اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب العرايا وغير ذلك:
عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها )، ولـمسلم: ( بخرصها تمراً يأكلونها رطباً ).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ) ].
أولاً: ألا يكون عندهم نقود يشترون بها الثمر على رءوس النخل.
الثاني: ألا يزيد عن خمسة أوسق؛ لما جاء في حديث أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل العرايا فيما دون خمسة أوسق ).
الشرط الثالث: أن يشتروها بخرصها، يعني خرص الثمر تمراً، فيقول: كم تريد أن تشتري؟ قال: أريد أن أشتري بأربعة أوسق من التمر اليابس، نقول: الآن كم الذي في النخل؟ يقول: في النخل ستة أوسق، نقول: لا تقدرها على أنها ستة أوسق الآن، قدرها على أنها أوسق إذا يبس، فالخراص -مثلاً- يقول: هذا التمر على رءوس النخل إذا يبس يساوي أربعة أوسق، فنقول: إذاً هذه النخلة وهذه النخلة وهذه النخلة وهذه النخلة إذا يبس يكون أربعة أوسق، فنقول: بعها بالثمر الذي على النخل هذه وهذه وهذه وهذه، وأما ما عداها فلا، لأجل أنه يكون أكثر ولا يجوز.
نبيع الثمر الذي على رءوس النخل بالتمر المسمى وهما غير متساويين، ولكنه جاز لأهل العرايا بخرصها تمراً، فنجعل المظنون كالمعلوم، والمظنون هو الخرص، كأننا قدرناه معلوماً، بهذه الشروط جوزها الفقهاء رحمهم الله تعالى.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون لحاجة، والثاني: ألا يكون عندهم دنانير، والثالث: الخمسة أوسق، الشرط الرابع: أن يأكلوها رطباً، أما لو اشتروها وقالوا: إنا نريد أن نضمدها ضميداً، فهذا لا يجوز؛ لأنها جوزت للحاجة، ومعنى ذلك: لو أن فقيراً عنده تمر، ويريد أن يشتري الرطب على رءوس النخل، قلنا له: كم؟ قال: ستة أوسق، قلنا: لا يجوز أكثر من خمسة أوسق، ثم هل عندك نقود؟ قال: لا، ما عندي نقود، نقول: هل أنت محتاج للرطب؟ قال: والله أنا محتاج، ما عندي شيء، قلنا: يجوز، لكن ماذا تريد من هذا الرطب؟ قال: أريد أن أضمده للسنة القادمة، نقول: هذا لا يجوز؛ لأن الحاجة تقدر بقدرها، فجوزت هنا لأجل أن تأكلها رطباً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( بخرصها تمراً يأكلونها رطباً )، والله أعلم.
وأما حديث أبي هريرة فقد مر: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق)، وقد اختلف العلماء: هل يجوز في الخمسة أوسق أو فيما هو أقل من خمسة أوسق؟
الشافعي قال: الأحوط دون خمسة أوسق، وهذا قول جيد، ولكن لو كان خمسة أوسق؛ فلا حرج في ذلك، كما هو رواية عند الإمام أحمد، والله تبارك وتعالى أعلم.
ولـمسلم : ( من ابتاع عبداً فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع ) ].
هذا الحديث يندرج تحت قاعدة: كل ما جاز تبعاً لا يجوز استقلالاً، أو: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، فأنت تجوز الشيء إذا دخل تحت شيء، ولكن لا تجوزه إذا قصدته بعينه، فمثلاً: عندنا نخل تشقق طلعه، ثم أبر، يعني: الثمرة لقحت، فهل يجوز بيع الثمرة ابتداءً؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه )، وهنا لم يبدو صلاحها، لكنك إذا بعت الشجرة وعليها الثمر، جاز ذلك، فيجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً.
كذلك بيع الحمل لا يجوز، لكن لو اشتريت شاة حاملاً وزاد ثمنها، جاز ذلك؛ لأنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً. وإذا كان عندك عبد عنده مال، فيجوز أن تبيعه بماله ولو كان المال كثيراً، ولا يكون داخلاً في الربا؛ لأنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، والله أعلم.
وهذه المسألة أخذ منها العلماء فوائد كثيرة، فأنت حينما تشتري السهم في سوق المال، فإن هذا السهم يحوي نقوداً وديوناً، وأعياناً، ولا يجوز بيع الدين لغير من هو عليه، كذلك لا يجوز بيع النقد بالنقد إلا بشرطين: التساوي والتقابض، وأما بيع النقود بالأعيان فيجوز بتقابض أو غير تقابض، بزيادة أو غير زيادة، لكننا نقول: دخلت النقود والديون تبعاً؛ لأن قصد المشتري أو قصد الشركة ليس بيع النقود، ولكن قصدهم الاستثمار والتعامل، فيكون هذا النقد أو هذا الدين دخل تبعاً، ويجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، وعلى هذا: يجوز شراء أسهم البنوك الإسلامية إذا كانت تحمل نقوداً؛ لأن القصد ليس هو النقد، ولكن القصد هو عمل البنك نفسه، ولهذا قال الإمام الخرقي ، وكذلك ابن قدامة في مسألة بيع العبد قال: وإذا كان المقصود هو شراء العبد، فسواء كان المال الذي معه قليلاً أم كثيراً، ديناً أم عيناً، معلوماً أم مجهولاً؛ لأن العقد صار على المعين الذي لا بأس به، والله تبارك وتعالى أعلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع نخلاً قد أبرت )، فإذا أبرت فإن الأصل إذا لم يكن ثمة شرط أن الثمرة تكون للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، فلو كان عندي نخل قد أبرت، فجاءني شخص قال: أريد أن أشتري النخل قلت: بكم؟ قال: بعشرة آلاف، قلت: قد بعتك، وتم البيع، فلما تفرقنا قال: بما أن النخل لي فالثمرة لي، قلت: لا، لم تشترط، وقد تفرقنا، فالأصل أنها لي.
والعلماء جوزوا صورة واحدة، يقولون: يجوز بيع الثمر قبل أن يحمار ويصفار بشرطين، بمعنى أنه يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه بشرطين: الشرط الأول: بشرط القطع، الشرط الثاني: أن يبيعه لمالك الأصل، فهنا جوز العلماء ذلك لدخوله بالتبع، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعن ابن عباس مثله ].
هذا الحديث حوى مسألة من أعظم مسائل المعاملات؛ وهي مسألة القبض والضمان، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذه المسألة فيها كلام طويل للفقهاء، ولعلي أبسطها بالآتي:
أولاً: الثمر إذا اشتراه الإنسان لا يجوز أن يبيعه على الغير حتى يقبضه، من اشترى طعاماً لم يجز له أن يبيعه حتى يقبضه، أو حتى يستوفيه، ومعنى الاستيفاء: هو أن يعرف كم مقداره بالكيل، هذا هو مذهب عامة أهل العلم في الطعام، بل حكى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على ذلك، ولم يعتبر بخلاف عثمان البتي و عطاء ، فإن الإجماع محفوظ: أنه لا يجوز بيع الطعام حتى يقبض.
مثال: لو أني اتصلت بأحد التجار قلت: يا أخي! هل عندك تمر سكري؟ قال: نعم، قلت: كم عندك؟ قال: عندي ثلاثين كيلو كيلاً، قلت: اشتريتها، بكم الكيلو؟ قال: الكيلو بخمسين ريال، إذاً: اشتريتها بألف وخمسمائة، ثم جاءني أحد الإخوة قال: أنا والله أبحث عن سكري، فقلت له: عندي أنا سكري؛ لأنه حصل الإيجاب والقبول بيني وبين التاجر، وإذا حصل الإيجاب والقبول ملك المشتري، لكن لا يجوز لي أن أبيع على الغير ما ملكته قبل أن أقبضه؛ لأن ضمان التمر أو الثمر على البائع، فلا يجوز للمشتري أن يربح ما لم يضمن، لكن التاجر لو قال لي: هذا التمر خذه فقلت: حسناً سآخذه، لكن دعه عندك الآن؛ لأن عندك مستودع، في هذه الحال أكون قد قبضته؛ لأنه مكنني منه، أما إذا لم يمكني منه، أو لم يستطع لوجوده في مكان آخر، فإن ضمانه على البائع، فلا يجوز أن يبيعه المشتري حتى يقبضه، هذا محل إجماع عند أهل العلم -كما قلت- ولا عبرة بالمخالف.
ولأجل هذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى.
وهل هذا خاص في الطعام أم في كل شيء؟
اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالك و الأوزاعي و الزهري إلى أن هذا خاص في الطعام؛ لسرعة فساده، ولحاجة الناس إليه، وأما ما عدا ذلك فلا يشترط، فلو أنني اتصلت بالتاجر وقلت: تبيعني السيارة الفلانية بمائتي ألف؟ قال: نعم، قلت: أعطني إياها، قال: غداً أعطيك إياها، فجاءني أحد الإخوة فقال: تبيعني السيارة التي اشتريتها من التاجر؟ قلت: بكم؟ قال: بمائتين وثلاثين ألفاً، قلت: نعم، فهل يجوز هذا البيع ولم أقبض السيارة بعد؟
على مذهب مالك يجوز، أنا ما رأيت إلى يومي هذا أحداً يأكل سيارة، إذاً: هو ليس طعاماً، و مالك يخصص الطعام، والأصل عنده أن الطعام هو الذي لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما عدا الطعام فيجوز عند مالك ، لكن الشافعي و ابن تيمية و ابن القيم قالوا: كل السلع لا يجوز بيعها حتى تقبض، بحيث يمكن المشتري من القبض، فمتى حصلت تخلية البائع وتمكين المشتري من المعقود عليه جاز.
وذهب الحنابلة إلى أن كل ما يكال أو يوزن فيشترط قبضه قبل بيعه، وأما ما بيع بالوصف، يعني مثلاً: أنا أبيعك سيارتي الجيب موديل كذا، هل الآن بعت عيناً موصوفة أم بعت موصوفاً غير معين؟
الموصوف ينقسم إلى قسمين، وهذه معلومة مهمة جداً في المعاملات، بيع الموصوف ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بيع موصوف معين، كالمثال السابق؛ سيارة أملكها أوصفها لك، فهذا يجوز بيعه، وإذا هلكت السلعة بطل العقد، ولا يشترط التقابض.
القسم الثاني: بيع موصوف غير معين، مثل السلم: أنا أبيعك تمراً سكرياً لونه كذا، ووزنه كذا، وهو ليس عندي، إذاً: أنا بعت موصوفاً غير معين، فهذا لو هلك الذي عندي وهو بمثل تلك المواصفات لا يبطل البيع؛ لأن المعقود عليه غير معين.
كما يشترط في هذا البيع القبض في أحد البدلين، إما أن تعطيني في المجلس التمر الذي وصفته، أو تعطيني الثمن، لأجل ألا يكون بيع كالئ بكالئ عند الجمهور، والمسألة فيها كلام طويل، لكن أنا أذكر لكم بالأسلوب البسيط، إذا ثبت هذا فإن الذي يظهر -والله أعلم- أن الأحاديث الواردة في تعميم غير الطعام لم تصح، وأما حديث ابن عمر : ابتعت زيتاً في السوق، فجاءني شخص فأراد أن يبيعه بأكثر فقلت: نعم، فإذا رجل من خلفي يأخذ بيدي، فإذا هو زيد بن ثابت فيقول: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزه التجار إلى رحالهم )، هذا الحديث في سنده محمد بن إسحاق ولم يصرح بالسماع، وعلى هذا: فالأصح أنه ما جاء في التصريح بالسماع أنه قال: إنه نهي عن ذلك كما رواه الإمام أحمد ، والنهي عن ذلك في الطعام، فدخل فيه حديث الطعام، وأما غير الطعام فلا يصح منه شيء، فالأقرب والله أعلم: هو أن الشيء إذا بيع معيناً فإنه يجوز بيعه إذا كان بغير ربح، وأما إذا كان بربح فلا، كما هو اختيار ابن تيمية ، فعلى هذا فسيارة التاجر التي اشتريتها بمائة ألف أو بمائتي ألف، فجاءني أحد الإخوة قال: تبيعني إياها؟ فإن بعتها بأكثر من مائة ألف لا يجوز، لأجل ألا أربح ما لم أضمن، وأما إن بعتها برأس مالها فإنه يجوز؛ لأني لم أربح، والله أعلم.
جملوه: أذابوه ].
هذا الحديث -حديث جابر بن عبد الله - يفيد فائدة: وهي أن العين إذا كانت مباحة النفع، يعني: يجوز أن يستعملها بلا حاجة، فالخمر لا يجوز أن يستعمله؛ لأنه ليس مباح النفع، والميتة كذلك ليست مباحة النفع، وكذا الخنزير والأصنام، فهذا الحديث دليل على شرط أن تكون العين مباحة النفع، وإن شئت قل: أن يكون مالاً متقوماً، والمحرم غير متقوم، ومعنى متقوم يعني: له قيمة شرعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فلما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك دل على أن النهي عائد على ماهية الشيء أو على وصفه الذي لا ينفك عنه، فيكون النهي يقتضي الفساد، ولما كان النهي يقتضي الفساد قالوا: (يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟) لأن الميتة حرام، فهل يأخذون شحمها ويذيبونه، ثم يطلون به السفن، ويدهنون به الجلود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا، هو حرام ).
اختلف العلماء في معنى هذا الحديث: هل السؤال لطلب تجويز البيع؛ لأنه ينتفع به -يدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس- أم النهي لأجل مسألة الانتفاع بلا بيع؟
قولان عند أهل العلم، يعني: هل يجوز لي أن أبيع هذه الميتة؛ لأن فيها انتفاعاً؟ أم السؤال: هل يجوز أن أنتفع من الميتة من غير أن أبيعها؟
اختلف العلماء في ذلك: فذهب الجمهور إلى أن النهي هو عن الانتفاع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا، هو حرام )، يعني: العمل حرام، وهو مذهب الحنابلة والمالكية حيث قالوا: لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة؛ لأنها نجسة، وذهب ابن تيمية رحمه الله: إلى أن النهي إنما هو لأجل طلب تجويز البيع؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟) فإننا ننتفع بها، وانتفاعنا هنا انتفاعاً مباحاً، فإننا ندهن بها الجلود، ونطلي بها السفن، ويستصبح بها الناس، فهذا الانتفاع مباح، إذاً: لماذا لا يجوز بيع الميتة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا، هو حرام )، إذاً هو يرجع إلى البيع وليس إلى الانتفاع، وعلى هذا: فلا يلزم أن كل ما جاز الانتفاع به يجوز بيعه، فالكلب يجوز الانتفاع به، ولكن لا يجوز بيعه، وهذه قاعدة معروفة عند العلماء. والله تبارك وتعالى أعلم.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة التحايل، فإن الحيل من أعظم المحرمات كما قال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر من وجهه لكان أهون، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، والحيل تنقسم إلى قسمين: حيل تعود على أصل العقد بالإبطال، فهذا محرمة، مثلما فعل اليهود حينما حرم عليهم الصيد يوم السبت فألقوا الشباك يوم الجمعة، فهذا حيلة، فالنهي هو وجود الصيد يوم السبت، وهذا حاصل.
القسم الثاني: حيل للتوصل إلى الشيء بطرق شرعية، فهذا جائز، وإن كانت تسميته بالحيل من باب التوسع، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الرجل بالتمر الطيب قال: ( أكل تمر خيبر هكذا؟ ) قال: لا يا رسول الله! ولكن نبيع الصاع من هذا بالصاعين من التمر الرديء، قال: ( أوه، عين الربا، عين الربا، بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً) هذه حيلة، لكنها حيلة شرعية يتوصل بها إلى الطريق الشرعي، والله أعلم.
عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار، فقال: ( من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ) ].
الشرط الأول: تسليم رأس المال في مجلس العقد، فلا يجوز أن يتأخر التسليم؛ لأنه إذا أخر الثمن وأخر المثمن صار بيع كالئ بكالئ -أي: مؤخر بمؤخر- وهذا لا يجوز.
الشرط الثاني: أن يكون المعقود عليه مؤجلاً، هذا مذهب الجمهور خلافاً للشافعي .
الثالث: أن يكون موصوفاً في الذمة.
الرابع: أن يكون الوصف وصفاً منضبطاً.
الخامس: أن يكون الأجل معلوماً.
السادس: أن يكون الكيل والوزن والقدر معلوماً.
هذه ستة شروط، وإذا فصلناها قلنا: سبعة، هذه لا بد منها في بيع السلم، وعلى هذا: فكل ما لا يمكن وصفه لا يجوز بيعه سلماً مثاله: لو جاءني عبد الله -مثلاً- وقال: أريدك أن تعطيني مائة ألف، وبعد سنة أعطيك أرضاً في شمال الرياض، في حي الفلاح، أو في حي الغدير، أو في حي الصحافة، فهذا لا يجوز؛ لأن الأرض لا يمكن ضبطها، أنت في حي الفلاح، يمكن أن تكون أرضه نازلة والذي بعدها حجر، فقال العلماء: كل ما لا يمكن ضبطه لا يجوز بيعه سلماً، لو قلت لك: عندي ألماس، ما يمكن ضبط ألماس، ولهذا قالوا: الجوهر النفيس لا يمكن ضبطه، فهو حجر لا تدري أتلقاه أو ما تلقاه، فلا يمكن ضبطه، فكل ما لا يمكن ضبطه لا يصح السلم فيه، إذا ثبت هذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار، والسلف هو الأجل، قال ابن عباس : أشهد أن الدين والأجل المسمى موجود في كتاب الله، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، وعلى هذا: فلا بأس أن يؤجل بشرط أن يكون الأجل معلوماً، أما لو قال: بعد حين أعطيك إياها، فهو لم يحدد الأجل، فلا يجوز؛ لأن عدم تحديد الأجل يكثر فيه المشاحنة والخصومة، وعلى هذا فيشترط معلومية الأجل.
كذلك يشترط معرفة الجنس والنوع، فإذا قلت: أبيعك تمراً، عرف الجنس لكن لم يعرف النوع، فلا بد أن تقول: تمر خلاص، أو تمر سكري، أو تمري صقعي، حتى يعرف النوع.
كذلك يشترط أن يعرف القدر: صاع، صاعان، وسق، وسقان، فلا بد أن يعلم كل ذلك معلومية واضحة مضبوطة، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا: فكل ما لا تختلف أجزاؤه فإنه يجوز بيعه بالوصف غير المعين، فلو قلت لك: أعطني مائة ألف، وسوف أعطيك مطبخاً، لا يجوز؛ لأن المطبخ تختلف أجزاؤه، ولأجل هذا منع المالكية والشافعية والحنابلة بيع ما يستصنع، وأما أبو حنيفة فجوزه، وقال: أما ما تدخله الصناعة فلا بأس، ولكنه لا يسمى سلماً وإنما يسمى استصناعاً، ذلك أن البيع أربعة أنواع: بيع عين، وهذا هو البيع المعروف، كما ذكر ذلك الإمام السرخسي في كتاب المبسوط، وبيع منفعة -وذلك هو الإجارة- وبيع موصوف في الذمة، وذلك هو بيع السلم، وبيع عين اشترط فيها العمل موصوفة، وهذا هو بيع الاستصناع، والله أعلم.
إذاً: الفرق بين الاستصناع والسلم أن الاستصناع تدخله الصنعة، وأما السلم فلا تدخله الصنعة، فهل رأيتم أحداً يصنع رزاً؟! هذا هو الفرق بين السلم والاستصناع.
وبهذا المقدار نكتفي، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر