إسلام ويب

فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الحج [1]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بينت الأدلة أن الحج والعمرة واجبان مرة في العمر على من توفرت فيه شروط الوجوب، ويصح الحج عن الغير في بعض الأحوال لمن كان به مرض لا يرجى برؤه.

    1.   

    زمن الحج والعمرة وحكمهما

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وألا يجعل منا ولا فينا شقياً ولا مطروداً، وأشكر المشايخ والإخوة القائمين على هذا الجامع المبارك على إتاحة هذه الفرصة لي ولإخواني طلاب العلم.

    ومن المعلوم أن اليوم خصص لشرح كتاب الحج من الكتاب الذي اعتمد في هذه الدورة نيل دليل الطالب، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لإنهاء ما وجب علينا إنهاؤه.

    وكتاب الحج أيها الإخوة! كما يقول كثير من أهل العلم: من أدق مسائل العبادات؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب مع طوله أقل مما ورد في أبواب العبادات الأخرى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لفظاً عاماً، فقال كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( لتأخذوا عني مناسككم )، وفي لفظ البيهقي : ( خذوا عني مناسككم )، فهذا الذي جعل كثيراً من أهل العلم يختلفون في مسائل من الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل، ولا يعلم هل فعله يدل على أن المفعول ركن أم هو واجب، أم هو مستحب، أم هو جائز؟ وإذا كان واجباً فهل يجبره بدم أم لا؟ ونهيه صلى الله عليه وسلم عن فعل بعض المحظورات أو الممنوعات هل هذا من باب المنع الذي يدل على التحريم، أم هو الذي يدل على الكراهة؟ فكل هذه الأشياء جعلت بعض أهل العلم يختلفون في هذه المسألة، ولعل سعيد بن جبير كما عند الترمذي قد استشكل اختلاف الصحابة والتابعين في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه حج حجة واحدة، فقال ابن عباس أنا أقول لك: ( حينما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أهل، فسمع الناس تهليله، فحدثوا بمثل ما سمعوا، فلما ركب دابته أهل حينما كان على البيداء، فسمع الناس تهليله أو إهلاله، فحدثوا عن ذلك ) الحديث، والحديث وإن كان في سنده ضعف، بسبب وجود رجل فيه يقال له: خصيف بن عبد الرحمن ، لكن هذا هو الذي يظهر والله أعلم، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيد إهلاله مرة بعد مرة، فيقول: لبيك عمرة ويرددها مرة بعد مرة، وليس مرة واحدة كما يفهمه كثير من أهل العلم. نبدأ إن شاء الله مستعينين بالله، ونسأله التوفيق والتسديد.

    الحج والعمرة بين الفورية والتأخير

    قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الحج].

    الحج فرض في أواخر السنة التاسعة على الأرجح، وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية والحنابلة وبعض المالكية خلافاً لبعض المالكية والشافعية، فإن الشافعي نص على أن الحج فرض في السنة السادسة استدلالاً بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والراجح أن هذه في السنة السادسة في صلح الحديبية؛ وذلك لأن الله أمر المؤمنين إذا أهلوا بالحج أو العمرة أن يتموها، والإتمام شيء، وابتداء الحكم شيء آخر، فهذا هو الراجح والله أعلم؛ ولهذا حينما فرض الحج في السنة التاسعة لم يستطع النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج بسبب أن الكفار كانوا يحجون، والنساء كن يحججن عاريات، وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عارية، وتقول:

    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

    ( فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حاجاً في السنة التاسعة يقول: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان )، فكان تأخيره صلى الله عليه وسلم لأجل مصلحة شرعية، وعلى هذا فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم عن السنة التاسعة إلى أواخرها أو بداية السنة العاشرة، هل ذلك يدل على أن الحج على الفور، وكان تأخيره لأجل مصلحة وعذر، أم يدل على أن الحج ليس على الفور؟

    قولان عند أهل العلم، والراجح هو مذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية أن الحج على الفور، فمن كان مستطيعاً قادراً فإنه يجب عليه الحج على الفور، خلافاً لـمالك في أحد قوليه و الشافعي واختيار أبي عمر بن عبد البر .

    حكم الحج

    قال المؤلف رحمه الله: [وهو واجب مع العمرة في العمر مرة].

    الحج لا إشكال في وجوبه، فقد ثبت وجوبه في الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأما السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان )، وفي رواية: ( وصيام رمضان والحج )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر .

    وأما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على وجوب الحج، فقد صح عن الحسن أنه روى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار ينظرون إلى من وجد جدة فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، والحديث من مسند عمر ، وهو صحيح إلى الحسن ، ولكن الحسن البصري لم يسمع من عمر ، ولكن العلماء أجمعوا على ذلك، وهذا لا إشكال فيه.

    إنما الخلاف في مسألة هل من ترك الحج تهاوناً وكسلاً يكفر بذلك أم لا؟ وعامة أهل العلم على أنه لا يكفر، خلافاً للرواية الأخرى عند الإمام أحمد ، ورواية عن ابن مسعود .

    والصحيح أن من ترك الحج تهاوناً أو كسلاً فلا يكفر، كما هو قول عامة أهل العلم.

    حكم العمرة

    قال المؤلف رحمه الله: [مع العمرة].

    اختلف العلماء في وجوب العمرة هل تجب أم لا؟ وهل إذا قلنا بوجوبها هل تجب على أهل مكة أم لا؟ والراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن العمرة واجبة، وإن كان وجوبها ليس كفرضية الحج، وهذا هو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الراجح خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، ومما يدل على وجوبها ما جاء من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: ( يا رسول الله! إن أبي لا يستطيع الحج أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك واعتمر ) قال الإمام أحمد : هذا أصح شيء جاء في وجوب العمرة، ونرى أن شعبة أثبته؛ وذلك لأن الحديث يرويه شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي ، و شعبة أثبت هذا الحديث.

    وأقول: هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الابن أن يحج عن أبيه وأن يعتمر، فإذا وجب على الابن أن يحج عن الأب الذي هو غير مستطيع دل ذلك على أن المكلف من باب أولى.

    ومما يدل على وجوب العمرة ما جاء عند البيهقي و الطحاوي بسند جيد عن الصبي بن معبد ( أنه أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبان عليّ، فأهللت بهما، فقال: هديت السنة )، وهذا يدل على أن الحج والعمرة مكتوبان عليه، وقد صح عن ابن عباس و ابن عمر و جابر كما روى ذلك البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر : الحج والعمرة فريضتان، وكذلك صح عن ابن عباس ، ورواه البيهقي عن جابر .

    فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون بوجوب العمرة، وإذا قلنا بوجوب العمرة فلا فرق بين المكي وغير المكي، هذا هو الظاهر والله أعلم، وأما ما نقل عن عطاء و طاوس ما أدري أيؤجرون أم يؤزرون؟ ما إن يذهب أحدهم إلى الحل إلا وقد طاف مائة شوط، فإن عمرتكم الطواف بالبيت كما قال ابن عباس ، وهذا يدل على أنه ينبغي لمن كان بمكة ألا يكثر من العمرة؛ لأن عمرته هي الطواف بالبيت، لكن ليس معناه ألا يجب عليه أن يعتمر في السنة مرة، هذا هو الراجح والله أعلم، وقد روى ابن أبي شيبة بسند جيد عن كثير من السلف أنه كان يعتمر في رمضان وهو بمكة مما يدل على أنه لا فرق.

    1.   

    شروط صحة الحج والعمرة

    عندنا الآن شروط صحة وشروط وجوب، شروط صحة يعني: لولاهما ما صحت العبادة، وهما الإسلام والعقل، وقولهم: (العقل) فيه تجوز؛ لأنهم حينما يطلقون العقل يقصدون به المجنون وغير المميز في سائر العبادات إلا في الحج فإنهم يقولون: الإسلام، ويقولون: العقل الذي ضده الجنون، وليس العقل مطلقاً؛ لأن الصبي غير المميز يصح حجه في قول عامة أهل العلم كما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجره )، فدل ذلك على أن الصبي غير المميز غير عاقل، ومع ذلك صح حجه، فدل ذلك على أن المجنون خاصة هو الذي لا يصح منه الحج، هذه شروط الصحة.

    1.   

    شروط وجوب الحج

    الإسلام والعقل

    قال المؤلف رحمه الله: [وشروط الوجوب خمسة].

    أما شروط الوجوب، فذهب الحنابلة إلى أنها خمسة، وتبعهم على ذلك الحنفية، فقالوا: الأول: [الإسلام]؛ لأن الكافر لا تصح منه العبادة: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].

    الثاني: [العقل]. وكما قلت: إن قوله: العقل فيه تجوز، وإلا فإنه ينبغي أن يقول: العقل الذي هو ضده الجنون؛ لأن المجنون لا تصح منه عبادة، أما الصبي فإنه تصح عبادته، أو يصح منه الحج ويكون أجره لوالديه، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس كما مر، وكما ثبت عند البيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه حج بابنه محمد بن أبي بكر وكان في المهد، وهذا يدل على أنه يصح حجه، ومما يدل على صحة حج الصبي ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه كما رواه الطحاوي و ابن أبي شيبة أنه قال: (اسمعوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس ، أيما صبي حج ثم حنث فعليه حجة أخرى)، وهذا يدل على أن حجه الأول ينفعه، ولكنه لا يبرؤه عن حجة الإسلام.

    البلوغ وكمال الحرية

    الثالث: [البلوغ]؛ لحديث علي و عائشة : ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ )، وهذا هو الراجح أن الصبي ولو حج فإنه لا ينفعه إذا بلغ؛ بل عليه أن يحج مرة ثانية؛ لقول ابن عباس : أيما صبي حج ثم حنث -يعني: بلغ- فعليه حجة أخرى.

    الرابع: [وكمال الحرية] يعني: أن العبد والمبعض لا يصح منهم حج على الفرضية، وإن قبلت عبادتهم، فإذا عتق فإنه يجب عليه أن يحج حجة أخرى، وهذا قول عامة أهل العلم، خلافاً لـابن حزم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنهما قالا: إن هذا مكلف، فيجب عليه ما يجب على المكلف، والصحيح هو قول عامة أهل العلم؛ لقول ابن عباس : (اسمعوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس أيما صبي حج ثم حنث فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى)، وقول ابن عباس : (فلا تقولوا: قال ابن عباس ) يعني: أن ابن عباس لم يأخذه من تلقاء نفسه، إنما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال المؤلف: [لكن يصحان من الصغير والرقيق] معنى: (يصحان) أنهما يقبلان قبول ثواب وليس قبول إجزاء. قال المؤلف: [ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته]؛ نعم لقول ابن عباس كما مر معنا، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    قال المؤلف: [فإن بلغ الصغير أو عتق الرقيق قبل الوقوف أو بعده] يعني: صبي أهل بالحج وهو لم يبلغ، أو رقيق أهل بالحج ولم يعتق هذان كما يقول المؤلف: ثم بلغ الصبي وعتق الرقيق قبل الوقوف بعرفة، أو بعد الوقوف بعرفة، قال المؤلف: [إن عاد فوقف في وقته] يعني: أجزأه عن حجة الإسلام.

    المؤلف هنا أعطانا مسألتين، إن كان الصبي قد بلغ قبل الوقوف بعرفة أو أن الرقيق قد عتق قبل الوقوف بعرفة ما حكمه؟ الجواب: حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر : ( الحج عرفة )، وهذا الحديث يقول فيه سفيان بن عيينة : هذا أشرف حديث رواه سفيان الثوري ؛ لأنه بين ركنية الوقوف بعرفة؛ لأن إهلاله يجزئه.

    المؤلف قال: صح حجه لأجل أن يكون وقوفاً عن واجب، أو عن ركن؛ لأنه بلغ، السؤال: كيف صححنا إحرامه، وهو قد أهل وهو سنة في حقه؟ الآن الإنسان إذا قال: الله أكبر يريد يصلي سنة الفجر، ثم قال: لن أصلّ سنة الفجر أريد أن أقلبها فجراً، هل يجزئ؟ الجواب: لا يجزئ بإجماع العلماء كما نقل ذلك ابن حزم ، السؤال: كيف أجزأ الحج هنا؟

    فلو قال قائل: لأن الإحرام ليس مقصوداً لذاته، إذاً هل يجوز لي أن أقول: أريد أن أحرم من غير قصد الحج والعمرة، وأحرمت حتى يراني الناس أني معتمر؟

    فالأصل أن الإنسان لا يصح إهلاله إلا عن واجب، لكن لما جاء حديث ( من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، وفي رواية: ( اجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة )، وجه الدلالة كما هو مذهب الحنابلة والشافعية قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه أهل عن الغير مع أنه لم يحج حجة الإسلام صحح الإهلال، فدل ذلك على جواز قلب نية الإحرام بعد أدائه، فهذا قلب النية من نفل إلى فرض، وهو قد نقل من حجه عن الغير إلى حجه عن نفسه، وهذا في الحج خاصة، وسوف يأتينا حديث شبرمة والكلام فيه، والله أعلم.

    إذاً: هذا يدل على أن إحرام الصبي ينفعه، وإحرام الرقيق ينفعه، فإن نواه بعد ذلك عن إحرام الحج فإنه يجزئ ذلك؛ لأن من أركان الحج الإحرام، يعني: نية الدخول في النسك، فهو قد نوى الدخول في النسك على أنه سنة، ومع ذلك أجزأ؛ لأنه نواه وقلبها، وهذا يدل على أنه يجوز قلب نية من نفل إلى فرض في الحج خاصة، والله أعلم.

    قول المؤلف: (أو بعده) يعني: إن وقف بعرفة ثم ذهب إلى مزدلفة، ثم بلغ ليلة مزدلفة، فما الواجب في حقه؟ الواجب أن يذهب في نفس الليل ليقف في عرفة أي ساعة شاء من ذلك الليل ثم يرجع، فيجزئه والحمد لله.

    قال المؤلف: [أجزأ عن حجة الإسلام ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً].

    لماذا ذكر المؤلف (ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً)؟ قالوا: لأنه إذا أحرم مفرداً أو قارناً، ثم طاف طواف القدوم ثم سعى سعي الحج، يكون قد أدى عبادة ركنية وهي السعي. يعني: أنه لو كان محرماً إفراداً أو محرماً على أنه قارن، ولو كان قبل الوقوف بعرفة وقد طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج ثم بلغ فإنه لا يجزئه ذلك، لماذا؟ قالوا: لأنه طاف ثم سعى سعي الحج ولا يجزئه، هذا هو المذهب.

    والراجح أنه إن أدرك الوقوف بعرفة فإنه يصح حجه ولو كان قارناً أو مفرداً، والدليل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الذين أهلوا وهم مفردون حينما وقف بالمروة، وكان طوافهم الأول هو طواف قدوم، وسعيهم سعي حج، كما يقول جابر : ( حتى إذا كنا على المروة قال: من كان منكم أهل بالحج فليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج بعد، قالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ) وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن كان مفرداً بعد أن طاف طواف قدوم وسعى سعي حج أن يقلب الجميع إلى أن تكون عمرة، ومن المعلوم أن العمرة ركنها الطواف، وواجبها السعي والحلق على الراجح، فلما جاز أن يقلب ما أدى عبادته وهو مفرد دل ذلك على صحة قلب الصبي شريطة أن يكون قد وقف بعرفة، وعلى هذا فقول المؤلف: (ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً)، وسعى بعد طواف القدوم.

    والراجح أنه يجزئه إذا لم يقف بعرفة إذا أدرك الوقوف بعرفة ولو كان مفرداً أو قارناً لحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة الذين أهلوا وهم مفردون، أو وهم قارنون أن يقلبوها عمرة، ومن المعلوم أن من طاف للقدوم سوف يجعلها بعد ذلك طواف ركن وهو طواف العمرة.

    ثم قال المؤلف: [وكذا تجزئ العمرة إن بلغ].

    ما معنى (تجزئ العمرة إن بلغ)؟ يعني: أنه لو أهل بالعمرة وهو لم يبلغ، ثم لم يطف طواف العمرة حتى بلغ، نام قبل أن يطوف، أو وهو في السيارة من الميقات إلى البيت، نام في السيارة فاحتلم فدل ذلك على أنه قد بلغ، فيجب عليه أن يغتسل، وتصح عمرته عن عمرة الإسلام؛ لأنه لم يؤد ركنه الأعظم وهو الطواف بالبيت، قال ابن عباس : من مس الحجر فقد حل شاء أم أبى، يعني: شرع في الحل.

    قال المؤلف: [أو عتق قبل طوافها] هذا هو الراجح والله أعلم.

    الاستطاعة

    قال المؤلف رحمه الله: [الخامس: الاستطاعة].

    هذا الشرط الخامس من شروط الوجوب: الاستطاعة، وفسر المؤلف الاستطاعة بقوله: [وهي ملك زاد وراحلة تصلح لمثله، أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك، بشرط كونه فاضلاً عما يحتاج من كتب ومسكن وخادم، وأن يكون فاضلاً عن مئونته ومئونة عياله على الدوام].

    هذه مسألة الاستطاعة، والاستطاعة تحتاج إلى تفصيل، فجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة يرون أن الاستطاعة إنما هي استطاعة مالية؛ لأنه قال: (ملك زاداً وراحلة)، (زاد) لأكله، (وراحلة) تنقله إلى الحرم، يعني: أنه لو كان نضو الخلقة يعني: ما يستطيع أن يثبت، وكان غنياً فإن حج الفريضة عليه قد وجبت؛ لحديث المرأة الخثعمية كما في الصحيحين حينما قالت: ( يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: أرأيتِ لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته فاقضوا، فالله أحق بالوفاء )، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على أن فرض الحج قد وجب على أبيها مع أنه لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فدل ذلك عند الجمهور على أن المقصود الأعظم هو المال، فالقدرة هي القدرة المالية وليست القدرة البدنية من حيث الوجوب لا من حيث لزوم الأداء، فقد يكون الشخص مريضاً لا يستطيع أن يحج، فهل يجب عليه أن يحج وهو مريض؟ الجواب: لا؛ لأن وجوب الحج لزومه الآن معفو عنه؛ لأنه مريض، لكن هل فريضة الحج قد كتبت عليه؟ نعم، إذاً هناك فرق بين فرضية الحج وبين لزوم أدائه، وهذا الذي يسميها العلماء: لزوم السعي إليه، وهذا مذهب الحنابلة.

    أما مالك رحمه الله فإنه يقول: العبرة بالقدرة البدنية، فمن كان قادراً على أن يمشي ومن عادته أن يسأل الناس فإن الحج يجب عليه، والأقرب أن القدرة المالية هي الأصل، أما من كان من أهل مكة ولا يشق عليه أن يمشي في المشاعر، ويقدر أن يعمل مع الناس فإنه يجب عليه ذلك، وعلى هذا فيكون وجوبه على من كان قريباً من مكة وهو لا يشق عليه المشي إنما الواجب عليه ملك الزاد وليس المركب إذا كان من عادته أن يمشي، ولا يكلف هذا الأمر.

    إذاً: الأصل القدرة المالية، أما من كان قريباً من مكة ولا يشق عليه المشي، وكان هذا هو معتاده إنما يلزمه فقط أن يملك زاداً، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    أما دليل الاستطاعة فالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها ضعيفة، منها ما رواه الترمذي بلفظ: ( قالوا يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة ) وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، والصحيح أنه مرسل عن الحسن البصري ، ومراسيل الحسن كمهب الريح كما يقول بعض أهل الحديث، وروي عن ابن عمر و أنس ، ولا يصح مرفوعاً، والله أعلم، لكن دليله هو ( أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ ) وهذا يدل على أنه يجب عليه الحج، وما وجب عليه الحج إلا لأنه يستطيع أن يحمل شيئاً، والله أعلم.

    ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، والاستطاعة عامة، الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية هذا الأصل، إلا أن الاستطاعة البدنية خرجت لحديث الخثعمية .

    أيضاً ولا بد أن يكون هذا الزاد والراحلة فاضلاً عن قوته وقوت عياله الذين يجب عليه أن ينفق عليهم، فإذا كان عنده في الحساب خمسة آلاف ريال وأولاده يجب عليه أن يعولهم، فيقول: أريد أن آخذ الخمسة الآلاف ريال، فيقال له: والعشرة أيام التي أنت ذاهب من أين نفقة أولادك؟ قال: لهم الله، نقول له: ما وجب عليك الحج الآن؛ لأنه لا بد أن يكون هذا المال فاضلاً عن قوت زوجتك وأولادك، وكذلك إن كان والداك معك وليس عندهم شيء، فلا بد أن يكون فاضلاً عن قوت والديك كذلك؛ لأنه يجب عليك أن تنفق على والديك؛ والإنسان يجب عليه أن ينفق على فروعه وأصوله وزوجته، وهذا مراد المؤلف بقوله: (أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك)، يعني: لا يلزم أن يملك راحلة، المقصود أنه يملك راحلة أو عنده من المال ما يستطيع أن يملك به راحلة، أو يملك إجار هذه الراحلة.

    قول المؤلف: (فاضلاً عما يحتاج من كتب ومسكن وخادم) الآن بعض الطلبة يقول: هل يجب عليّ الحج؟ فإذا قيل له: هل عندك شيء؟ يقول: والله! عندي بعض الأموال، لكن الامتحانات اقتربت وبقي مذكرات عليّ وأريد أن أشتري كتب بعض المدرسين، نقول: هذه كتب علم ولو كانت كتب طب ونحوها؛ لأن هذا من باب فرض الكفاية، فنقول: إذا كان عندك مال فاضل عن الأموال التي سوف تشتري بها المذكرات وكتب العلم فإنه يجب عليك وإلا فلا، والله أعلم.

    1.   

    أمن الطريق من حيث لزوم الأداء والوجوب

    قال المؤلف رحمه الله: [فمن كملت له هذه الشروط لزمه السعي فوراً إن كان في الطريق أمن].

    المؤلف رحمه الله ذكر أن أمن الطريق ليس من موجبات الحج، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمي هذه البلاد من كيد الكائدين، فلو أن بينك وبين مكة قطاع طرق مثلما حصل قبل خمس عشرة سنة أو عشرين سنة حينما ذعر الناس بشخص لا يستطيعون أن يعرفوه يوقف السيارات ويأخذ أموالهم، وربما حصل قتل من ذلك.

    فلو كان شخصاً لا يستطيع أن يأتي إلى الحرم خوفاً من أمن الطريق، هل يجب عليه الحج أم لا؟

    المؤلف رحمه الله وهو المذهب قال: أمن الطريق ليس موجبات الحج، ولكنه من لوازم الأداء، إذاً يفرق العلماء وخاصة الحنابلة بين لزوم أداء العبادة والمضي فيها، وبين وجوبها في الأصل.

    والقول الآخر في المسألة أن أمن الطريق من موجبات الحج فلو ملك زاداً وراحلة وهو مسلم بالغ حر عاقل فإنه لا يجب عليه الحج إذا كان الطريق غير مأمون، والله أعلم.

    أقول: إن مسألة أمن الطريق هي مسألة المضي لأداء العبادة، وهذا يدل على أن أمن الطريق يعذر فيه صاحبه على ألا يحج من عامه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في البيت من يطوف عرياناً أمره الله سبحانه وتعالى ألا يحج هذه السنة، فتأخير ذلك لعذر، فمن الأعذار أيضاً عدم أمن الطريق، ولعل هذا القول أظهر بأن أمن الطريق ليس من موجبات الحج، ولكنه من باب لزوم الأداء والله أعلم، كما هو مذهب الحنابلة.

    1.   

    أحكام الحج عن الغير

    الحج عمن عجز عن الحج لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن عجز عن السعي لعذر ككبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم نائباً حراً].

    أفادنا المؤلف بهذه العبارة على أن العجز إما أن يكون عجزاً مؤقتاً وإما أن يكون عجزاً دائماً في الظاهر.

    فالأول: العجز الدائم في الظاهر أشار إليه المؤلف بقوله: عجز لكبر، فإن الكبير لا يمكن أن يصغر فهذا عجزه عجز دائم في الظاهر.

    الثاني: مرض مرضاً لا يرجى برؤه في الظاهر، فهذان قد وجب عليهما الحج؛ لأنهما قادران بمالهما، فحينئذٍ يجوز لهما أن يقيما نائباً يحج عنهما.

    كذلك أفادنا المؤلف أن من كان قادراً على الحج ولم يحج وليس مريضاً لا يجزئه أن يبعث نائباً أن يحج عنه؛ لأن حجة الإسلام واجبة عليه هو، فهذا هو مراد المؤلف وهذا هو الصحيح أن من لم يحج حجة الإسلام لا يجزئه أن يحج أحد عنه، كما قال ابن عباس : لا يصم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد؛ لأن الأصل أن العبادة واجبة على المكلف، فلا يجزئ أن يبعث أحداً يحج عنه إذا لم يكن قد حج حجة الإسلام.

    وأفادنا المؤلف أيضاً أن من كان عاجزاً لمرض يرجى برؤه، فإنه لا يجزئه أن يبعث أحداً يحج عنه؛ لأن هذا العجز بمثابة لزوم الأداء، فهو لا يجب عليه الآن، ولا يصح أن يبعث أحداً يحج عنه؛ لأنه قادر في المستقبل، وهذا هو الظاهر، وهو قول عامة أهل العلم.

    ودليل من قال: إن من كان عاجزاً عجزاً لا يرجى برؤه فإنه يصح أن يحج أحد عنه؛ لما جاء في حديث ابن عباس : ( أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم )، وكذلك في حديث أبي رزين حينما قال: ( إن أبي لا يستطيع الحج، قال: حج عن أبيك واعتمر ).

    الحج عن الحي القادر الذي حج الفريضة

    المسألة الأخرى: أن المؤلف رحمه الله إنما أشار إلى حج الفرض، والسؤال: لو أن إنساناً حج حجة الإسلام وهو قادر نشيط، فهل له أن يبعث أحداً أن يحج عنه تطوعاً؟

    الجواب: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن للمسلم الذي حج حجة الإسلام أن يبعث أحداً أن يحج عنه تطوعاً، واستدلوا على ذلك بحديث شبرمة الذي يرويه سعيد بن جبير عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب، قال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) وهذا دليل على أنه لو حج عن شبرمة وكان شبرمة قادراً فأنه يصح الحج؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم عن شبرمة ، فدل ذلك على جواز أن يحج الإنسان عن الغير شريطة أن يكون الغير قد حج حجة الإسلام، وأن يكون هو قد حج حجة الإسلام، وأرى أن هذا القول أظهر وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو مذهب أبي حنيفة وهو الأقوى.

    أقول أيها الإخوة: لو انتشر هذا القول في أوساط الأغنياء والأثرياء والمسئولين لخف ذلك على الحج، لو قيل للمسئول: أنت بدلاً من أن تحج ابعث أحداً يحج عنك، فإن ذلك يمنع ازدحام الناس في بعض مواطن الحج، وأرى أن هذا القول قوي ولا دليل يمنع من ذلك إلا أن الأصل أن الإنسان يؤدي العبادة عن نفسه وقد أداها فرضاً، فدل ذلك على جوازه خلافاً لـمالك و الشافعي ، وكذلك يفتي بعض مشايخنا بالمنع إلا لعاجز، والله أعلم.

    وقد ذكرت ذلك لشيخنا عبد العزيز بن باز فقال: لا ينبغي، فقلت له: شيخنا حديث شبرمة ألا يدل على ما مشى عليه المذهب والحنفية، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، فقال الشيخ! لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال شبرمة ، فقلت له: يا شيخ! إن ظاهر الحديث لا يفيد هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شبرمة فقال: ( من شبرمة ؟ ) فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بحاله، فقال: المسألة تحتاج إلى بحث.

    حج المرأة عن الرجل

    قال المؤلف رحمه الله: [ولو امرأة يحج] يعني: أن الإنسان إذا كان عاجزاً عجزاً لا يرجى برؤه يبعث أحداً سواء كان امرأة أم رجلاً، وقد أجمع العلماء على أن للمرأة أن تحج عن الرجل، وللرجل أن يحج عن المرأة كما في حديث الخثعمية والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    الحج عن الغير من غير بلد المستنيب

    قال المؤلف رحمه الله: [ويعتمر عنه من بلده، ويجزئه ذلك ما لم يزل العذر].

    قوله: (ويعتمر عنه من بلده)، ذهب الحنابلة والشافعية إلى أن من أقام نائباً يحج عنه فإن النائب يحج عنه من حيث وجب الحج على المستنيب، فالآن وجب الحج على المستنيب مثلاً في الصين؛ لأنه صيني، فالنائب يحج عنه من الصين، فلو قال أحد التجار المسلمين في الصين لأحد أقربائه الذين في مكة: حج عني، فقال: لا، أنا أبشرك صرت حنبلياً، وحجي عنك من هنا لا يجزئ؛ لأن الحنابلة يقولون: ويحج ويعتمر عنه من بلده، أعطني تذكرة طيران إليك، حتى أهل بالحج من بيتك.

    ما دليلهم؟ قالوا: لأن المستنيب وجب عليه الحج من بلده، فالنائب يقوم مقام المستنيب فيجب عليه أن يحج من المكان الذي وجب به الحج على المستنيب، وإلا لقل الأداء، والراجح والله أعلم أن البعد والقربية ليست بمقصودة، وإنما القصد أن يهل بالعمرة من الميقات، أو أن يهل بالحج من الميقات، فإذا أدرك أجزأ سواء كان المستنيب عند الميقات أو أبعد منه، والله أعلم، وهذا القول الثاني هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد ، وهو الراجح.

    زوال العذر المستنيب قبل إحرام نائبه

    قال المؤلف رحمه الله: [ويجزئه ذلك ما لم يزل العذر قبل إحرام نائبه].

    يعني: لو أن إنساناً مريض مرضاً لا يرجى برؤه، مثلاً -عافانا الله وإياكم- مرض السرطان صار منتشراً فيه، فقال لشخص في ذي القعدة: يا فلان! أنا والله! ما حججت حجة الإسلام، وبي الذي ترى، والأطباء قد حكموا عليّ بأن الحياة البرزخية أقرب إلي من الحياة الدنيوية فأطلب منك أن تحج عني، فأخذ النائب المال فذهب إلى الحج، يقول المؤلف: إن شفي المستنيب فلا يخلو من أن يكون شفاؤه قبل إحرام النائب أو بعد إحرامه يعني: إن كان انتهى عذر المستنيب قبل الإحرام، ولم يعلم النائب فأحرم فإنها تكون تطوعاً عن نفسه، وإن شفي المريض المستنيب بعد إحرام النائب، فإن الحج يصح، قالوا: لأن حال الأداء هو جائز أن يحج عنه، والقاعدة أن الله لم يأمرنا أن نعمل العبادة مرتين، فلما جازت عبادة النائب بإحرامه فلا فرق بين أن يكون ذلك العذر مستمراً إلى النهاية أو انتهى في أثنائه، هذا المذهب.

    والقول الثاني: علقوها بفعل ركن من أركان الحج كالوقوف أو الطواف، فإن كان النائب قد طاف فقد شرع في التحلل فيجزئ؛ لأنه أدى غالب العبادة أو وقف بعرفة.

    أقول: هذا القول قوي، فإن كان المستنيب قد شفي قبل طواف النائب أو قبل وقوفه بعرفة، فإنه لا يجزئ حج النائب عنه، وإن شفي المستنيب بعد طواف النائب أو بعد الوقوف بعرفة فإن حج النائب يصح عن المستنيب، هذا القول أظهر؛ لقول ابن عباس : من مس الحجر فقد حل شاء أم أبى، قال تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33].

    الأخذ من تركة من لم يحج ليُحج عنه

    قال المؤلف رحمه الله: [فلو مات قبل أن يستنيب وجب أن يدفع من تركته لمن يحج ويعتمر عنه].

    الآن عندنا شخص مليء وعنده قدرة مالية، مثل شاب عمره عشرون سنة عنده راتب وهو قادر على الحج لكنه أخر، ثم -عافانا الله وإياكم- وقع في حادث، فهل يجب عليه الحج؟ يجب عليه الحج، السؤال: هل يخرج من تركته؟

    مذهب الحنابلة والشافعية يقولون: يخرج من أصل التركة قبل قسمة الميراث، فكأن ذلك دين عليه، فكما أن الدين مقدم على الورثة، فكذلك دين الحج مقدم على الورثة.

    وأما مالك و أبو حنيفة فقالوا: إن أوصى بأن يحج أحد عنه أخرج من ثلث التركة، وإن لم يوص فلا يخرج الورثة عنه ذلك، هذا مذهب مالك و أبي حنيفة .

    والراجح هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أرأيتِ لو كان على أبيك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فاقضوا فالله أحق بالوفاء ) وجه الدلالة أنه لما كان من المعلوم أن الميت إذا مات وعليه دين للغير يجب أن يخرج من كل التركة وليس من ثلث التركة، فإن بقي بعد ذلك وزع المال على الورثة، فإذا كان ذلك في حق المخلوق، فما وجب لحق الله من باب أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فاقضوا فالله أحق بالوفاء )، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

    إذاً: قول المؤلف (وجب أن يدفع من تركته) يعني: من أصل التركة وليس من الثلث، فلو أن عنده مثلاً مائة ألف فثلث التركة ثلاثة وثلاثون ألفاً، فعلى مذهب الحنابلة والشافعية يخرج من كل المبلغ الذي هو مائة ألف، وعلى مذهب أبي حنيفة و مالك يخرج من الثلاثة والثلاثين ألفاً؛ لأنه يكفي لو كان عنده عشرة آلاف، والحج قيمته مثلاً خمسة آلاف، فعلى مذهب الحنابلة والشافعية يخرج خمسة من أصل التركة، وعلى مذهب أبي حنيفة و مالك يخرج ثلاثة آلاف وثلاثمائة فقط، فإن حج فالحمد لله، وإلا هذا لا يكفي، قالوا: إلا أن يرضى الورثة، والراجح هو مذهب الحنابلة والشافعية.

    نيابة من لم يحج الفريضة

    قال المؤلف رحمه الله: [ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه حج عن غيره].

    الآن الحنابلة رحمهم الله يقولون: من لم يحج حجة الإسلام فلا يجوز له أن ينيب غيره كما مر معنا، وهذا أمر لا إشكال فيه، فلا يصح أن ينيب غيره وهو لم يحج حجة الإسلام.

    وهنا مسألة ثانية: من لم يحج حجة الإسلام هل له أن يحج عن الغير حجة الإسلام؟

    الحنابلة والشافعية قالوا: لا يصح، واستدلوا بحديث شبرمة ، ( قال: من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب، قال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فاجعلها عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ) هذا دليلهم، وهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ، فرواه قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وذهب الإمام أحمد إلى أن الحديث موقوف، وذهب البيهقي و ابن المنذر و ابن حبان وكثير من أهل العلم إلى أن الحديث صحيح، فإن عزرة لم يتفرد بهذا الحديث، وقد رواه عن قتادة خلق كثير، والإمام أحمد رحمه الله يقول: رواه أيوب عن سعيد عن ابن عباس من قوله، فدل ذلك على أنه موقوف، والله أعلم.

    على كل حال المسألة محتملة حقيقة، والقول بالتفرد قوي، وهو قول الإمام أحمد ، والقول بأنه مرفوع ليس ببعيد، والله أعلم.

    وقال الحنفية والمالكية: من لم يحج حجة الإسلام فلا ينبغي له أن يحج عن الغير ولو فعل أجزأ الحج؛ لحديث ابن عباس ، ما وجه دليلكم؟ قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) قلنا: نعم، قالوا: ألم يكن الرجل قد ابتدأ إحرامه عن الغير؟ قلنا: نعم، قالوا: هل أبطلها صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لا، إنما أمره أن يقلب الإحرام عن نفسه، قالوا: ونحن نقول: ينبغي أن يقلب الإحرام عن نفسه، لكن من أين لكم أن إحرامه الأصل الأول باطل، بل إحرامه كان صحيحاً، ولولاه لما جاز القلب، وهذا الدليل قوي، كما قالوا: ليس عنده مال لأن يحج عنه نفسه، ونفسه تتوق إلى الحج، فكونه يحج عن الغير ليؤدي عبادة لا يقدر عليها بنفسه ليس بممنوع، وهذا القول أظهر والله أعلم، فكما أن الإنسان إذا كان عاجزاً عن فعل العبادة فعجزه عنها بمثابة العدم، فإذا أداها عن الغير جاز، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا فرق بينه وبين من كان قادراً على أن يحج فإن قدرته على الحج لا تجزئه؛ لأنه فرط في التأخير، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    1.   

    حج المرأة بغير محرم

    قال المؤلف رحمه الله: [وتزيد المرأة شرطاً سادساً وهو: أن تجد لها زوجاً أو محرماً مكلفاً وتقدر على أجرته، وعلى الزاد والراحلة لها وله، فإن حجت بلا محرم حرم وأجزأها].

    ذهب الحنابلة والحنفية إلى أن المرأة تزيد شرطاً في وجوب الحج وهو شرط المحرمية، فإن لم تجد محرماً ولو كانت من أثرى أثرياء العالم فلا يجب عليها الحج، فلو كانت غنية قادرة ببدنها ونفسها ومالها، لكن ليس عندها محرم قالوا: لم يجب عليها الحج أصلاً، هذا مذهب الحنابلة والحنفية.

    واستدلوا بما روى الدارقطني من حديث ابن عباس بسند جيد، وكذلك الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم ).

    وذهب الشافعي و مالك إلى أن المحرمية ليست من شروط الوجوب، وعليه فقالوا: إن وجوب الحج على المرأة ثابت، ولو لم يكن ثمة محرم، فلو حجت بلا محرم أجزأها بلا إثم، لما قلنا: إن حجة الإسلام واجبة عليها بلا محرم صار أداء الحج واجباً، ولما لم تجد محرماً صار الأصل أن ذهاب المرأة بلا محرم حرام وقد تعارض في حق المرأة محرم وواجب، والقاعدة إذا تعارض محرم وواجب يقدم الواجب، فقالوا: يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم لأداء حج الفرض شريطة أن تأمن نفسها مع نساء مأمونات، وهذا مذهب الشافعي و مالك و محمد بن سيرين ، و ابن المنذر أصوله شافعية، عندما جاء إلى هذا الحديث قال: تركوا العمل بظاهر الحديث، وأتى كل إمام بشرط لم يكن في الحديث، يقصد بذلك حديث: ( لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم ).

    وبعض طلاب العلم، وبعض المشايخ الذين أفتوا ونسبوا جواز أن تسافر المرأة للحج والعمرة بلا محرم إلى مذهب الشافعية والمالكية، وهل النسبة صحيحة أم خاطئة؟ على الإطلاق هي خاطئة؛ لأن الشافعية والمالكية يقولون: من حجت حجة الإسلام ومن اعتمرت عمرة الإسلام لا يجوز لها أن تسافر إلى الحج والعمرة إلا بمحرم؛ لأن المحرَّم أن تسافر بلا محرم، وأداء الحج والعمرة التطوع سنة، وإذا تعارض محرم وسنة فالمقدم المحرم.

    و ابن تيمية كما في الاختيارات يقول: ويتوجه جواز سفر المرأة بلا محرم مع نساء مأمونات إذا كان في سفر تطوع.

    إذاً ابن تيمية فقط هو الذي جوز سفر التطوع، وأما غير التطوع مثل أن تسافر المرأة للنزهة وغيره فلا يجوز، وهو قول الأئمة الأربعة و ابن تيمية . وأنا ذكرت هذا لأجل أن نبين أن كثيراً من الإخوة هداهم الله أحياناً ينسبون للأئمة أقوالاً ليست هي أقوالهم.

    الراجح والله أعلم، أن المرأة إذا لم تجد محرماً فإنه لا يجب عليها الحج، ونحن حينئذٍ خففنا عليها؛ لأننا نقول: ما وجب عليك الحج أصلاً.

    إذا ثبت هذا فإن المحرم إذا وجد فإن كلفة ذهابه على المرأة، وكلفة زاده وراحلته على المرأة ما لم يتطوع وليها، إذاً الزوج إذا حج بامرأته من ماله هل أكرمها أم لم يكرمها؟ أكرمها، والله أعلم.

    فإن قال قائل: هل قاعدة: الواجب يقدم على المحرم صحيحة؟ فالجواب: القاعدة تصح، لكن نحن نقول: قاعدتهم سليمة لو افترضنا أن المحرم ليس من شروط وجوب الحج؛ لكن الصحيح أن المحرم من شروط وجوب الحج؛ لحديث: ( لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم )، الآن عندي واجب وعندي محرم أيهما أعظم أداء المأمور أم اجتناب المحظور؟ الجواب: أداء المأمور أعظم؛ ولهذا لو أن شخصاً والعياذ بالله يزني ويشرب الخمر ولكنه يصلي ويحج ويصوم، وشخص لا يزني ولا يشرب الخمر، ولا يفعل الحرام ولا يصلي ولا يحج ولا يصوم أيهما أقرب عند الله؟ الجواب: الأول، قال ابن تيمية : باب المأمورات أعظم من اجتناب المحظورات، وإذا تعارض واجب ومحرم في درجته الذي هو مأمور بالترك ومأمور بالفعل على وجه اللزوم، فالمقدم الواجب، وإذا تعارض مكروه ومستحب فالمقدم المستحب، فمثلاً لو أنت في دورات المياه وأردت أن تتوضأ داخل الحمام، فذكرت الله في الحمام حكمه مكروه، والبسملة عند الوضوء حكمها سنة، فلا حرج أن تقول: بسم الله؛ لأنه تعارض مستحب مع مكروه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    إذاً: إن حجت المرأة بلا محرم حرم عليها كما هو مذهب الحنابلة والحنفية، ولكنه يصح منها؛ لأن المحرم ليس شرط إجزاء، وإنما هو شرط وجوب، والله أعلم.

    وإذا حجت المرأة بلا محرم وعندها نساء مأمونات فأهم شيء أمن الطريق والسفر، فإذا وجدت أحداً فهذا جيد، ولا ينبغي له أن يقول: أنا أذهب بك إلى مكة وأضعك عند بنات خالي، بنات خاله مع نسائه جائز، لكن ابن الخال ليس محرماً لأختك، فتذهب معهم لا حرج؛ مع أن هذا ليس بمحرم، لكنه يشترط عدم الخلوة، أما المحرم في الرجوع فهو لازم والأصل في المحرم أن تحصيله واجب، لكن بعض النساء ما تجد محرماً أصلاً، فمحرمها عمها وهو كبير، أو أخوها كبير وهي لا تستطيع، أو امرأة ليس لها إلا أعمام بعيدون في بلد آخر، فهل هذه لا تذهب ولا تسافر لأنه ليس لها محرم؟ فصار المحرم عقوبة وليس فرجاً، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعطيها قدرها.

    فهذا أبو سعيد الخدري كان يمنع نساءه ومولياته أن يسافرن إلا بمحرم، فقالت أم المؤمنين عائشة : رحم الله أبا عبد الرحمن ليس كل النساء تجد محرماً، هذا يدل على أن المرأة التي لا تجد محرماً يجوز لها أن تسافر مع نساء مأمونات، وبعض الأمهات تكون لها ثلاث بنات أو أربع بنات، هذه متزوجة في مدينة وهذه بمدينة، وعندها بنيات أخر، فهي تريد أن تسافر إلى ابنتها في بلد، ولكن مشكلتها أن محرمها زوج بنتها، فهل بناتها يذهبن معه؟ نقول: إذا لم يكن عندها محارم فغاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإمكان، مثل امرأة مضطرة إلى أن تعول أهلها وأن تنفق على بيتها، وعملها مدرسة تسافر سفر مائة كيلو، فهل لها أن تذهب مع السائق مع نساء مأمونات؟ نقول: الأصل التحريم، فإذا شق ذلك عليكِ ولم تجدي محرماً وعملك ينفعك لنفقة أهلك جاز، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767974344