، أو بعض الأحاديث، أو يرون ضعف الحديث، فانظر الحديث فيه كأنه ظاهر الصحة، ومع ذلك تجد من الأئمة من ينكره لتضعيفه، إما ينكره لأجل أن الحديث ليس بالمشهور، فيقول: لا أترك الأصل وهو نجاسة البول مطلقاً بالإجماع لحديث ربما يصحح وربما لا يصحح، هذه قاعدة معروفة عند الأئمة، و مالك واضح عنده هذه المسألة.
الآن مالك يقول: نحن نجمع على أن البول نجس، فجاءنا حديث ليس بالمشهور، مثل حديث أبي السمح ليس بالمشهور، فلا أترك قاعدة لأجل هذا، فإن قلت: حديث أم قيس بنت محصن قال: هذا دليل على أنه يغسل، ولهذا قال: ( فدعا بماء فنضحه على بوله )، ولأجل هذا قال أبو حنيفة : يجب غسل بول الذكر والأنثى.
وقالوا مما يدل على ذلك: حديث أم قيس بنت محصن ( أن النبي عليه السلام دعا بماء، فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً )، وأما قوله: (لم يغسله غسلاً) قالوا: لأنه يكتفى بالماء، إذا غمر الماء بمكان النجاسة فإنه يطهره، وقوله: (لم يغسله غسلاً) يعني: لم يفرك أو يكثر من الماء، هذا قول الحنفية والمالكية، وقالوا: إن حديث الباب ليس بحجة، كما قلنا في قول أبي عمر بن عبد البر .
القول الثاني في المسألة: مذهب الشافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق بن راهويه وهو قول ابن حزم و داود الظاهري ، وهو قول جمع من الصحابة، قال ابن حزم : وهو قول أم سلمة و علي بن أبي طالب ولا يعلم لهم مخالف، وهذا الحديث كما قلت هو قول علي بن أبي طالب ، فإنه جاء عن علي مرفوعاً وموقوفاً من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه عن علي بن أبي طالب . قتادة روى عنه بعضهم -وهو سعيد بن أبي عروبة وغيره- مرفوعاً وموقوفاً، ولهذا صحح بعض أهل العلم الموقوف والمرفوع، فقد صحح البخاري المرفوع، وكذا الدارقطني و الترمذي ، وعلى هذ فإن كان مرفوعاً فلا إشكال؛ لأنه جاء ما يقويه، وهو حديث أبي السمح ، وإن كان موقوفاً فهذا يدل على أنه قول صحابي.
وعلى هذا فالصحيح هو القول الثاني: أن يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية؛ لحديث أبي السمح ولحديث علي مرفوعاً وموقوفاً.
ولأجل هذا قال الإمام الزهري رحمه الله: فمضت السنة بألا يغسل من بول الصبي حتى يأكل الطعام، فإذا أكل الطعام غسل من بوله. فهذا قول إمام معتبر؛ أن السنة قد مضت على هذا الأمر، والغريب أن الزهري مدني و مالكاً رحمه الله مدني، ولم يقل مالك بقول الزهري ؛ لأن مالكاً لا يعتني بأقوال الزهري حتى قال مرة: ولقد رأيت محمد بن شهاب الزهري وإنه لمن أهنأ الناس، يعني: أكثر الناس راحة في قلبي الإمام الزهري . وكان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه من هيبته للرسول صلى الله عليه وسلم، قارن بين هذا وبين الذين يؤذون الله ويؤذون رسوله في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهذا يدل على أن كل من لم يوقر النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً فليس له في الآخرة من خلاق.
اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب ابن حزم رحمه الله وغفر الله لنا وله إلى أن الغلام في لغة العرب يطلق على الصغير وعلى الكبير، يقول: وعلى هذا فإنه يغسل ويرش من بول الغلام، فكل ما أطلقه العرب بأنه غلام فإنه يخفف فلا يغسل، وعلى هذا فابن خمس عشرة وابن ست عشرة وابن ثمان عشرة سنة على قول ابن حزم رحمه الله أنه يخفف في ذلك، وهذا قول شاذ، ومخالفة الإجماع فيه ظاهرة.
وأما الجارية فيقول: يجب غسله، بل بالغ داود الظاهري فلما جاء يرش من بول الغلام قال: هذا دلالة على طهارة بول الصبي، وهذا بعيد كل البعد كما ذكر ذلك القرطبي في شرحه المفهم في شرح مسلم ، إذاً هذا القول الأول.
القول الثاني: أن المقصود بالغلام الغلام الذي لم يستقل بجعل الطعام في فيه، بل لا بد أن يعينه غيره، يقولون الآن: إذا جاء الصبي يريد أن يجلس، ويريد أن يأخذ الطعام، فإنه حينئذٍ يغسل من بوله، وإذا لم يستقل الطعام في فيه، يعني: لم يأخذه لا يستطيع مثل الصبي الذي يكون عمره أشهر يأخذ الطعام ما يقدر يأخذ الطعام حتى تأتي أمه أو قريبه فيضعه في فيه، فيقول: إذا لم يستقل الطعام فإنه يرش من بوله، وإذا استقل الطعام فلا يرش بل يغسل.
القول الثالث: أنه إذا لم يستغن بالطعام عن الرضاع ولو أكل الطعام، لكنه أكله هذا لم يستغن به، يعني: لو أنه كان يشرب الحليب، ثلاثة أرباع غذائه الحليب، ثم تأتي أمه فتعطيه الرز المطحون، لكنه ليس هو استقلالاً في الطعام، فيقول: هذا لا بأس به فيرش، أما لو استقل بالطعام ولكنه لم تعطه الحليب من باب أن يشب، فقالوا: حينئذٍ فهذا يجب غسل بوله.
القول الرابع: قول ابن قدامة ، وهو الذي نصره النووي في شرح مسلم وغيره، وهو قول الحافظ ابن حجر قالوا: إن المقصود الغلام الذي لم يأكل الطعام ولم يشتهيه، وإن كانت الأم تضع شيئاً في يده ويأكله، لكن المقصود ألا يتلهف لأكله، فإذا كان يشرب الحليب وتعطيه الأم كسرة خبز أو غير ذلك ليمضغها فهذا لا بأس بذلك، فإن اشتهى الطعام بحيث إذا رآه بدأ يبكي يريده، فهذا يجب أن يغسل من بوله، وإذا كان لم يستقل بمعنى لم يشتهه إذا رآه، فهذا يرش من بوله، ولعل هذا أظهر، والذي حداهم إلى هذا قول أم قيس بنت محصن ( فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها صغير لم يأكل الطعام )، قالوا: فمن المعلوم أن قوله: (لم يأكل الطعام) لم يكن على ظاهره، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيحنكهم، وكانوا إذا مرض الصبي يعطونه العسل، فيتلمضه، وهذا يدل على أن المقصود كما مر ألا يكن الطعام مشتهى عند الصبي والله أعلم.
الآن بعض المفكرين إذا جاء حديث ونص الحديث في البخاري و مسلم وغيره، يقول: لكن مقاصد الشريعة كذا، فيجعل مقصد الشريعة الظني في جزئيته على القطعي في ثبوته وهو الحديث، فلا يمكن أن نبطل حديث بدعوى مقصد، المقصد ظني في هذه المسألة، لكن مع ذلك لا مانع أن نذكر الحكم لأجل أن تستطيب قلوب بعض الناس، فإن بعض الناس إذا عرف الحكمة ربما يرتاح، ولأجل هذا يحسن من الفقيه والمفتي إذا أفتى الناس أن يبين فلسفة التشريع؛ لأن بعض الناس بسبب تأثير الثقافة الأوروبية والغربية على البيئة الإسلامية، بدأ لا ينظر إلى الأحاديث إلا بطريقة عقلية بحتة، فإذا قلت له: إن مثل هذا الحديث إنما قصد به التخفيف والتسامح لأجل أن الشارع كان يعلم عموم البلوى في حمل الصبي من هذا وغيره، وكانوا يتخففون من حمل الجارية، هذا قول.
وبعضهم قال: إن بول الغلام أخف من بول الجارية، فبول الجارية ثخين فوجب غسله، أما بول الغلام فهو خفيف فخفف فيه بالنضح، هذا قول.
القول الثالث: أن أبا اليمان المصري سأل الإمام الشافعي فقال حديث أبي السمح : ( يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام )، قال: ما بال بول الغلام عن بول الجارية؟ قال الشافعي رحمه الله: لأن الغلام خلق من ماء وطين، والجارية خلقت من الدم واللحم، ثم قال: أفهمت؟ أو قال: لقنت، نقل ذلك ابن ماجه في سننه قال: لقنت يعني: فهمت، قال: لا، قال: إن الله خلق آدم من ماء وطين، وآدم ذكر، وخلق حواء من ضلع آدم وهو الدم واللحم، فقال: نعم، جزاك الله خيراً، وهذا يستأنس به، وإلا ليس فيه ما يقوي هذا، ولأجل هذا نحن نقول: لو قيل بأنه من باب التخفيف؛ لأنهم في العادة يكثر الناس من حمل الصبي، وإن كانوا يستحون ويتخففون من حمل الجارية لم يكن ببعيد، ولكن الأصل هو الحكمة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بها، والله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة : ( يا رسول الله! فإن لم يذهب الدم؟ قال: يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ) أخرجه الترمذي ، وسنده ضعيف ].
ومما يقوي هذا أيضاً: ما جاء عند البخاري و أبي داود واللفظ لـأبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا رأت فيه الدم بلته بريقها فنصعته ثم صلت فيه ).
إذاً: ابن لهيعة اضطرب في هذا الحديث، وعلى هذا لا يمكن أن يصحح الحديث، فالحديث ضعيف، وإن كان معناه صحيحاً فقد أجمع أهل العلم عليه، خلافاً لما نقل عن ابن عمر كما سوف يأتي بيان ذلك.
المسألة الأولى: وجوب غسل دم الحيض، وهذا يدل على نجاسة الدم، ولا فرق بين دم الحيض من غيره، كما هو قول عامة أهل العلم، بل نقل المالكية الإجماع على ذلك، ونقل عن أحمد أنه قال: الدم نجس لا يختلفون فيه، كما ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وهذا كما قلت هو قول الأئمة الأربعة وهو قول أكثر السلف.
وذهب بعض السلف إلى طهارة الدم باستثناء دم الحيض، قالوا: الأصل في الدم أنه طاهر، وهذا روي عن ابن مسعود كما روى عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه نحر جزوراً فأصابه من فرثها وصلى، وهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله، وقد كان قول محمد بن سيرين ثم أحجم عنه. وهذا يدل على أنه ضعيف، ولو صح فليس فيه دلالة على أن الدم الذي وقع في ثوب ابن مسعود هو الدم المسفوح، وربما يكون الدم الذي يكون في الذبيحة، وعلى هذا ذهب الألباني و الشوكاني ، وشيخنا محمد بن عثيمين إلى طهارة الدم إلا دم الحيض، واستدلوا بقصة عباد بن بشر كما عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يحفظ لنا ليلتنا هذه فقام
وقالوا: إن البخاري روى معلقاً بصيغة الجزم عن الحسن البصري : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم.
والراجح والله أعلم هو القول الأول؛ أن الدم الأصل فيه أنه نجس، وإن كان ما نقل عن بعض الصحابة يدل على التخفيف كما نقل عن عائشة و ابن عمر أن الدم يعفى عن يسيره، ومما يدل على هذا أن أصحاب القول الثاني لم يأتوا بدليل يدل على أن الدم طاهر.
وأما قصة عباد بن بشر وهو أن الدم يثعب ماذا تريدون؟ يذهب إلى المستشفى ليجرون عليه عملية خياط، هذا إذا كان الدم مستمراً فيه ما يستطيع، والله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، بل يستدل بهذا الحديث على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، ولهذا ذهب مالك و الشافعي خلافاً لـأحمد أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، ويستدل له بحديث عباد ، أما أن يقال: إن الدم نجس أم لا؟ فهذا لا يستدل به.
وكذلك يقال: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، إذا جاء وقت الصلاة والدم يثعب ماذا تريدون يصير؟ يؤخر الصلاة يومين أو ثلاثة يجمع لا، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن الدم نجس، ولا فرق بين دم الحيض وغيره، ومما يدل على أن الدم نجس أن الله يقول: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، والدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من الحيوان مع بقاء حياته، فالدم المسفوح الذي يذبحه الإنسان في البهيمة من الحلق نجس، ما زالت البهيمة حية، فهذا يسمى الدم المسفوح، وإذا قطع الإنسان أصبعه أو قطع من أصبعه فنزل الدم فهذا يسمى دماً مسفوحاً؛ لأنه دم يخرج من الحيوان ما بقيت حياته والله أعلم.
وعلى هذا فإن الراجح والله أعلم كما قلنا: إن الدم نجس.
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية أنه لا يلزم إزالة النجاسة بالماء؛ بل النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال حكمها، وقد ذكروا الأدلة، ونحن ذكرنا هذه المسألة في موطن آخر.
والقول الثالث: إن الأصل الماء، ولكن يعفى للحاجة في بعض المواطن، مثل الثوب إذا كان يسحب في الأرض فيطهر ما بعده، وكذلك الأحذية إذا جاء الإنسان في المسجد كما في حديث أبي سعيد الخدري وغيره والله أعلم، والأولى -كما قلت- القول الثالث: أن الإنسان لا يستخدم إلا الماء في إزالة النجاسة ويعفى عمّا جاء في الأحاديث، لعل في ذلك جمعاً، وإن كان إذا زالت النجاسة مطلقاً فإنه يطهر والله أعلم، كذلك قلنا: إنه لا يلزم لإزالة النجاسة العدد؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها، وهذا هو قول جمهور أهل العلم خلافاً للحنابلة الذين يقولون: إن كانت النجاسة بولاً أو غائطاً فيجب إزالتها بسبع؛ ولكن الصحيح أنه لا فرق بين النجاسة بالماء من البول والغائط أو غيره.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: جاء في الحديث أنه يغسل المني، ثم يذهب إلى الصلاة، قالوا: إن هذا دليل على أن المني نجس بدليل أن الرسول أمر بغسله، هذا دليل أثر المني. لكن أثر النجاسة إذا لم تزل فإنه لا يضر، كما قال النبي في حديث خولة : ( يكفيك الماء ولا يضرك أثره )، وهذا مجمع عليه وهذا منها، لكن هذا فيه تكلف؛ لأن أثر المني المقصود به ليس له لون حتى يقال: له أثر اللون، ولكن أثر المني الذي هو أثر الجرم، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر