إسلام ويب

فقه أحاديث الصيام [2]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ورد في فضل صيام شهر شعبان أحاديث كثيرة، وقد داوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيام أكثره، ووردت أحاديث في فضل ليلة النصف منه ولكنها ضعيفة أو موضوعة، ولكن يستأنس بكثرتها، ويجوز للإنسان أن يصوم بعد انتصاف شعبان ولو لم يكن قد صام من نصفه الأول، إلا يوم الشك.

    1.   

    الجمع بين الأحاديث المتعارضة ظاهراً في عدد شهود رؤية الهلال

    المقدم: الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده.

    أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيهلاً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي: فقه أحاديث الصيام.

    أرحب باسمكم وباسم فريق العمل في مطلع هذه الحلقة بضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, أهلاً بكم صاحب الفضيلة!

    الشيخ: حياكم الله شيخ ناصر , وحيا الله المستمعين والمستمعات.

    المقدم: صاحب الفضيلة! الحديث متصل حول الرؤية وما ذكر من آثار فيها، لكن هناك أحاديث تدل على رؤية الهلال من شخص واحد، وأحاديث دلت على شهادة اثنين، فكيف الجمع بين هذه الأحاديث؟

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    نحن ذكرنا أن الأقرب والله أعلم وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أنه يكفي لرؤية هلال رمضان شاهد واحد؛ لحديث ابن عمر كما عند الإمام أحمد و أبي داود : ( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته, فصامه وأمر الناس بصيامه )، وهذا لا يعارض الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شهادة شاهدين، كما في حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي شك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, وانسكوا لها, فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين, فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا ).

    وكذلك حديث الحارث بن حاطب أنه قال: ( عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية, فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما )، كما رواه أبو داود و الدارقطني وقال: إسناده متصل.

    فهذه الأحاديث الأقرب والله أعلم أنها من باب مفهوم العدد كما قال العلماء، والعدد لا مفهوم له، والمعروف عند العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: ( وشهدا شاهدا عدل ), لا يدل على أن أقل من ذلك لا يصح؛ لأن ذلك يسميه العلماء مفهوم العدد، ومفهوم العدد ليس بحجة عند القائلين بالمفهوم كما هو مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء، خلافاً للحنفية.

    وعلى هذا فحديث ابن عمر :( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته ..)، لا يخالف حديث: ( فإن شهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما )، لأن هذا من باب مفهوم العدد، كما قال الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، ليس معناه بالمفهوم أنه لو استغفر لهم أكثر من سبعين مرة لنفع ذلك؛ لأن هذا يسميه العلماء: مفهوم العدد، ومفهوم العدد ليس بحجة, خلافاً لـمالك الذي قال: يجب بشهادة شاهدين، وخلافاً لـأبي حنيفة الذي قال: إن كان يوم غيم فيكفي فيه شاهدان، أو شاهد واحد، وإن كان صحواً فلا يكفي فيه إلا جمع غفير؛ ولهذا كان الأقرب أنه يكفي في رؤية هلال رمضان شاهد واحد، كما هو مذهب الحنابلة والشافعية و ابن حزم كما هو في المحلى، والله أعلم.

    1.   

    فضل صيام شهر شعبان والأحاديث الواردة فيه

    المقدم: أحسن الله إليكم! وشكر الله لكم، ورد في شأن الصيام في شهر شعبان بعض الأحاديث، وبعض الآثار، فهل هناك ما يثبت فضل صيام شهر شعبان، وهل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحرص على صيام شهر شعبان؟

    الشيخ: فضل صيام شهر شعبان جاءت فيه أحاديث.

    منها: ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان )، وفي لفظ آخر: ( كان يصوم شعبان كله, كان يصوم شعبان إلا قليلاً )، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( وما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان، وكان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً )، ولهذا كان يكثر من صيام شهر شعبان حتى سأله بعض الصحابة، كما عند الإمام أحمد و النسائي بسند صحيح أن أسامة بن زيد سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! رأيتك تصوم في شهر شعبان أكثر مما تصوم في غيره، فقال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ).

    ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الشهور بعد رمضان شهر شعبان, كما ذكر ذلك الإمام ابن رجب في كتابه لطائف المعارف، وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان أكثر من صيامه في شهر الله المحرم وقال: إن ما كان قريباً من رمضان قبله أو بعده فهو أفضل من غيره، يقول: كما في السنن والتطوعات المقيدة.

    فالسنن الرواتب لما كانت قبل الفرائض أو بعدها كانت أفضل من السنن المطلقة، وهذا قول ابن رجب .

    ولكن الأقرب هو مذهب جمهور الفقهاء: أن أفضل الشهور بعد رمضان هو شهر الله المحرم, كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم )، والقاعدة التي ذكرها علماء الأصول، وكذلك علماء الفقه: على أنه إذا تعارض في حق الناظر والمجتهد وطالب العلم بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله فالمقدم هو القول؛ لأن الفعل ربما يكون لعذر أو لحاجة أو لغير ذلك, فدل ذلك على أن أفضل الشهور بعد رمضان شهر الله المحرم، وإن كان عليه الصلاة والسلام يكثر من صيام شهر شعبان، وقد كان السلف يكثرون من ذلك. والله أعلم.

    1.   

    أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان وحكم تخصيصها بمزيد من العبادة

    المقدم: أحسن الله إليكم! وشكر الله لكم، صاحب الفضيلة! بعض المسلمين يعمدون إلى ليلة النصف من شعبان فيخصصونها بمزيد من العبادات، فهل ورد في حق ليلة النصف من شعبان شيء يذكر؟

    الشيخ: ليلة النصف من شعبان جاءت فيها أحاديث وآثار ولكنها كلها ضعيفة، بل واهية وبعضها موضوعة، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم كـأبي العباس بن تيمية رحمه الله والإمام ابن حجر رحمة الله تعالى على الجميع.

    فهذا يدل على أن الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث ضعيفة، قال ابن تيمية : وكثرة هذه الأحاديث تدل على أن فيها فضلاً, لكن هذا الفضل ليس معناه أن نخصص شيئاً من العبادات كالصيام أو الصدقة أو الصلاة أو غير ذلك, فإن كونها فيها فضيلة ليس معناه أن تتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ لأن هذا غير مشروع، ومن تعبد الله على غير مثال سابق فقد خالف سنة محمد صلى الله عليه وسلم, وأوشك أن يقع في البدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار كما جاء ذلك عند النسائي وأصله عند مسلم ، والله أعلم.

    1.   

    حكم الصيام بعد النصف الأول من شعبان

    المقدم: أحسن الله إليكم! العلماء يذكرون في فتاواهم أن من كانت عادته الصيام في شهر شعبان فليتم صيامه، ومن لم يصم النصف الأول من شعبان فالأولى في حقه ألا يتم النصف الثاني في الصيام, فما القول الراجح في هذه المسألة؟

    الشيخ: هذه المسألة مبنية على صحة حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا )، وهذا الحديث ضعفه غير واحد من أهل العلم، بل إن أئمة هذا الشأن وهم أصحاب الحديث كـأحمد بن حنبل والإمام الأثرم و عبد الرحمن بن مهدي و ابن رجب و الطحاوي ذكروا أن الحديث ضعيف وأن العلاء بن عبد الرحمن وإن كان هو من رجال مسلم , إلا أن مسلماً ينتقي من أحاديثه ما علم أنه أصاب فيها, ويترك من أحاديثه ما علم أنه أخطأ فيها، وهذا الحديث مما أخطأ فيه العلاء بن عبد الرحمن .

    ولهذا كان الراجح والله أعلم أنه يجوز للإنسان أن يصوم من شهر شعبان، ولو بعد انتصاف شهر شعبان، ولو لم يكن قد صام قبل ذلك؛ لأن الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، هذا الذي يظهر والله أعلم.

    وذكر بعض الفقهاء بناء على صحة هذا الحديث: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ), أن من كان قد صام أول الشهر فله أن يصوم بعد منتصفه، وأما من لم يكن قد صام فلا يصم، وهذا الجمع مبني على صحة هذا الحديث.

    والراجح: أن الحديث ضعيف ولا حرج على الإنسان أن يصوم ولو بعد منتصف شعبان؛ لأنه ربما يكون في سفر، فلم يتهيأ له الصيام إلا بعد انتصاف شعبان فلا حرج في ذلك، ولعل مما يقوي هذا حديثان:

    الحديث الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )، وهذا يدل على أنه لو تقدمه بأكثر من ذلك فلا بأس كما ذكر ذلك الإمام الأثرم .

    الحديث الثاني: ما جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ( هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حثه على الصيام بعد منتصف شعبان، ويدل أيضاً على أفضلية ذلك.

    ومعنى (سرر شعبان) يعني: أواخر شعبان، كما هو معلوم عند علماء اللغة والله أعلم.

    1.   

    اختلاف المطالع في رؤية الهلال

    المقدم: أحسن الله إليكم! وشكر الله لكم، صاحب الفضيلة! الحديث حول الرؤية بالنسبة للبلدان المختلفة، هل يلزم البلاد الأخرى الصوم أو الإفطار إذا رأت إحدى البلاد هلال شهر رمضان، أو رأت هلال شهر شوال؟

    الشيخ: هذه المسألة اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال.

    وأنا أرجح ترجيح هيئة كبار العلماء رحمهم الله وهو مذهب الحنابلة وأكثر الحنفية, على أنه إذا رآه واحد أو إذا رآه أهل بلد وجب على المسلمين كلهم الصوم إذا كانوا يتفقون معهم في ليل، أو يتفقون معهم في نهار، هذا مذهب الحنابلة في الجملة، وهو مذهب أكثر الحنفية.

    ودليل ذلك ما جاء في الأحاديث الكثيرة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الأمة، وخطابه لواحد هو خطاب للأمة كما هو معروف عند علماء الأصول.

    منها: حديث ابن عمر كما في البخاري و مسلم : ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )، وفي رواية: ( فأكملوا العدة ثلاثين ).

    ومنها: حديث أبي هريرة : ( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )، كما عند البخاري .

    وحديث حذيفة وحديث ابن عباس وغير ذلك من الأحاديث، فهذا الأظهر أنه إذا رآه أهل بلد وجب على المسلمين كلهم الصوم، ولكن إذا كان كل بلد قد ارتأى لنفسه منهجاً بناء على رأي ولي أمر المسلمين في ذلك البلد فلا حرج في ذلك، ولعله يستدل به في قصة كريب (حينما بعثته أم الفضل إلى معاوية في الشام قال: فأدركت شهر رمضان في ليلة الجمعة فرأيته ورآه الناس, فلما قدمت إلى المدينة سألني ابن عباس ثم قال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة قال: أما نحن فلم نره إلا ليلة السبت، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    وبعض العلماء كالشافعية و أبي العباس بن تيمية يستدل بهذا الحديث على أنه إذا اختلفت المطالع فكل بلد له مطلعه، فلهم رؤيتهم.

    ولكن الأقرب أن هذا ليس بقوي؛ لأن الشافعية قالوا: إن المطالع هو مقدار مسافة قصر، ومن المعلوم أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم: ( فشهد أنه رأى هلال شوال بالأمس عشية, فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يخرجوا من الغد للصلاة )، وهذا يدل على أن هذا الأعرابي جاء من مسافة بعيدة، ومن المعلوم أن هذه المسافة التي جعلته لا يستطيع أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الغد دليل على وجود اختلاف المطالع، ولم يأبه عليه الصلاة والسلام بذلك, فدل على أنه إذا رآه أهل بلد وجب على المسلمين كلهم الصوم، ولعل هذا هو الأقرب.

    وأما قول ابن عباس فكانت هناك حاجة إلى مثل هذا؛ لأنه لا يعلم المسلمون مقدار الصيام إلا بمسافة ومدة، فيلزم من هذا أن يقضوا كثيراً من الأيام، فكان قول ابن عباس بناء على ذاك الزمان أقرب إلى الصواب، أما في زماننا هذا الذي استطاع الناس فيه أن يخبر بعضهم بعضاً خلال ثوان كما في وسائل الاتصال الحديثة, فلهذا كان الأقرب أنه إذا رآه أهل بلد وجب على المسلمين كلهم الصوم، ولكن إذا ارتأى أهل بلد من علمائهم ومشايخهم برؤية معينة فلكل بلد رؤيته كما هو معلوم, والله أعلم.

    المقدم: أحسن الله إليكم! وشكر الله لكم صاحب الفضيلة! هذا البيان والتوضيح.

    بهذا نصل إلى ختم هذه الحلقة من حلقات برنامجكم اليومي: فقه أحاديث الصيام, الشكر في ختامها لفضيلة ضيفنا بعد شكر الله جل في علاه الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، شكراً له وشكراً لكم، وإلى اللقاء في حلقة الغد وأنتم على خير.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796136