الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وبعد:
فقبل الولوج في هذا الشرح، لا بد من كلمة تثير الهمم، وتعين على الطلب؛ لأن طالب العلم لربما نظر ذات اليمين وذات الشمال، ورأى انصراف الناس عن علم الوحيين، حتى إنه ليخيل إليه حينما يستدل بالكتاب والسنة، أن الناس ربما يرغبون أكثر حينما يتحدث عن بعض فلاسفة العرب، ولربما ترنحوا أكثر من أن تقول لهم: قال أبو حنيفة ، أو قال مالك ، أو قال الشافعي ، أو قال أحمد ، أو أن تستدل بآثار سلف هذه الأمة، وهذه موجة تعتري الناس، مثلما تعتريهم موجات الأسهم، أو موجات العقار، أو موجات الانصراف إلى الدنيا.
وثواب الآخرة هي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأقول هذا لأنه ربما ذكر الإنسان بالكتاب والسنة، فاستثقل ذلك بعض الناس، وذلك لأنهم بعيدون عن نور الوحيين، فإن الوحيين نور، ولهذا قال الله تعالى في حق كتابه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، فهو فخر لأهل الإيمان والتوحيد، ولمن أراد أن يعصمه الله من نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى.
وفي الفترات التي تعتري الأمة، فإنا وإن رأينا انصراف الناس عن العلم، فإنني أقول لكم مبشراً: إن هناك في بلاد المغرب، وفي بلاد الشام أناساً وهم في المهد، أو في أصلاب آبائهم يريدون أن يتعلموا ما أنتم عليه، ولأن انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فإن دروس الشروح في الأحاديث والفقه تلقى فيمتلئ المسجد حتى تقول: إن الأمة لن ترجع إلى ترك العلم، ثم شيئاً فشيئاً حتى ينصرف الناس عن العلم، بل يخذلك من كان معك، فيقول: علم الدروس في المساجد وانصرف هو وأقبل على الإعلام كالقنوات وغيرها.
لكني أقول لكم: إن في بلاد المغرب الآن كتونس وغيرها أناساً يسألون عن العلم، ويبحثون عن علم الوحيين، ويتصلون ويسألون ويشاركون، وما الأكاديمية الإسلامية المفتوحة -التي تحت إشراف قناة المجد- إلا أكبر دليل على أن ثمة أناس في بلاد المغرب الإسلامي يريدون العلم الذي انبثق من الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، فإذا انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فسوف يأتي بأهل بلد آخر يقبلون على العلم.
وأقول لكم: ماذا كانت هذه البلاد لولا انتشار علم الوحيين؟ وما هذه الخيرات إلا بسبب أن الله سبحانه وتعالى قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55]، فهذه البلاد عاشت عيشة أهل الإيمان، وعاشت عيشة أهل التقوى، فمنحهم الله شيئاً لم يمنحه أحداً غيرهم، فمنحهم من الدنيا ما يتمناه الغرب كلهم بل إنهم يحاربون لأجلها، وما كان ذاك ليكون لولا أن الله علم في قلوب أجدادنا وآبائنا من التقوى.
وحينما أقول هذا الكلام: فإنني أستشعر معنى قول الله جل جلاله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82]، فإننا لا ندري فلربما هذا النعيم الذي نعيشه، وهذه الخيرات التي نتفيؤها كان سببها أجدادنا وآباءنا الذين قد غطى الثرى قبورهم فبسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم أنعم الله علينا.
فإن لم نتقو بها على طاعة الله، ونعين بها على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ونبث للناس ما يريدونه منا من الحضارة الحقيقة، وليس الحضارة التقنية، والحضارة الحقيقية هي حضارة الإيمان، والتقوى، والنزاهة، والعفة، ففي الوقت الذي يتكالب الأعداء في قنواتهم الماجنة وكليباتهم الساخرة، فإننا بحاجة إلى أن نبث هذا العلم، وهذا الدين، وهذا الوحي إلى الناس؛ لأنه نور، وروح، ووحي، ومن حرمه فقد حرم الخير كله.
أقول لكم ولست مبالغاً: بالأمس كان الإخوة يسألون عن الحديث، وعن الأثر، وعن الدليل في بلاد المغرب في ليبيا، وفي تونس، وفي مصر، وفي سوريا، وفي الأردن فلقد بدءوا يقبلون على العلم، بينما كانوا بالأمس لا يجدون من يبين لهم الحكم الشرعي والدليل، فلهذا اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرفع من يشاء، ويخفض من يشاء بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فالملك ليس ملك الرئاسة فقط، بل ملك المحبة في قلوب الخلق، وإذا كانت هذه البلاد قد اكتسبت محبة في قلوب الخلق من سائر الناس، فإنهم إن لم يستمروا على ما هم عليه، وإلا فإن الناس تعرف الخير من غيره، وتعرف الصلاح من غيره وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
والميزان هو الكتاب والسنة، ونشر العلم مطلب، ولا تبال بالمخذلين، أو من يقول: فلان لم يكن كذلك، أو لم يكونوا يعلمون عنه إلا إذا كبر، بل علم العلم، فإن كنت إمام مسجد فاقرأ للناس بهدوء، وبين لهم بعض الأحكام الشرعية، واقرأ عليهم كتاب رياض الصالحين، وعلق بعض الأشياء البسيطة التي ليس فيها تضييق على أرزاق الناس ومعاشهم بالتطويل؛ لأنهم ربما يكونون في اجتماع، أو في شغل، فأعطهم وجبةً إيمانية تذكرهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفوا، فيذكرونك ويتذكرونك؛ لأنك أعنتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.
ولا يدري الإنسان فرب كلمة يقولها الإنسان لا يبالي بها، فيفتح الله بها على أناس، فقبل سبع سنوات أو ست سنوات حين غرق بعض الحجاج في منى في اليوم الثاني عشر، كان الناس يموجون، وكان الحجاج كثر، فبدأ الناس يبكون خائفين لا يدري أحدهم أين ثيابه؟ ولا أين شنطته؟ ولا أين أهله؟ وانصرف الناس من خيامهم، فبدأت النساء والرجال يأتون من مخيم إلى مخيم، وكان مخيم حملة الراجحي قريباً من السقوط، والناس يأتون إليها من الجبال، فبدأ الإخوة يتعاونون على إمساك فسطاط الخيمة، فلا أذكر ماذا كنا نقول. لكني ذكرت الإخوة بالعزيمة والصبر، وبذل ما يستطيعونه، وبعد سنين اتصل علي أحد الإخوة ولم يكن على هداية، فذكرني بهذا الموقف وقد فتح الله عليه وهداه، فالإنسان لا يدري أين الخير ولكن أهم شيء أن يذكر الآخرة، ويذكر بالإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا علم منك الصدق؛ فسوف يسمعك ويسمع الآخرين، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23].
والإسماع: ليس إسماع الأذن، بل هو إسماع القلب، وأما إسماع الأذن فما فيه خير ولا فائدة، ولهذا قال تعالى في حق المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً [محمد:16]، فإذا علم الله سبحانه وتعالى من قلب الإنسان الصدق، وأقبل على العلم، واحترم أهل العلم، وقدر أهل العلم، فإن الله سبحانه وتعالى يحفظ عرضه، ويحفظ ذكره، ويحفظ علمه.
وأما من فرى لسانه بأعراض المسلمين، وأعراض أهل العلم؛ فإن الله لن يبارك له في علمه، وما أجمل! وما أروع! وما أحسن! وما أصفى! قلب ابن مسعود حينما كان ينظر إلى العاملين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة الدين فيقول: ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى أنزل الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، ومن منا الآن يستطيع أن يقول: كل العاملين في خدمة الدين يريدون وجه الله! إن البعض منا لم يبق عنده من العاملين للدين إلا هؤلاء الذين ماتوا ابن باز و ابن عثيمين فقط، هذا واقعنا، فإذا تحدث أحدنا أن فلاناً عالم رباني قال: ليس هناك عالم رباني، لماذا؟ فهل لا بد أن يكون العالم الرباني مفتياً على حسب رغبتك؟ أو ينكر على حسب ما تريد؟ فالعالم الرباني هو الذي لا يقول منكراً، بل لا يقول إلا حقاً، وقد يجبن العالم الرباني عن قول الحق، لكن هذا لا يضيره.
فإن جمهور أهل العلم قالوا: إذا خاف الإنسان على نفسه أو ولده أو ماله؛ يجوز له ألا يتكلم بالحق، فأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن ما خرج على السلطان وقال: لا، بل القرآن ليس مخلوقاً، بل كان يختبئ ويختبئ، حتى كان الجند يطرقون عليه الباب يبحثون عنه، فإذا قالوا: أحمد بن حنبل في البيت؟ قال: ليس هنا وأشار إلى كفه، وكان يفعل ذلك خوفاً من أن يكذب رحمه الله، حتى قبضوا عليه وامتحنوه؛ فصبر رضي الله عنه.
فالإنسان أحياناً لا يستطيع أن يبين الحق بالتي هي أحسن، فإن رضي الناس؛ فالحمد لله، وإن لم يرضوا؛ فالحمد لله، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ ، ينهون أو يزيلون؟ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ [هود:116]، إذاً: أوجب الله على أهل العلم، وعلى طلبة العلم أن يبينوا أن هذا منكر وهذا ليس بمنكر، أما بقاء المنكر، أو صولة أهل المنكر، فهذا ليس من مسئوليتهم، ومهم جداً أن نفقه هذا الأمر.
وأنا أقول لكم: إنه لا يوجد منكر في هذا البلد إلا وقد أنكر، علمه من علمه وجهله من جهله، لكن لا يلزم من إنكاره إزالته؛ لأن الله لم يكلفنا هذا الأمر، إنما كلفنا بيان أن هذا منكر، لأجل أن يعلم الناس أن ما يقعون فيه منكر، وأعظم من ذلك أن يفتى بأن هذا المنكر ليس بمنكر، وهو التقول على الله بغير علم، والتوقيع عن رب العالمين: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116]، وأنا أقول لكم: كل من يفتي، أو يكتب، أو يتحدث في وسائل الإعلام، ويتقول على الله وعلى دينه وعلى أهل العلم بشيء، والله الذي لا إله غيره أنه لن يفلح، ولا بد أن يفضح، وأن ينبذ، ولو اقترب من السلطان زمناً، فإنه سوف ينبذه السلطان، هذه سنة الله في خلقه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116].
إذاً: فهم لا يفلحون في الدنيا، ولا يفلحون في الآخرة، وما يحصل لهم من شيء فإنما هو متاع قليل، وإن ربك لبالمرصاد.
ومما يجعلك تطمئن وترتاح، ويطيب حالك، ويسعد بالك أن تعلم أن الحق منصور.
والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن
والإنسان يخطئ، لكن لا ينبغي أن نشدد على خطئه، خاصةً إذا كان من عامة الناس، فنبين له، ونتحبب إليه، وصاحب المنكر إذا علم منك أنك تحبه، والله إنه سوف يجاملك ويترك هذا المنكر، وأذكر أن أحد الدعاة كان يقول بالغناء قبل عشرين سنة، ويفتي به، وكتب عنه في إحدى الجرائد المحلية قبل عشرين سنة، فدعاه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وطلب منه أن يحضر؛ فحضر، فقال له الشيخ: يا فلان! أما تخاف الله؟ هذا منكر، قال به فلان، وبدأ الشيخ عبد العزيز يبكي ثم رفع يديه وهو يدعو: اللهم اهد قلب فلان ابن فلان، يقول: فمن هذا الموقف تركت الغناء وتركت الفتوى به، وهداني ربي؛ لأنني علمت أن الشيخ صادق في هذا الأمر.
فالناس بحاجة إلى قلب صادق، قلب يحمل لإخوانه المحبة، وإذا قام داعية أو طالب علم يريد أن يتكلم في الحق، فإذا كان في قلبك أنك تتمنى أن يخطئ أو أن تكون أفضل منه، فاعلم أن قلبك ليس بقلب صافي، واعلم أنك لست بمخلص، وإذا علمت أن فلاناً سوف يتحدث عن قضية من القضايا، أو قال قولاً فذهبت وسجدت لله دعوت: اللهم ثبت فلاناً، اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه، فإنك استفدت أمرين:
أولاً: سوف يظهر الحق الذي تكلم به فلان.
ثانياً: أن الملك سوف يقول لك: آمين ولك بمثل، فإذا صلح حال أهل الخير وأهل العلم وأهل الدعوة؛ فإن الأمة بخير. أما أن يكون كل حزب بما لديهم فرحون، فهذا والله! الذي ما كان ولا يكون، ولهذا حينما فقط رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يختلفون في القرآن، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وليس لهم مرجعية علمية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ( خرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ).
ولا يبقى العلم للعالم إلا إذا جثى على الركب، وصبر في تعليم الناس، وإذا انصرف إلى التأليف أو الفتاوى أو غيره، فإنه علمه يضمر، فإذا لم يقوه بالمذاكرة، والمراجعة، والبحث، والدرس؛ فإنه سوف يضمر، مهما بلغ من الحفظ، ومهما بلغ من الجلد، ولا أريد أن أقول لكم: إن بعض العلماء المعاصرين وهو مكثر من التأليف في سائر أبواب الفقه، وسائر أبواب الحديث، ربما إذا سئل في مسألة صغيرة يخطئ فيها، والسبب أنه لم يعلم طلابه دروس العلم؛ لأن دروس العلم تعين طالب العلم على استحضار المسائل، واستحضار العلم، وشيئاً فشيئاً حتى يتراكم العلم، ولهذا تجد بعض طلبة العلم ربما يكون فقيهاً، لكن ليس عنده دروس، فإذا طلب منه أن يفتي، قال: الفتوى صعبة، وليست صعبة، وإنما صعبت عليه؛ لأنه لم يعتاد أن يفتح دروساً للناس في أبواب الفقه، أو أبواب الحديث ويستحضر المسائل، فبسبب قصور فيه يعلق ذلك على صعوبة الفتوى، وإلا فالفتوى سهلة. فلماذا يجيب إذا سئل عن حكم قراءة الفاتحة كأنه سيل عرمرم، ولماذا يجيب عن مسألة حكم الترتيب في الوضوء بديهة، ولماذا يسأل عن أحكام في الطهارة فيجيب؛ لأنها حاضرة في حياته.
ولو أن مسائل العلم في المعاملات، وفي فقه الأسرة، وفي بعض مسائل العبادات حاضرة في ذهنه تدريساً وسؤالاً ومناقشة وبحثاً لسهل عليه الفتوى، ولسهل عليه العلم، والله أعلم.
وقد رواه البخاري و مسلم في باب النفخ في التيمم، أو باب المتيمم هل ينفخ فيهما، ورواه من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فسأله: إني أجنب فلم أصب الماء، قال عمار لعمر ، وكان عمر لا يفتي بأن من عليه حدث أكبر أن يتيمم، وكان ذلك قولاً قاله عمر ، فقال عمار لعمر : ( يا أمير المؤمنين! أتذكر حينما كنت أنا وإياك في سفر فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يكفيك هكذا وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضربةً واحدة ومسح كفيه ووجهه، وفي رواية: وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه )، فسكت عمر، قال عمار : إن شئت يا أمير المؤمنين! ألا أحدث، قال: لا، نولك ما توليت، هذا هو حديث الباب.
وفي حديث الباب مسائل.
القول الأول: إن التيمم رافع للحدث الأكبر والأصغر، فمن أجنب؛ فله أن يتيمم بنية رفع الحدث الأكبر، ومن لم يجد الماء وقد أحدث حدثاً أكبر؛ فإنه له أن يتيمم، هذا هو قول الأئمة الأربعة، وهو قول جماهير الصحابة والتابعين؛ لعموم قول الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43]، وجه الدلالة: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، فسره ابن عباس بالجماع، وقوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، دليل على الحدث الأصغر.
قالوا: ومما يستدل به في هذا الباب حديث عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتيمم لأجل حدث أكبر، وكذلك حديث عمرو بن العاص قال: ( يا
واستدلوا بحديث أبي هريرة وحديث أبي ذر : ( الصعيد الطيب طهور المسلم )، وفي رواية أبي ذر: ( ولو لم يجد الماء عشر سنين )، وكذلك جاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين قال: ( يا فلان! ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، فأعطاه ماءً وقال: خذ هذا فأفرغه عليك، وكان قبل ذلك قد أمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم )، وجه الدلالة: (وكان قبل ذلك قد أمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم) مع أنه قد أصابته جنابة.
والقول الثاني في المسألة: قول عمر كما روى مسلم ، وقول عبد الله بن مسعود كما في الصحيحين، ونسب إلى إبراهيم النخعي وهو أن التيمم لا يرفع الحدث الأكبر، وقد كان عبد الله بن مسعود يرى أن هذه الآية: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، إنما هي في الحدث الأصغر، ويرى أن قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، إنما هو الملامسة الحقيقية وليست الملامسة المجازية.
ولهذا قال: أو لم تر عمر لم يقنع بقول عمار ، يعني: أن عبد الله بن مسعود يقول: إن عمر لم يتذكر قول عمار ، فلا بد أن يكون أحدهما قد نسي، فلأن يكون عمار هو الذي نسي أولى من أن يكون عمر ، هذا عند ابن مسعود ، وكان ابن مسعود معظماً لأقوال عمر ، وهو معروف عنه ذلك.
والذي يظهر والله أعلم: هو القول الأول، بل إنه صار إجماعاً، وقد ذكر ابن تيمية و النووي أنه نقل عن عمر وعن ابن مسعود أنهما رجعا عن هذا القول، وهذا الظن فيهما، وهو اللائق بهما رضي الله عنهما، وقد بالغ بعض العلماء في النكير على هذا الأمر، بل قال شيخنا عبد العزيز بن باز في تعليقه على فتح الباري: وهذا ساقط؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، والله أعلم.
ذهب عامة أهل العلم، وهو قول جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: إلى أن للإنسان أن يأتي أهله، ولو لم يكن عنده ماء؛ لأن الله أباح للرجل أن يأتي أهله، ولم يقيده بقيد، فدل على أن ذلك جائز وجد عنده ماء، أو لم يوجد عنده ماء، ولهذا قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه : هي سنة مسنونة من النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر و عمار وقد فعله ابن عباس ، يعني: أن عماراً ما قال له صلى الله عليه وسلم: لماذا أتيت أهلك؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
القول الثاني في المسألة: نقل عن عمر و ابن مسعود و الزهري : أن من ليس عنده ماء فلا يأتي أهله، وقال مالك بن أنس : ما أحب لمن لم يجد الماء أن يصيب أهله، وقول مالك يدل على الكراهة، أما التحريم فلا يفيده والله أعلم.
والراجح هو قول عامة أهل العلم، ولا حاجة أن نقول: هو قول ابن المنذر وقول ابن تيمية وقول ابن القيم وقول فلان؛ لأن هذا شبه إجماع، بل حكى بعضهم الإجماع على جواز ذلك، والله أعلم.
وذهب الشافعية ورواية عند الإمام أحمد ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية : إلى أن التيمم لا يشترط فيه الترتيب. وإن كان الأفضل موافقة ظاهر القرآن.
واستدلوا بما جاء في رواية مسلم : ( إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ضربةً واحدة، ثم تمسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيك ووجهك )، فقدم اليدين قبل الوجه، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أنه لا يشترط الترتيب في التيمم؛ وذلك لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد استفاد ذلك الصحابة، كعمار فمرة يذكر تقديم الوجه، ومرة يذكر تقديم اليدين والله أعلم.
إذا ثبت هذا: فمن عنده ماء لا يكفي لسائر أعضائه، فهل يتيمم ثم يتوضأ؟ فيتمم لما لم يصبه الماء بعد استكمال الماء؟ أم يتوضأ ثم يتيمم؟ مثاله: لو أن عندي ماء، لا يسع إلا لغسل وجهي وأنفي والمضمضمة واليد اليمنى فقط، فالراجح هو مذهب الشافعية والحنابلة: أنه يستعمل الماء لبعض الأعضاء ثم يتيمم للباقي، وإذا ثبت هذا فأيهم أقدم؟ هل أقدم الماء ثم بعد ذلك أتيمم؟ أم أقدم التيمم لما بعد اليد اليمنى، ثم بعد ذلك أتوضأ؟
قولان عند أهل العلم، فذهب الحنابلة في رواية قواها ونصرها أبو يعلى : إلى أنه يبدأ بالماء، ثم بعد ذلك يتيمم؛ لأن الترتيب في الوضوء واجب، فإن هو قدم التيمم على ما لم يصله الماء بعد؛ فإنه قدم طهارة بعض الأعضاء على بعض؛ لأنه إذا تيمم، فإن تيممه إنما هو بنية رفع حدث ما بعد اليد، ثم إن هو توضأ؛ فإنه يكون قد قدم بعض الأعضاء على بعض، فكما أنه لا يصح أن يبدأ وضوءه في غسل رجليه، ثم يديه، ثم رأسه، ثم وجهه، فكذلك لا يصح أن يتيمم لما بعد الماء ثم يتوضأ.
والقول الثاني في المسألة: هو جواز أن يبدأ بالتيمم، ثم يتوضأ، وهذا هو مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
ولا يدخل في هذه المسألة مالك ، و أبو حنيفة لأنهم لا يرون الجمع بينهما، وقد نصر هذا القول وقواه أبو العباس بن تيمية ورد على أبي يعلى وقال: ولو قلنا بوجوب الترتيب في الوضوء، فإنه لا بأس أن يتيمم، ثم بعد ذلك يتوضأ، وهذا هو الراجح والله أعلم، وذلك لأن من المشقة أن يتوضأ ثم ينشف أعضاءه ثم بعد ذلك يتيمم، فلو تيمم والماء في يديه؛ لكان في ذلك عسر ومشقة والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ولأنه لما جاز له أن يتيمم للحدث الأكبر، ثم يتوضأ للحدث الأصغر، فإنه لا بأس أيضاً أن يتيمم لبعض الأعضاء ويتوضأ للبعض الآخر، وهذا أقوى، كفعل عمرو بن العاص ، وعلى هذا فالراجح: أن الترتب في الوضوء إنما هو في الماء فقط، وأما فيما اجتمع فيه الماء والتيمم فليس بواجب والله أعلم.
وهذا مثله، مثل الحروق فإن المالكية يقولون: إذا كان في يده حروق ولا يستطيع أن يمسح فبعضهم قال: يتوضأ ويسقط عنه هذا العضو ولا يتيمم، وبعضهم قال: يتيمم ولا يستعمل الماء، والأقرب عندهم أنه يستعمل الماء مطلقاً، لأن الماء أولى، أما على مذهب الشافعية والحنابلة وهو الراجح: فإنه يتيمم أولاً لما يعسر مس الماء فيه، ثم بعد ذلك يتوضأ، وشيخنا ابن باز يرى جواز الجمع، وبالمناسبة شيخنا عبد العزيز بن باز في المسائل التي ليس فيها دليل، في الغالب لا يحب مخالفة مذهب الحنابلة أو الجمهور، هذا في الغالب، خبرته كثيراً وسألته في مسائل في مثل هذا، وفي باب المسح على الخفين وفي كتاب الجمعة وغير ذلك من الأبواب فالظاهر أنه على هذا الأمر والله أعلم، وإذا رأى أن القول خلافه ولم يكن عليه دليل، يقول: الأحوط، فيذهب إلى مذهب الجمهور أو مذهب الحنابلة، ويسوغ القول الآخر والله أعلم.
وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43]، من المعلوم أن جمهور أهل العلم يقولون: هذا حال العجز عن وجود الماء: إما عجزاً حسياً، وإما عجزاً شرعياً، وهذا من العجز الشرعي وليس من العجز الحسي، فالعجز الشرعي هو: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فالذي يستطيعه من فقد الماء هو التيمم، ولهذا جوز النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص أن يتيمم على الرواية، ويتوضأ.
فالقول الأول: هو مذهب الجمهور، ومذهب الحنابلة، وهو أن الجهالة ليست عذراً في ترك المأمور، بل المذهب عند الحنابلة: أن النسيان عذر والجهل ليس بعذر، فمن أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، ومن أكل جاهلاً بأن هذا مفطر، فإنه يلزمه الإعادة، واستدلوا بحديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، كما نص على ذلك ابن قدامة ، إذاً: القول الأول: من فعل ما خالف فيه المأمور؛ وجب عليه أن يعيد، ولو طالت المدة، وعلى هذا: فالذي كان يجنب ولا يغتسل؛ فإنه مأمور أن يعيد الصلاة ولو مكث شهراً، وقد رجح هذا أبو يعلى من الحنابلة.
القول الثاني: هو رواية عند الإمام أحمد ، وهو قول للشافعية، وهو ظاهر قول بعض الصحابة كـابن عباس و عمار ، وهو أن التكليف إنما هو من حين العلم، ووقت العبادة لا يزال قائماً؛ لأن فعله حال مخالفة المأمور كأن لم يكن، وما دام الوقت باقياً، فهو مأمور بأداء فعل العبادة، واستدلوا على ذلك بأدلة:
منها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة ( أن
واستدلوا بحديث عمار بن ياسر فإنه لم يفعل المأمور وهو التيمم، وإنما صنع ما خالف فيه المأمور، ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبالمناسبة فإن أبا العباس بن تيمية يرى أن الجهالة يعذر صاحبها، وحينما جاء إلى حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، رأى أنه يفطر، وهو مشكل على أصول ابن تيمية ؛ لأن ابن تيمية يقول: إن حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لهذين كانا جاهلين، فإما نأخذ بمذهب الحنابلة في هذا فنقول: إن الجهل ليس بعذر وهو مفطر، وإما أن نقول: إن الجهل عذر وهو غير مفطر.
مع أنه يقرر أن الجاهل في الصوم يمسك ويصح صومه إلا في هذا الحديث، ومن الإشكال في هذا الحديث أيضاً، أنه عندما سئل ابن تيمية قال: هذا المحجوم فما بال الحاجم؟ قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، إنما خاطب ما كان موجوداً في عهده، وهو أن الحاجم إنما يمص القارورة من فمه، فلا يدري فلربما دخل في حلقه شيء، والحكمة إذا كانت ظنية أنيط الحكم بها، هذا كلام ابن تيمية ، والسؤال هو: أبو العباس بن تيمية قرر قاعدة وهي: أن الفطر لا يثبت إلا إذا كان الإنسان عالماً، ذاكراً، مختاراً، فهذا الذي مص القارورة لم يكن مختاراً، فما دخل في حلقه لم يكن باختياره فلماذا يفطر؟ الجواب:
لأنه اختار المص ولم يختر الابتلاع، ويورد عليه إشكال المضمضة إذا ابتلع صاحبها شيئاً من الماء وكذلك الاستنشاق.
فإنه يقال: اختار المضمضة ولم يختر الابتلاع وهكذا.
أما المبالغة في الاستنشاق فلو أنه دخل في أنفه ماء مع المبالغة، فإن جمهور أهل العلم بما فيهم الحنابلة وابن تيمية لا يرون ذلك، والله أعلم.
والقول الثالث: هو رواية عند الإمام أحمد اختارها محفوظ الكلوذاني ، و محفوظ الكلوذاني : هو أبو الخطاب صاحب الهداية، فإنه فرق بين ما كان الحكم قد نسخ، وبين ما كان قد نشأ من غير نسخ، فقال: إن كان قد نسخ؛ فإنهم يعذرون بجهلهم، وإن لم يكن قد نسخ، إنما جاء إنشاءً فإنه لا يعذر استدلالاً بقصة تغير القبلة، فإن الرجل حينما دخل عليهم وقال: ( أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قبل مكة انحرفوا وهم يصلون قبل بيت المقدس )، قالوا: لأن هذا قد نسخ حكمه، فهم مأمورون ابتداءً باستقبال بيت المقدس ثم نسخ.
والراجح هو القول الثاني والله أعلم.
وإذا لم يقتنع فلان لقوله، قال: مشكلتك أنك لا ترجع إلى الحق. وهذا واقعنا مع الأسف الشديد، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بأخيه، والمناظرة العلنية ليست مثل المناظرة الفردية أو الثنائية، ولهذا الله أمر سبحانه وتعالى نبيه في مناظرة المشركين فقال: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46]، أما مناظرة فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:17-18]، فإن الخصم لن يقبل، وهذا أمر معروف.
ولهذا المناظرات العلنية يقصد فيها إقامة الحجة على المخالف نفسه فقط بل عليه وعلى الآخرين من أتباعه. والله أعلم.
فرواه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، ورواه هشيم بن بشير و يحيى بن سعيد القطان وغيرهما عن نافع عن ابن عمر من فعله، ورواه محمد بن ثابت مرفوعاً، فاستنكره الإمام البخاري ، وأبو حاتم وقال البخاري : إنما صح من فعل ابن عمر رحمهم الله جميعاً.
وإذا ثبت هذا: فإنه قد صح عن ابن عمر من فعله، وقد رواه مالك عن نافع عن ابن عمر ، ورواه أيوب السختياني وغيره عن نافع عن ابن عمر ، فدل ذلك على أن الصواب أنه من فعل ابن عمر وليس من قوله، ولم يتفرد علي بن ظبيان برفعه، بل رواه ثلاثة محمد بن ثابت وأنكره أبو حاتم و البخاري وسليمان بن أبي داود عند الدارقطني و سليمان بن أرقم عند الدارقطني والسليمانان ضعيفان ولا يفرح فيهما، فقد أنكره أبو حاتم و أبو زرعة و الدارقطني وغيرهما.
وقد جاء عن جمع من الصحابة الضربتان في التيمم، منهم جابر بن عبد الله فقد روى البيهقي و الدارقطني أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه كان يرى أن التيمم ضربتان، وروي هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً، وقد رجح الدارقطني أن الصواب أنه موقوف، وكذلك أشار إليه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، وذكر أن الرواية المرفوعة شاذة، وممن نقل عنه الضربتان أبو أمامة رضي الله عنه، ولكن الرواية ضعيفة، فقد رواه الطبراني عن جعفر بن الزبير وهو وضاع. ونقل عن عائشة رضي الله عنها أنها تقول ذلك، رواه البزار ، وضعفه لتفرد الحريش بن الخريت وأنكره أبو حاتم وقال: ليس بشيء.
ونقل عن عمار بن ياسر ، فقد روى ابن ماجه و البيهقي في أول ما نزل حكم التيمم، قال عمار : ( إنهم تيمموا، فجعلوا يتمسحون بأيديهم إلى آباطهم ومناكبهم )، وهذا الحديث بعض أهل العلم ضعفه، وبعض أهل العلم صححه، فممن صححه فيما أحفظ ابن حزم إلا أنه قال: إن ذلك لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان باجتهادهم، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بحكمه، فهذا اجتهاد من عنده، وما كانوا يعلمون الحكم، والذي يظهر والله أعلم: أن هذا ضعيف؛ وذلك لأن عمار بن ياسر لو كان عنده شيء؛ لتيمم ولم يتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، فالحديث إلى الضعف أقرب، ولو صح؛ فإنه محمول على أن ذلك قبل علمه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في سنده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى شيخ الشافعي ، وهو ضعيف جداً.
ولهذا قال الخلال رحمه الله: الأحاديث في ذلك ضعيفة جداً، ولم يرو منها أصحاب السنن إلا حديث ابن عمر ، فكأنه يضعف الضربتين في حديث عمار ، وحديث عائشة ، وحديث أبي أمامة ، وحديث جابر مرفوعاً.
وقال الإمام أحمد : ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن ابن عمر وهو عندهم حديث منكر وهذا كما أشار إليه الغزالي ، أنه أحياناً قد يشيع القول عند أهل العلم، فيحكمون عليه بكذا، أو يفتون بكذا، وإن كان بعض ظواهر النصوص تؤيد خلاف ذلك، ولو بحثت لوجدت أحمد ينقل عن أناس مثله، أو دونه، ولكن هكذا صار الناس رحمهم الله.
بل قال الإمام أحمد : التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ومن قال: ضربتان فإنما هو عن شيء زاده. وقد ضعف حديث الضربتين أبو عمر بن عبد البر و ابن المنذر ، وفي هذا الحديث مسائل فقهية:
وعلى هذا: فالسنة في التيمم ضربتان وهو مذهب الجمهور، وأشار أبو عمر بن عبد البر إلى طريقة الاستدلال فقال: أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب وإن كان رواتها ثقات، ولما اختلفت الآثار في كيفية التيمم، وتعارضت نظرنا إلى ظاهر القرآن، وهو يدل على ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين قياساً على الوضوء، واتباعاً لفعل ابن عمر فإن الله يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6] وقال قبلها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6]، واليد إنما تغسل إلى المرفقين.
ولا بد من غرفة للوجه وغرفة لليدين، فكذلك لا بد من ضربة للوجه وضربة لليدين، وقد أشار إلى ذلك البيهقي فقال: والأحوط في هذا الأخذ بأقوال الصحابة.
والقول الثاني في المسألة: أن التيمم ضربة واحدة، وهو مذهب الإمام أحمد ، بل قال الخطابي : هو مذهب عامة أهل الحديث، وهو قول ابن المنذر و ابن القيم و ابن تيمية وغيرهم، بل قال الإمام أحمد : ومن قال: إن التيمم ضربتان فإنما هو شيء زاده.
واستدلوا بأحاديث عمار بن ياسر كما في الصحيحين: ( إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ضربةً واحدة )، هذا هو المشهور من أقوال أهل العلم، ولسنا بحاجة إلى أن نقول: إن القول الثالث هو ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة لليدين إلى المرفقين، كما هو مذكور عن الزهري ، وهذا كما قال بعض أهل العلم كالشوكاني : لم أجد لهم دليلاً في هذا، أقول: ولكنه قياس والله أعلم على الوضوء؛ لأنه يغسل كفيه بالماء بغرفة، ثم يغسل وجهه بالماء بغرفة ثانية ثم يغسل يديه بغرفة، ولا قياس في مقابلة النص، وهو حديث عمار بن ياسر .
والقول الثاني: إنه يمسح اليدين إلى المرفقين، وهذا هو مذهب الجمهور، وقواه البيهقي وذكر آثاراً عن ابن عمر وقال: وهو أولى بأن يتبع، وهو أشبه بالكتاب والقياس.
وقال الحافظ : فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي الجهيم ، وعمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم عند البخاري و مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى أتى جداراً فضربه بيده ثم رد عليه السلام )، وليس فيه إلا ذكر اليدين مجملة، وحديث عمار ذكر الكفين كما في الصحيحين، وروي الذراع كما عند أبي داود وزاد سلمة بن كهيل ، ولهذا عندما شكك قال: لا أدري.
والذي يظهر والله أعلم: أن التيمم ضربة واحدة للكفين والوجه، وأما اليدان فلا يؤخذ فيها بعموم اللغة إذا ورد فيها نص شرعي وهو حديث عمار والله أعلم.
فكأن البزار يشير إلى أن الحديث لم يرو إلا من طريق واحد، وقد صححه ابن القطان كما في بيان الوهم والإيهام، و ابن القطان الفاسي ليس هو يحيى بن سعيد القطان الذي هو من شيوخ أحمد ، فإن الفاسي من القرن الرابع فيما أظن.
وقد ضعف الحديث الطبراني قال: لم يروه عن ابن سيرين إلا هشام بن حسان ، ولا عن هشام إلا القاسم ، ولا عن القاسم إلا مقدم وهذا هو الظاهر والله أعلم؛ أن الحديث ضعيف، ولهذا قال الدارقطني في العلل: رواه هشام بن حسان واختلف عليه، فرواه القاسم بن يحيى الذي هو ابن عطاء بن مقدم ، عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً، قال: ورواه غيره كـأيوب السختياني و ابن عون و أشعث بن سوار عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين مرسلاً وهو أشبه بالصواب.
وهذا يدل على أن الصحيح عند الدارقطني أنه مرسل، وأن رواية الرفع خطأ، أخطأ فيها القاسم بن يحيى ، وقال الزيلعي : وهو غريب من حديث أبي هريرة ، وله علة، والمشهور حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي .
ولهذا قال ابن رجب رحمه الله: والصحيح أن الحديث مرسل كما قال الدارقطني .
أما حديث أبي ذر : فقد أخرجه أبو داود و الترمذي و النسائي و أحمد من طريق أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر وله قصة أنه قال: ( اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا
هذا الحديث يقول عنه الزيلعي : صححه الترمذي و الترمذي له نسختان، نسخة قال فيها: حسن صحيح، ونسخة قال: حسن، والذي يظهر لي أن الصحيح هو رواية حسن صحيح؛ لأن الزيلعي أشار إلى أن الترمذي صححه، والإشكال في هذا الحديث هو في عمرو بن بجدان وثقه ابن حبان و العجلي وذكره البخاري في التاريخ الكبير و ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكرا فيه شيئاً، والأكثرون على أنه مجهول الحال.
وسئل أحمد عن عمرو بن بجدان هل هو معروف؟ قال: لا، وقد ذكر الذهبي أنه مجهول الحال، وكذلك أشار الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب إلى أنه مجهول الحال. وقد ذكر الدارقطني في العلل في حديث هذا الباب عندما ذكر الخلاف، في حديث أبي هريرة ، ذكر هذا الخلاف وقال: والصواب هو رواية خالد الحذاء ويقصد رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر ، فهذا يدل على أن هذا هو الصواب، و عمرو بن بجدان وإن كان مجهولاً، لكننا سبق أن تحدثنا في رواية المجهول، أنه إذا روى عن كبار الصحابة، ولم يأت بمنكر، وقد روى عنه غير واحد، فرواية أبي قلابة الإمام الحافظ عنه تقويه والله أعلم.
وعلى هذا: فهذا الحديث لو حسن لم يكن بعيداً، وإن كان ابن القطان الفاسي أنكره وقال: حديث ضعيف ولا شك؛ لأنه يرى أن عمرو بن بجدان ضعيف، وكذلك ابن رجب يميل إلى ضعفه، والحديث كما قلت: هو إلى الحسن أقرب، وإن كان الضعف يلوح فيه، لكنه على قاعدة العمل بحديث المجهول فلعله منها، والله أعلم.
فاستدل من قال: إنه مبيح: أنه قال: لو كان رافعاً لما قال: ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )، فدل على أنه مع وجود الماء لا بد أن يتوضأ، ولو كان رافعاً لما ألزم بالوضوء مع بقاء طهوريته.
وذهب الجمهور إلى أنه رافع؛ لأنه بدل عن الماء، فإذا وجد المبدل سقطت أحكام البدل، وهذا أصح كما مر، واستدل أهل العلم بهذا أنه إذا وجد الماء من تيمم، فإن وجود الماء يبطل أحكام التيمم، وعلى هذا فمن أجنب وتيمم، أو من أحدث حدثاً أصغر وتيمم؛ فإنه إذا جاء الماء؛ بطلت طهورتيه، ولو لم يحدث، وهذا قول عامة أهل العلم، بل حكم أبو العباس بن تيمية و النووي إجماع أهل العلم على هذا، ولم يخالف إلا أبو سلمة بن عبد الرحمن وقوله مندثر، والأصل أن وجود الماء مبطل لأحكام التيمم. ولعل في هذا الكفاية والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: الرجلان لا علاقة لها بالتيمم، فيمسح على الخف ما شاء؛ لأن التيمم متعلق بالوجه واليدين، فإذا وجد الماء؛ فيجب عليه أن يخلع الخفين.
الجواب: يجب عليه أن يعيد الوضوء؛ لأن بعض أعضائه التي يجب عليه أن يتوضأ لها، يجب عليه أن يغسلها بالماء، فكان واجباً عليه أن يعيد الوضوء، والله أعلم.
الجواب: هذا سؤال جيد، إذا كان يحتاج للماء، فإن له ألا يستخدم الماء؛ لأنه في حكم المعدوم.
وهذا يسمونه العدم الشرعي؛ لأن الشارع أباح له، وقد ذكرنا هذه المسألة في حديث: ( يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفلا نتوضأ بماء البحر )، فكان ذلك استدل به بعض أهل العلم، والله أعلم، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر