الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
أحبتي الكرام! في هذا الدرس نقف مع مسائل في هذا السفر العظيم؛ وهو بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام الفيلسوف محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الملقب بـابن رشد الحفيد في كتاب يندر مثله، حيث إن المؤلف رحمه الله اعتنى بثمرة الخلاف، ومنزع الخلاف ومنشئه، فذكر بعض المسائل الأصولية، والقواعد الفقهية التي لا يستغني عنها طالب العلم؛ ولهذا فإنه يصعب أن نذكر بعض كنوز هذا الكتاب في جلستين مهما طالت؛ ولهذا سوف أقتصر على المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وأذكر القول الراجح بدليله، ومن ذهب إليه.
وللفائدة: فإن ابن رشد -رحمه الله- قد اعتمد في مرجعه هذا على كتابي أبي عمر بن عبد البر: كتاب التمهيد وكتاب الاستذكار، وغالب الروايات والأحاديث إنما أخذها من هذين الكتابين، وقد أفصح عنهما الإمام ابن رشد حينما ذكر في آخر كتاب العبادات أن غالب هذه الآثار إنما هي من كتاب أبي عمر بن عبد البر ، كما استفاد -أيضاً- من كتاب المحلى لـابن حزم .
و ابن رشد فيلسوف وأصولي، اهتم بكتب المناطقة؛ ولهذا فإن طريقة تفصيله وتقعيداته تختلف عن طريقة المتقدمين والمتأخرين من أهل العلم؛ ولهذا لا نهتم كثيراً في طريقة التقسيم بأكثر من اهتمامنا بأصل المسألة وتفريعاتها.
ذكر المؤلف ثلاثة أجناس:
الجنس الأول: جنس رأى أنها مقدمة لعبادة الحج، وهي ما يجب معرفته لعمل هذه العبادة، ولا يستغني عنها المتعبد بهذه العبادة.
الجنس الثاني: وهي التي تجري مجرى الأركان، أو التي تجري مجرى المأمورات والمحظورات، وهي التي ذكرها بقوله: [ وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة]، وهي كما قلت: التي تجري مجرى الأركان، أو المأمورات، أو المحظورات.
الجنس الثالث: وهي الأشياء التي تجري مجرى أثر هذه العبادة، أو الأمور اللاحقة لها، وهي ما يسميها: أحكام الأفعال، يعني أثر هذا الفعل، أو ما يترتب عليه، إضافة إلى حكم هذا الفعل.
الجنس الأول: ويشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب، ومتى يجب.
أما وجوبها، يعني: وجوب عبادة الحج، فهي ركن من أركان الدين، وقد ( بني الإسلام على خمس )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ومنها: ( وحج بيت الله الحرام )، وقد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
وقد ذهب أحمد و مالك وغيرهما: إلى أن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة للهجرة، وهي الآية التي تدل على وجوب الحج.
وطريقة الحنابلة ومن وافقهم كالشافعية في هذا التقسيم أولى، وهي أن يقال: أنها على ثلاثة أقسام:
فلا تصح هذه العبادة من كافر، ولا تصح من مجنون، فهي لا تجب إلا على مسلم، وكذلك غير المجنون يعني: العاقل، إذاً: فالإسلام والعقل شروط وجوب وشروط صحة.
أما العبد: فقد ذهب الأئمة رحمهم الله إلى أن العبد يجب عليه إذا أعتق أن يحج حجة أخرى، وكذلك الصبي، وإن صحت منه، ولكنها لا تجزئ ولا تجب، وقولنا: إنه لا يجب عليه، أي: لو أن العبد مات وكان له مال فإنه لا يجب أن يخرج من تركته، ولو مات الصبي كذلك وكان له مال فلا يجب أن يخرج من تركته؛ لأن الوجوب حينئذٍ لم يتوفر في حقه، أما لو حجَّا صح منهما الحج نفلاً لا فرضاً.
أما الدليل على هذا فما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أيها الناس! اسمعوا ولا تقولوا: قال ابن عباس ، أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد أعتق فعليه حجة أخرى، فهذا الأثر الصواب أنه موقوف على ابن عباس ، ولكن له حكم الرفع؛ لقوله: ولا تقولوا: قال ابن عباس ، وكذلك العبد؛ لقوله: وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى.
وذهب ابن حزم والشيخ ابن سعدي رحمهما الله إلى أن العبد مأمور إذا كان بالغاً كما يؤمر الحر، وأنه يجب عليه الحج، والراجح أنه لا يجب عليه كما مر معنا.
يقول المؤلف: [وسبب الخلاف معارضة الأثر]، يعني: الحديث الموقوف [في ذلك للأصول]، فنجد بعض الفقهاء يرى: أن الحديث الآحاد إذا خالف أصلاً من أصول الشريعة التي تواردت الأدلة عليها لا يعول على الحديث الآحاد إذا خالف الأمر الذي أجمع العلماء عليه من الأصول، كأن يكون ثابتاً بالكتاب، أو تواترت به السنة.
فقاعدة أبي حنيفة وقاعدة مالك رحمهما الله أنهم يرون أنه عند معارضة خبر الآحاد للأصل لا يعول على خبر الآحاد لكن مالكاً قال: الأصل عندي: هو عمل أهل المدينة، فإذا جاءني حديث ولو كان بسند صحيح ووجدنا عمل أهل المدينة يخالفه فلا نعول على هذا الحديث، ونأخذ بعمل أهل المدينة.
أما أبو حنيفة رضي الله عنه فقال: إن الأصول ما تواترت الأدلة عليه، وأما خبر الآحاد فلا يعول عليه؛ لأن خبر الآحاد ظني، والأصل قطعي، وإذا تعارضا فنذهب إلى الأصل ونترك خبر الآحاد، فتجد خبر الآحاد إما أن يؤول، وإما أن يقال: قضية عين، وإما أن يضعف، وإما أن يقال: حجتان تعارضتا فنأخذ بأقواهما.
أما الشافعي رحمه الله فكان من أعظم أصوله التي جاء بها هو رد هذه الأقوال، كما في كتاب الرسالة.
وهذا التقعيد مهم، حتى نعرف لماذا اختلف العلماء؟
لماذا أبو حنيفة رحمه الله يأتيه الحديث ولا يأخذ به؟! ولماذا مالك رحمه الله يقول بعدم استحباب صيام ست من شوال؟ مع أنه ثابت في صحيح مسلم ؟!
بل إن بعض الأحاديث رواها مالك في الموطأ، ثم ترك العمل بها؛ لأن أهل المدينة لم يعملوا بها.
يقول المؤلف: [وذلك أن من أجاز ذلك]، يعني: أجاز صحة حج الصبي، [أخذ فيه بحديث ابن عباس] كما في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا في الروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت امرأة إليه صبيًا فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).
وهذا يدل على أن الصبي صح حجه، وقد ثبت أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه حج بابنه محمد بن أبي بكر حينما نفست أسماء بن عميس به في الشجرة.
[ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل]، وهذا أصل مجمع عليه، إلا أن الحج له صفة خاصة فصحت منه، لكننا نقول: لا تجب ولا تجزئ، كما أن صيام الصبي أو صلاة الصبي تصح منه، ولكنها لا تجب عليه، وليست فرضاً بل نفلاً.
ولهذا اختلف أهل العلم في الصبي لو أراد أن يحج ففعل محظوراً من محظورات الإحرام، هل يؤمر بما يؤمر به الكبير؟
ذهب الجمهور إلى أنه يؤمر بما يؤمر به الكبير، ويجب على وليه أن يمنعه، فإن فعل محظوراً فإنه يجب على وليه أن يفتدي عنه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب عليه ذلك، وهذا أقرب؛ ولكننا نقول: لوليه أن يأمره بما يؤمر به الكبير، إلا أن الصبي لو فعل محظوراً من محظورات الإحرام فلا يجب أن يخرج عنه فدية أو دماً لترك واجب، لأن هذا إنما مناطه التكليف، والصبي غير مكلف.
المسألة الأخرى يقول: [فأما المباشرة فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاعة]، والاستطاعة ذكرناها على أنها شرط وجوب، وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على هذا الشرط في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في تفاصيلها، فذهب الجمهور: إلى أن الاستطاعة المراد بها الاستطاعة المالية، وهي التي فسرت في حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً والصواب أنه مرسل، وهو ضعيف مرفوع، وروي عن عمر بن الخطاب و ابن عباس : (أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة)، والصواب أنه من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: إن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، والزاد والراحلة كلاهما مال، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً لمالك ، لأن مالكاً يقول: إن الاستطاعة إنما هي الاستطاعة البدنية، وليست الاستطاعة المالية.
يقول المؤلف: [وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه]، فـمالك يرى: أن من استطاع أن يمشي فهو قادر ببدنه، وعلى هذا فيجب عليه أن يحج. وقد قيل لمالك: إذا لم يكن عنده زاد وهو فقير، قال مالك : إن كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه، أو تعود على سؤال المخلوق وهو المتسول فإنه يجب عليه.
مثاله في صورتنا المعاصرة: شخص قادر ببدنه، وهو يستطيع أن يخدم الحجيج، فلو ذهب إلى حملة من حملات الحج وقال لهم: أنا أخدمكم وأقوم بالسقي، أو أقوم بتوزيع السبيل، وهذه عادته وطريقته، فإن مالكاً يقول: يجب عليه الحج، ولو لم يكن عنده شيء؛ لأنه قادر على التكسب بعمله.
أو شخص يقول: أنا لا أعمل، ولكني أسأل الناس وهذه طريقتي، يقول مالك : إذا كان من عادته في غير الحج أن يسأل فيجب عليه أن يسأل.
والراجح والله أعلم: أن ثمة تفصيلاً فنقول: إن كان قريباً كمن كان من أهل مكة أو أهل الحرم، ولا يجد مشقةً في ذلك، وهو يملك طعامه وشرابه فإنه يجب عليه الحج؛ لأن ذلك لا يكلفه في المشي إذا كان من عادته، وطعامه وشرابه يجده في قوت يومه؛ فحينئذ يجب عليه أن يحج، لكنه لو مات قبل أن يحج وليس عنده تركة فعندها لا يجب عليه الحج.
أما البعيد: فإن الواجب هنا على المال، وأما البدن فإنما هو شرط للزوم السعي لا شرط في الوجوب، ومعنى لزوم السعي أن على الرجل المريض القادر بماله ولكنه غير قادر ببدنه، فلا يجب عليه أن يمضي لزوم السعي؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن الحج واجب عليه، فإن كان مرضه يرجى برؤه جاز له تأخير الحج حتى يعافى، وإن كان مرضه لا يرجى برؤه كنضو الخلقة، وهو الذي لا يستطيع أن يثبت على الطائرة، ولا يثبت على السيارة فإنه في هذه الحالة يجب عليه الحج بماله، وهذا هو مذهب الجمهور.
وبهذا نكون قد جمعنا بين القولين، بين مذهب مالك في القريب الذي يعتاد المشي، وهو الذي من أهل مكة، وبين البعيد الذي يشق عليه المشي، لكن ليس عنده زاد ولا راحلة، فحينئذ لا يجب عليه الحج، فإن كان عنده زاد وراحلة، يعني صالحين لمثله، فحينئذ يجب عليه الحج، ومعنى زاد أي عنده طعام أو مال يفي بطعامه منذ خروجه إلى عودته، وراحلة يعني: حمل ومركب يصلح لمثله من حين خروجه إلى عودته.
ونقول: صالحين لمثله، فلو أن رجلاً لم يعتد ركوب الإبل، وهو غني، وكان في طريق لا يستطيع أن يأتي بسيارة، ولو كان قادراً بماله، لكن ليس عنده راحلة تصلح لمثله، فحينئذ لا يجب عليه المضي في الحج، وإن كان يجب عليه لأنه قادر بماله.
ولهذا قالت: ( لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه )، والمؤلف لم يذكر هذا الدليل، وهذا مما يستدرك عليه.
صورة المسالة: لو أن شخصاً لا يستطيع أن يحج بنفسه وهو حي، فهل له أن ينيب غيره ليحج عنه؟ منع ذلك مالك و أبو حنيفة وقالوا: لأنه لا تلزم النيابة إذا استطعت، هكذا عندي، أي: لا تلزم النيابة مع العجز عن المباشرة. و الشافعي رحمه الله يرى أنها تلزم، و مالك يقول: النيابة في العبادة مبناها على التوقف، والأصل أن الإنسان لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، فكذلك لا يحج أحد عن أحد، فـمالك بنى على الأصل.
أما الشافعي رحمه الله يقول: نعم لا يصلي أحد عن أحد؛ لأنها عبادة بدنية، كما أنه تختلف العبادة البدنية عن العبادة المالية أو العبادة المالية والبدنية، فالحج عبادة بدنية ومالية، فيجوز أن ينوب أحد عن أحد، لما جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة حينما قالت: إن أمي ماتت وعليها حج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا فالله أحق بالوفاء ).
وكذلك حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: ( يا رسول الله! إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك واعتمر )، وهذا القول هو الأظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقولنا: إن هذا هو الظاهر لأنه إذا كان الإنسان قادراً بماله وليس قادراً ببدنه فإنه يجب عليه أن ينيب غيره في الحج، إلا أن الحنابلة قالوا: ينيب غيره من المكان الذي هو فيه.
وذهب الشافعي : إلى أنه لا يشترط ذلك، بل لو أناب غيره من الميقات أو من أهل مكة جاز. والراجح هو مذهب الشافعي خلافاً لأحمد ؛ لأن هذا مما لم يستفصله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أفأحج عنه؟ قال: حج عنه )، ولم يقل: من مكان الميت، أو من مكان الذي لا يستطيع الحج، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
هناك روايتان عند الحنابلة، والمشهور الجواز، وذهب مالك إلى منع ذلك.
واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخنا عبد العزيز بن باز ذهبوا إلى أن القادر لا يصح أن ينيب غيره في الحج، والمذهب يجوزون، وهو قول عند أبي حنيفة ، ولعل هذا القول أظهر؛ لأثر ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( سمع رجلاً يقول: لبيك عن
ووجه الدلالة: أن هذا الرجل حج ابتداءً عن شبرمة وأهل بالحج عن شبرمة ، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما شرع في الحج، وبعدما شرع في الإحرام، فقال: ( من
وهذا القول فيه قوة وفيه منفعة أيضاً في زماننا، فيقال للقادر الذي ربما لو حج وجد الناس من حجه مشقة، فيقال له: لا تحج وأنب غيرك يحج عنك، فإن في ذلك منفعة للمسلمين.
هذه مسألة أخرى.
فذهب الشافعي و أحمد : إلى أنه يجب على من حج عن الغير أن يكون قد حج عن نفسه ابتداءً، ولا يصح منه أن يحج عن الغير قبل أن يحج عن نفسه. وجوز مالك و أبو حنيفة أن يكون الإنسان يحج عن غيره ولو لم يحج عن نفسه إلا أنه أساء، لحديث شبرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل إحرام الأول، فقال: ( من
وقال أبو العباس بن تيمية : من حج ليأخذ، ليس له في الآخرة من خلاق، ومعنى من حج ليأخذ أي: جعل أخذ المال تكسباً، فهو لا يريد الحج، إلا أن يزايد الناس على المبلغ، فهذا يقول فيه ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ليس له في الآخرة من خلاق.
وأما من أخذ ليحج، مثاله: شخص يقول: أنا أريد أن أحج، ورغبتي في الحج، ونفسي تتوق له، إلا أني قليل ذات اليد، وإذا وجدت شخصاً عنده مال يريد أن يحج به، أو يريد أن يحجج لأحد أمواته فإني أرغب في ذلك؛ لكي أستطيع المشي والسير مع هؤلاء فهذا جائز ولا حرج فيه، وهذا التفصيل لعله أظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
والمؤلف ذكر صورتين فيمن يأخذ في الحج، فقال: [ولـمالك صورتان: صورة البلاغ، وصورة سنة الإجارة].
القسم الأول: البلاغ: وهو أن يقال: خذ هذا فحج به، أو تبلغ به، قالوا: فإن نقص المبلغ الذي حج فيه فإن له أن يرجع إلى صاحب الحجة ويقول: أعطني ما نقص من الحجة، وهذا يسموه: خذ هذا فتبلغ به.
قالوا: وإن زاد المبلغ على النفقة وجب على النائب أن يعيد المبلغ إلى المستنيب.
القسم الثاني: سنة الإجارة، وهو أن يقول: حج بهذا، أو خذ فحج بهذا، فهذه إجارة، فإنهم قالوا: والإجارة كأنها عقد، فله أن يحج به، سواء حج مجاناً مع حملة، أو حج بأقل مما أعطي، فما فضل فهو له والناس في الغالب لا يقصدون التبلغ، وإنما يقصدون على سنة الإجارة.
ولهذا نسأل كثيراً من بعض الناس: هل يسوغ لي أن أبحث عن حجة لأحج؟
فنقول كما قال أبو العباس : الأولى ألا تتطلع نفسك إلى مثل هذا، ولكن إن جاءك هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذ وما لا فلا تتبعه نفسك؛ لأنه لو قلنا لك: جاز لك ذلك فسوف تتطلع نفسك في الحجة القادمة أن تأخذ مالاً، وتتطلع نفسك أيضاً إلى أن تزيد وتقول: فلان أعطاني خمسة، وأنت أعطيتني ثلاثة، هل عندك أكثر؟ فإذا جاء بالخمسة تقول: هل عندك أكثر منها سبعة مثلاً، والناس الآن يحججون بسبعة وهلم جراً.
ولهذا الأولى: ألا يفعل الإنسان هذا، ولكن إذا جاءتك حجة، أو لا تستطيع الحج ألبتة إلا بهذا المال فلا حرج حينئذ أن تحج؛ لأنك أخذت لتحج، وحينئذ فلا بأس بها.
وذهب مالك ، كما هو قول البغداديين عنه، وهو مذهب أحمد رحمه الله: إلى أن الحج يجب على الفور؛ لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وقد فرض الحج -في الراجح والله تبارك وتعالى أعلم، كما حقق ذلك غير واحد من أهل العلم، كـابن القيم و ابن حجر وغيرهما- في السنة التاسعة؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في العاشرة؛ لأجل مصلحة شرعية وعارض لم يستطع أن يحج فيه، وهو ( أنه أمر
وأرى والله أعلم: أن القول بالفورية قول قوي، ولكن يجوز تأخيره لمصلحة الحاج، أو لمصلحة العبادة، مصلحة العبادة كما لو كان في الحج مثلاً مرض مستشري عافانا الله وإياكم وجميع المسلمين، وسلم الحجاج والمعتمرين منه، فإن له أن يؤخر الحج، أو كان الشاب صغيراً لا يعقل الحج، ولا يتفهمه فإنه والحالة هذه له أن يؤخره إلى حين يرشد ويعقل، ولو كان بالغاً؛ لأن الحج ربما يحج الإنسان فيفرط لعدم إدراكه ومعرفته، فلعل هذا من مصلحة العبادة، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومن أدلة الوجوب: ما جاء عند الإمام أحمد رحمه الله من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )، وهذا الحديث ضعيف، في سنده مهران وهو مجهول، وهو الراوي عن ابن عباس ، والحديث له طرق يدل على أن الحديث له أصل، ولكن لا يفهم أنه على الوجوب.
ولكنا نقول: الأصل في العبادات أنها على الفورية، ثم إننا لو قلنا: إنه لا يجب عليه أن يحج على الفور، إلى متى؟ فلو أخذنا بمذهب مالك : على أن الإنسان لا يجب عليه الحج بماله، ولو مات لا يجب أن يخرج من تركته، متى يحج؟ فلو بلغ مبلغ الرجال الأشاوس وقلنا له: لا يجب عليه أن يحج لم يكن الحج فرضاً من فروض العبادة، وكونها من أركان الدين دليل على أن الإنسان تبرأ ذمته في ذلك.
فذهب أبو حنيفة و أحمد : إلى أن من شرط وجوب الحج على المرأة وجود المحرم، فلو لم تجد محرماً فلا يجب عليها الحج.
وذهب مالك و الشافعي : إلى أنه ليس من شرط وجوب الحج على المرأة وجود المحرم.
ولأجل هذا جوز مالك و الشافعي أن تحج المرأة مع غير محرم في حجة الإسلام؛ لأن حجة الإسلام واجبة عليها، وعدم وجود المحرم في السفر منهي عنه، وإذا تعارض مأمور ومنهي فإنه يقدم المأمور.
وبهذا نعرف: أن الذين يقولون: إن مالكاً و الشافعي يرون جواز السفر من غير محرم أبعدوا النجعة، وإنما جوزوه في الحج الواجب.
وقال أبو العباس بن تيمية : ويتوجه جواز سفر المرأة مع نساء مأمونات في كل سفر طاعة. فـابن تيمية جوز سفر المرأة من غير محرم في سفر الطاعة، أما سفر نزهة أو سفر عمل فلا يرى جوازه.
وبهذا نعرف كذلك خطأ من نسب لـابن تيمية جواز سفر المرأة من غير محرم مع نساء مأمونات، وإنما جوزه ابن تيمية لسفر الطاعة، يعني: مثل: أن تذهب للعمرة، أو تذهب لزيارة أمها، أو لزيارة أبيها.
والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم: أن المحرم شرط وجوب للمرأة، لما روى الدارقطني بسند صحيح عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحجن المرأة إلا مع ذي محرم ).
يقول ابن المنذر رداً على الأوزاعي و الشافعي و مالك : تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل واحد شرطاً لم يشترطه الآخر، وهذا كلام عظيم!
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحجن المرأة إلا مع ذي محرم )، واضح.
ثم إن قول مالك و الشافعي : إذا تعارض مأمور ومحظور فيقدم المأمور، فنحن نقول: لا يجب عليها الحج أصلاً حتى يكون مأموراً، وهذا لو تأملته لوجدت أنه قوي. ثم إني أتعجب ممن يعنف على القائلين بأن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم في الحج، يقول: هذه عبادة، والمرأة ربما لا تجد محرماً، والإنسان تبرأ ذمته، فنقول: الآن وجدنا لكم حلاً، ألستم تبحثون عن التيسير؟ هذا يسر وسهولة، المرأة في مثل هذه الحال لا يجب عليها الحج أصلاً، ولو ماتت لم تأثم بذلك.
ومع ذلك أقول: إن قول الصحابة في المسائل الخلافية عليه نور لو تأملناه، فنقول: إن الأصل في المرأة أن تحج بمحرم، فإن بحثت عن محرم وبذلت المال للمحرم فامتنع المحرم من الحج مع حرصها على وجوده فإنها في هذه الحالة يجوز لها أن تحج من غير محرم، إذا كان في سفرها حاجة وطاعة، وهذا هو قول عائشة رضي الله عنها، فقد روى ابن أبي شيبة أن عائشة رضي الله عنها قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن -تعني بذلك ابن عمر- ليس كل النساء تجد محرماً، فكانت عائشة تحج من غير محرم؛ لأنه ليس لها محرم، وعلى هذا: فالأصل في المحرم أنه واجب، وغاية الواجبات كما يقول أبو العباس بن تيمية : تسقط مع العجز وعدم الإدراك، وهذه عاجزة عن وجود المحرم، فمنعها من السفر مطلقاً فيه مشقة وحرج، وإذا جوزنا لها ذلك فإنها تخرج مع نساء مأمونات، وهذه صورتها واضحة في زماننا.
مثل امرأة عندها بنات، وليس محرمها بيسير، مثل: أن يكون لها عم كبير السن، فيشق عليها إذا ذهبت لأمها أو لأقربائها، أو تريد أن تسافر للحج أو العمرة، ولا تستطيع ولا يستطيع محرمها أن يكون متهيئاً لها في كل سفرة، فلها أن تسافر مع زوج ابنتها، ومعها بناتها، وإن كان زوج البنت ليس زوج البنت محرماً لبناتها، ولكنها مع نساء مأمونات لا حرج في ذلك؛ لأن الأصل أن الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإدراك.
وهل نقول: المرأة لا تسافر مطلقاً؟ هذا أيضاً فيه صعوبة وحرج، وقد ثبت عند محمد بن إسحاق في سيرته، أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من مكة إلى المدينة من غير محرم لوجوب الهجرة، والوجوب صار أقوى من وجوب المحرم.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر