اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
يعني: أن المحرم لا يصح منه أن يعقد النكاح ولو وجد فإنه لا يصح العقد، هذا روي عن عمر و علي وهو مذهب الجمهور.
والقول الثاني: أن النهي لا يقتضي الفساد، فهو محرم ولكن العقد صحيح، وأقول: إن أمكن تصحيح العقد فهو مطلب، وإن لم يمكن مثل أن يكون الرجل تزوج المرأة، أو المرأة تزوجت وهي محرمة ولم تعلم وأنجبت أولاداً، فإن أمكن تصحيح العقد فيما بينهم حسن، وإلا فالأصح والأقرب صحة العقد.
لم يذكر المؤلف الخطبة، هل يصح للمحرم أن يخطب، أو للمرأة المحرمة أن تخطب؟ الأقرب والله أعلم هو مذهب الحنابلة ومن وافقهم أنه لا يخطب الرجل المحرم ولا تخطب المرأة المحرمة لما جاء في صحيح مسلم من حديث عثمان : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) وإسناده جيد.
ثم يقول المؤلف: (السابع: الوطء)، الوطء في الفرج هو أشد أنواع المحظورات، ولا يفسد الحج ولا العمرة إلا بالوطء بإجماع العلماء، فأجمع أهل العلم على أن من وطئ قبل التحلل الأول أن حجه فاسد، إلا أن ابن حزم يقول: يتحلل ويذهب؛ لأنه لما فسد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
وأما الأئمة الأربعة فيقولون: إن فساده شيء، ووجوب إتمام ما دخل فيه شيء آخر؛ لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذا عام يصدق في حق الفاسد، ويصدق في حق الصحيح، وقول الأئمة الأربعة هو الصحيح، وهو قول ابن عباس و ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص .
وكذلك دواعيه، دواعي الوطء في الفرج مثل: (المباشرة دون الفرج، والاستمناء)، إن كان قد وطئ قبل التحلل الأول فإنه يلزمه الهدي وإتمام الحج والحج من قابل، والهدي عند الأئمة هي البدنة، وهي البقرة أو البعير، هذا قول جماهير الفقهاء، وقال بعضهم: إنما يجب الدم، والدم يصدق أقله شاة، وأكبره بعير، ولو ذبح بعيراً فهو أحوط، خروجاً من الخلاف، وكذلك هو قول الصحابة كـابن عمر و ابن عباس و عبد الله بن عمرو بن العاص هذه مسألة.
المسألة الثانية: لو قبل، أو وطئ بعد التحلل الأول، أو بعد الطواف بالعمرة فما الواجب في حقه؟
الواجب أن عمرته وحجه صحيح ويلزمه دم، وما هو الدم؟ الأقرب والله أعلم أنه يكفيه شاة، وهل يلزمه أن يعيد إحرامه؛ لأنه أفسده بالوطء؟ ذهب الحنابلة وروي عن ابن عباس أنه يصحح إحرامه، فلو أنه وطئ قبل التحلل الأول وجب عليه أن يذهب إلى التنعيم فيهل أو فيحرم، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب عليه ذلك. وهل يشرع؟ الأقرب والله أعلم أنه إن فعل فقد أحسن لقول ابن عباس وإلا فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ ولهذا مذهب الجمهور أصح وهو الراجح.
المسألة الثالثة: لو أنه قبل أو استمنى قبل التحلل الأول فما الواجب في حقه؟
الراجح والله أعلم أن القبلة والوطء دون الفرج والاستمناء أن من فعله فإنه يلزمه الفدية وحجه صحيح، وهو قول عامة أهل العلم لم يخالف إلا بعض فقهاء الحنابلة كـأبي يعلى وغيره، فإنه قال: إن خرج منه المني فقد فسد حجه، والصحيح أن حجه لا يفسد إلا بذات الوطء، والله أعلم.
على هذا فالقبلة والاستمناء فيهما الفدية وحجهما صحيح ولا فرق بين ما قبل التحلل الأول أو الثاني.
يعني: أن كل ما مضى يوجب الفدية، وقد ذكرنا دليل الفدية، وأصله حديث كعب بن عجرة وهو قول ابن عباس و ابن عمر ، وهو قول الأئمة الأربعة، أقول: ولم يخالف في ذلك أحد إلا ابن حزم حيث قيد ذلك بما جاء به النص كعادته رحمه الله، والعجب من بعض طلاب العلم الذين يأخذون أحياناً أقوال ابن حزم وفي حين أنه لو طلب منهم أن يتركوا القياس لصبوا جام غضبهم على ابن حزم حينما لم يأخذ بالقياس، لكن عند الممارسة تجد أن أقوالهم على مذهب ابن حزم ، فهم يقولون بالقياس في صور معينة إذا كان القياس جلياً، ومن المعلوم أن القياس الجلي لا يحتاج إلى اجتهاد، ولكن الشأن كل الشأن بالاجتهاد في القياس إذا كانت العلة مستنبطة، وأما العلة المنصوصة فهذه لا فخر كما يقولون.
قال المؤلف رحمه الله: [إلا قتل القمل].
المؤلف يرى أن قتل القمل محظور، لكنه لا يرى فيه الفدية لم؟ قالوا: لأن القمل الذي تساقط من رأس كعب بن عجرة كثير، ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبها، فدل ذلك على أن الفدية ليست فيه.
أقول: الراجح أن الفدية ليست فيه، وليس هو محظوراً، والله أعلم، وكذلك عقد النكاح فإن الراجح أن عقد النكاح ليس فيه فدية.
قال المؤلف: [وفي البيض والجراد قيمته مكانه].
يعني: الجراد يختلف قيمته، فلو ذهبت ورأيت جراداً في أمريكا، فهل له قيمة؟ ما له قيمة، لكن الجراد عندنا في السعودية خاصة إذا صار إداماً فإنه له قيمة فهذا يختلف؛ ولهذا قال المؤلف: في بلده، فالقيمة في مكة ليست كالقيمة في الرياض وغيره، وعلى هذا فينظر في كل بلد قيمته.
قال المؤلف رحمه الله: [وفي الشعرة أو الظفر إطعام مسكين].
الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالفدية، والحنابلة يرون أن الفدية لا تثبت في الشعر إلا إذا قطع ثلاث شعرات، فلو أنه قطع شعرة أو شعرتين قالوا: إن هذا لا يصدق عليه أنه فعل الأكثر، لكن الثلاث جمع وهو مذهب الشافعية، ولما فعل بعض المحظور الذي لم يكتمل محظوره قالوا: عليه أن يطعم مسكيناً، والراجح والله أعلم أنه يجب عليه التوبة والإنابة؛ لأنه لم يفعل المحظور التام، وإذا انقطعت شعرة أو شعرتان أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع أو مائة فليس عليه شيء هذا هو مذهب مالك رحمه الله، إلا إذا حصل بشعر رأسه ترفه وهو يحصل مثلما يحصل قبل الإحرام.
وعلى هذا فلو أنه اضطر إلى الحجامة وحلق أول شعره، فقد سقطت منه أكثر من مائة شعرة أليس كذلك؟ لكن مثل هذا الحلق لا يحصل به ترفه، هل رأيت واحداً يذهب إلى الحلاق يقول: احلق بقعة من رأسي ويتجمل بها للناس؟ الجواب: لا، فهذا إنما قصد للحاجة، والحاجة تقدر بقدرها.
وعلى هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة كما في الصحيحين ( أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وسط رأسه وهو محرم )، ومن المعلوم أن إحرامه وحجامته قد أخذت شيئاً من شعره، فبعض طلبة العلم المعاصرين استدلوا على عدم الفدية بهذا الدليل ولا دليل؛ لأن عندك يا طالب العلم! قاعدة وهي أنه إذا ثبت الدليل في شيء فلا ينبغي لك أن تطلب عدم الدليل بل ينبغي لك أن تطلب الجمع للدليل.
أما التحمس للرد فليس بوجيه خاصة أنك أمام أئمة كبار، كمذهب الصحابة ومذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد وهذه مدارس أئمة الإسلام، ثم نقول بأسهل طريق: إنه ليس عليه دليل، وكأن كلمة (ليس عليه دليل) أن الأئمة أتوا بالحكم من عندهم، حاشاهم رضي الله عنهم أجمعين.
إذاً: الراجح أن الشعرة والشعرتين والثلاث والعشر وغير ذلك لا يجب فيها الفدية، وإنما الفدية لما يحصل فيه مما يحصل من الترفه قبل الإحرام.
قال المؤلف: [وفي الاثنين إطعام اثنين].
يعني: وفي الثلاثة الفدية والراجح خلاف ذلك وهو مذهب مالك ، قال المؤلف: [والضرورات تبيح للمحرم المحظورات] مثاله: لو أن إنساناً أصابته شعرات على عينه، فهو لا يستطيع إزالة ذلك إلا بإزالة الشعرات، فإنه لا يلزمه شيء، وهناك قاعدة عند الفقهاء يقولون: إذا أزيل المحظور، وكان الضرر بسببه فليس فيه فدية، وإذا أزيل المحظور وليس هو بسببه، ولكن لأجل استشفاء أو نحوه ففيه الفدية.
إذاً: إذا أزيل المحظور وكان سبب إزالته هو ذات المحظور فليس فيه شيء؛ لأنه في حكم الصائل، مثل ظفر انكسر، والآن يؤلمك، هذا الألم بسبب ماذا؟ بسبب الظفر نفسه، فإذا أزلته فليس عليك محظور، أما لو أن ثمة وسخ تحت الأظفار فما استطعت إزالته إلا أن تضطر إلى تقليم الأظفار، فتقليم الأظفار سبب الإشكال، ففيه الفدية، والله أعلم.
المقصود بالفدية عند الفقهاء هي أعم من فعل المحظور، فتصدق على فعل المحظور وترك الواجب، فهو يفتدي لأجل فعل المحظور، أو يفتدي لأجل ترك الواجب إلا أنه تداول الأئمة على أن الفدية على فعل المحظور، والدم على ترك الواجب، والله أعلم.
قول المؤلف: [باب الفدية وهي ما يجب بسبب الإحرام أو الحرم].
إذاً: الفدية وجبت لحرمة ذات الإحرام أو لحرمة الحرم.
قال المؤلف رحمه الله: [وهي قسمان: قسم على التخيير وقسم على الترتيب. فقسم التخيير كفدية اللبس والطيب وتغطية الرأس وإزالة أكثر من شعرتين أو ظفرين، والإمناء بنظرة، والمباشرة بغير إنزال مني يخير بين ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره].
إذاً محظورات الإحرام التي سبقت معنا: لبس المخيط، وتغطية الرأس، والطيب، وإزالة الشعر، وتقليم الأظفار، والوطء، إذاً هذه كلها فيها التخيير، قالوا: أما الوطء فليس فيه تخيير، وأما دواعيه من المباشرة وغيرها ففيها التخيير، قالوا: دليلهم هو حديث كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما أرد أن يحلق كعب بن عجرة رأسه قال: ( انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع )، يؤتى بها للتقسيم والتخيير، والله أعلم.
أما الوطء ففيه الدم عند عامة الفقهاء، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والحنابلة يرون أن مد البر يساوي مدين من غيره، وعلى هذا فالصاع أربعة أمداد، فإذا كان نصف صاع فهو مدين، فيكون من البر؛ وذلك لقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عندما جاء إلى المدينة فقال: ( إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من غيره، أما
قال المؤلف: [ومن التخيير جزاء الصيد يخير فيه بين المثل من النعم أو تقويم المثل بمحل التلف ويشتري بقيمته طعاماً يجزئ في الفطرة فيطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً].
آية جزاء الصيد هي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] إذاً الواجب إذا قتل الصيد أن ينظر إلى مثله، فإذا قتل غزالاً فيماثله شاة، لكن الشاة أنواع فمن الذي يحكم؟ يأتي اثنان من أهل العلم، ولو كان واحد علمه كعلم ابن باز نقول: يا ابن باز تعال، ولا بد من واحد مثلك مثل ابن عثيمين ، فـعمر رضي الله عنه حينما أراد قال لـأبي بن كعب : تعال نقيم، فلا بد من اثنين.
إذاً أنت مخير بين أن تفتدي الصيد بالمثل، فإذا لم يوجد غنم مثلاً عند المكفِّر، قلنا: كفارة طعام مساكين، فنقول: إذا كان الصيد زرافة كم قيمتها؟ قيل: قيمتها ثلاثة آلاف ريال، نقول: اشتر بثلاثة آلاف ريال طعاماً، ثم خذ هذا الطعام الذي اشتريته وأعط كل نصف مسكيناً، فإذا قال يا أخي! لقد بحثت فلم أجد، نقول: إذاً تصوم عن كل نصف صاع يوماً، فيكون المجموع مائة يوم أحياناً، فلو بقي شيء لا يسع نصف صاع ولكن يسع ربع صاع مثلاً، قال العلماء: يجبر على أنه نصف صاع، فيصوم يوماً كاملاً.
هذا هو التخيير والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وأما الحنابلة فإنهم جعلوا الطعام إن كان براً يكون عن كل يوم مداً، وإن كان غيره فعن كل مدين، يعني: نصف صاع في اليوم، والراجح أنه لا فرق، والله أعلم.
يعني: أنه لا يصح أن يذهب إلى الثاني مع وجود الأول، قال: [كدم المتعة والقران، وترك الواجب والإحصار والوطء ونحوه، فيجب على متمتع وقارن وتارك واجب دم فإن عدمه أو ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج]. يعني: وسبعة إذا رجع، الآن الدم الواجب هو دم الترتيب، ومنه دم المتعة، قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ [البقرة:196] إذاً: الصيام بدل عن الهدي، وما كان حكمه حكم البدل فلا يصار إلى البدل مع وجود المبدل، والله أعلم.
وخالف في ذلك ابن حزم وبعض الفقهاء، فقال: إن القارن لا يجب عليه شيء، والراجح أنه يجب، وقد روى جابر كما في الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عن
إنسان ما رمى الجمار، إنسان ما أحرم من الميقات، إنسان ما وقف بعرفة إلى الغروب، إنسان لم يبت بمنى، إنسان لم يطف طواف الوداع، كل هؤلاء تركوا واجباً فهل يجبرونه بشيء؟
أقول: ذهب ابن عباس وهو ظاهر صنيع عمر ، وروي عن ابن عمر ، وروي عن علي وهو قول الأئمة الأربعة، وحكى أبو محمد بن قدامة و ابن رشد و الشنقيطي الإجماع على أن من ترك واجباً جبره بدم، أما ابن عباس فقد صح عنه أنه قال كما روى ذلك عطاء عنه: من ترك شيئاً من نسك أو نسيه فليهرق دماً، فـابن عباس قال هذه العبارة، وسارت بها ركبان أهل العلم، فظن بعض طلبة العلم أن هذا اجتهاد من ابن عباس وليس كذلك، بل إن ابن عباس اختصر القاعدة التي فهمها الأئمة قبله وبعده، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال: من أحرم بالحج ولم يدرك عرفة فالواجب في حقه أن يتحلل بعمرة؛ لأنه لا بد أن يتمها. خلافاً لما روي عن بعض أهل الظاهر أنهم قالوا: انتهى وفسد حجه، فالصحيح أنه يتحلل بعمرة، ثم قال عمر : وعليه الهدي، لماذا أمره عمر بالهدي وهو إجماع من أهل العلم؟ أمره لأنه ترك واجباً وهو الوقوف بعرفة؛ لأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهو لم يتم الحج فلما عجز عن إتمامه بنهاية الوقوف بعرفة فإنه ترك واجباً وهو الوقوف بعرفة.
إذاً: أقول: عمر أمره بالهدي؛ لأنه ترك إتمام الحج، ومن ترك إتمام الحج فقد ترك واجباً، قد يقول قائل: هذا لم يظهر لي دليله، نقول: هو لم يظهر لك، لكنه ظهر للأئمة الأربعة، وما فرق بيننا وبين الأئمة الأربعة لو كانت المسألة كلها دليلها نصي، يا إخوان! الدليل النصي لا يوجد، وقد فضل الله أهل العلم وجعل لهم هذه المكانة حتى الحيتان تصلي عليهم، وتدعوا لهم، وفضل العالم على العابد؛ لأن العابد يصلي فقط؛ لكن العالم يعلم لماذا ورد النص، وبعض الطلاب قد يتقحم وهو لا يدري، ربما يقول: ما الدليل؟ سعيد بن المسيب أفقه التابعين كما يقول الإمام أحمد : كان عبد الملك بن مروان يحيي ما بين الظهر والعصر ومعه جماعة، فقال بكر بن خنيس : يا لها من عبادة، يا أبا محمد ألا تفعل مثل هؤلاء قال: ليست هذه بعبادة، قال: وما العبادة؟ قال: العبادة التفكر بأمر الله، والورع عن محارم الله وأداء أوامر الله، الله أكبر! هذا هو الفقه، وليس نظراً بسيطاً في هذا وذاك.
إذاً: ابن عباس و عمر قالوا بذلك، وقد روي عن الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح عن ابن عمر أنه سئل إن ترك واجباً، فقال: يجبره بدم. ومما يدل على أن من ترك واجباً جبره بدم ما أشار إليه ابن المنذر في مسألة الإحصار، فإذا أحصر وجب عليه الدم، قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، أما ابن حزم فإنه يقول: هذه الآية دليل لا علاقة لها بذلك؛ لأنه لا يرى القياس.
أما ابن حزم فقد خالف وقال: من ترك واجباً فسد حجه، هذا مذهب ابن حزم ، الآن بعض طلبة العلم إذا قلت له: ما دليلك؟ قال: مذهب ابن حزم ، نقول: لا، ابن حزم لا يقول هذا، ابن حزم يقول: من ترك واجباً فسد حجه، وأنتم تقولون: من ترك واجباً ما عليه شيء، إذاً هذا قول محدث وأول من قال به الشوكاني رحمه الله، ثم تبعه بعض طلبة العلم.
إذاً القول بأن من ترك واجباً ليس عليه شيء قول محدث، وبالتالي هذا القول بدلاً من أن تقول: ما الدليل؟ قل: هل سبقك الله أحد؟ فدين الله محفوظ، فلا يمكن لمثل عبادة من العبادات العظيمة أن يأتي أحد ويقول فيها: من غير دليل، بعض الإخوة أتى بأقوال، قال: وهو قول عطاء ، قلنا: ما دليلك؟ قال: لأن عطاء يرى أن من خرج من عرفة قبل غروب الشمس أنه لا شيء عليه، قلنا: إن عطاء و طاوس لم يروا وجوب الدم؛ لأنهم لا يرون وجوب الوقوف إلى الغروب، فالخلاف ليس في المناط ولكن في تحقيق المناط.
ومن ذلك ما ثبت عن سعيد بن منصور و الطبراني أن أعرابياً أتى عمر بن الخطاب وهو بجمع، فقال: يا أمير المؤمنين! الآن قدمت، قال: ولم تكن قد وقفت بعرفة؟ قال: ولم أكن قد وقفت بعرفة، قال: اذهب فقف الآن، فذهب فوقف فلما صلى عمر الفجر قال: أقد جاء الأعرابي؟ قالوا: لا، فسبح ساعة، ثم قال: أقد جاء الأعرابي؟ قالوا: نعم، قال: فلننفر إذاً.
بعض الإخوة استدل بهذا أن عمر لم يأمره بشيء مع أنه ترك الوقوف بجمع، الجواب على هذا كما قال ابن تيمية : وإنما رأى عمر أن الوقوف بجمع لا ينتهي إلا عند الإسفار، وليس عند الفجر كما يقول الجمهور، فالجمهور يقول: الوقوف بعرفة ينتهي إلى الفجر، والوقوف بمزدلفة ينتهي إلى الفجر، والصحيح أن الوقوف بعرفة ينتهي إلى الفجر، والوقوف بمزدلفة ينتهي إلى الإسفار وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
قال المؤلف: [فإن عدمه أو ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج والأفضل كون آخرها يوم عرفة].
أقول: صح عن ابن عمر أنه قال في حق المحصر إذا لم يجد الهدي: يصوم عشرة أيام، فدل ذلك على أن كل من ترك واجباً من دم فعليه أن يصوم بدل الدم.
قال المؤلف: [ويصح أيام التشريق].
يعني: الأصل في أيام التشريق أنه لا أحد يصومها؛ لأنها عيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث نبيشة الهذلي : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ) ورخص فيمن لم يجد الهدي لما جاء عند البخاري من حديث ابن عمر و عائشة أنهما قالا: ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ).
قال المؤلف: [ثم حل] أفادنا بذلك أن التحلل لا يحصل في حق المحصر إلا بعد أن يذبح، فإن لم يجد فبعد أن يصوم ثلاثة أو عشرة أيام، والذي يظهر والله أعلم أنه ينبغي له ألا يتحلل إلا بعد أن ينحر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا لم يجد الهدي فإنه لو تحلل وصام إن شاء الله أن ذلك يجزئه، وإن كان الأولى ألا يتحلل إلا بعد نهاية الصيام؛ لأنه أحياناً يحصر على القول الراجح بسبب المرض، فإذا أمرناه ألا يتحلل إلا بعد عشرة أيام لشق ذلك عليه، ولربما انتهت أيام الحج فيقول: أحج خيراً من أن أتحلل؛ فلهذا فإنه ينبغي أن يفرق بين ذا وذاك.
إذاً: الحنابلة يرون أن إنزال المني قبل التحلل الأول يجب فيه بدنة، وكذلك الوطء ولو لم يحصل إنزال، والراجح أن ذلك مقصور على الوطء فحسب، وأما الإنزال فإن قياسه قالوا: إن الوطء والاستمناء كلاهما فيه ملذة، والصحيح أن الاستمناء شيء والوطء شيء آخر بدليل من به شبق لا يذهب شبقه إلا بالوطء، فدل ذلك على أن الاستمناء وإن كان محرماً لكنه ليس بمثابة الوطء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وعلى هذا ففيه الفدية وهي فدية التخيير، والله أعلم.
قال المؤلف: [فإن لم يجدها صام عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع].
مسألة ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع هذا هو الأولى، وإن صام عشرة أيام مباشرة أجزأ ذلك؛ لأن ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إنما نظر فيها لأجل أن ذلك مقتصر على دم القران الذي يكون في إكمال الواجبات، وأما مثل هذا فإنه إنما هو من باب الجبر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذا مذهب الحنابلة؛ لأنهم يرون أن العمرة والسعي ركنان، والراجح هو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو يعلى و ابن قدامة و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله: أن السعي في العمرة واجب وليس بركن.
أقول: كل حديث فيه وجوب أو فرضية السعي فهو ضعيف: ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) فهذا حديث حبيبة بنت أبي تجراة حديث ضعيف في سنده عبد الله بن المؤمل ضعفه البخاري وغيره، وأصح شيء في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ( فطف في البيت واسع بين الصفا والمروة ثم قصر وأقم حلالاً ) وهذا يدل على الأمر بالسعي بين الصفا والمروة، وغاية المأمور أنه واجب، لكن الواجب شيء والركن شيء زائد، وهو وجود الدليل على أن تركه يفسد العبادة، والله أعلم.
إذاً: الصحيح أن السعي واجب وبالتالي فإن التحلل الأول يكون بعد الطواف بالبيت، فلو أنه طاف بالبيت ثم رجع إلى بلده، نقول: أساء، فإن استطاع أن يرجع وجب عليه أن يرجع، وإلا جبره بدمين هما دم السعي ودم الحلق والتقصير.
التحلل الأول في الحج بماذا يحصل؟ ذهب الحنابلة والشافعية في أحد قوليهم إلى أن التحلل يحصل بالرمي والحلق، أو بالطواف والرمي، ومن رمى فقط فإنه لا يتحلل، واستدل الحنابلة على ذلك بأحاديث كلها لا تثبت، منها ما رواه الحسن العرني عن ابن عباس أنه قال: ( إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، وفيه الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس ، ورواه أيضاً من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عباس ، و حبيب بن أبي ثابت مدلس، ورواه الحجاج بن أرطأة من حديث عائشة أم المؤمنين: ( إذا رميتم وحلقتم ) وهو حديث ضعيف، وعلى هذا فلا يثبت حديث عنه صلى الله عليه وسلم بأن: من رمى وطاف أو من طاف ورمى يتحلل، وإن ورد فهو حديث ضعيف.
وذهب مالك بن أنس إلى أن التحلل إنما يحصل بالرمي خاصة، ورجحه أبو محمد بن قدامة في المغني، واستدل على ذلك بأدلة منها ما رواه أهل السنن من حديث عائشة : ( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ) وهو حديث ضعيف، فإن في سنده الحجاج بن أرطأة فإنه مرة يضيف (إذا رميتم وحلقتم)، ومرة يحذف، فهو حديث ضعيف، وقواه بعض المتأخرين بما رواه الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بدريرته لحرمه فيما أحرم ولحله بعدما رمى جمرة العقبة ) الحديث رواه البخاري و مسلم بلفظ: ( لحرمه فيما أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، وهذه الرواية: (بعدما رمى جمرة العقبة)، وقد صحح الحديث بعض المتأخرين، والصحيح أن الحديث ضعيف، وسببه هو أن فيه حفيد عروة بن الزبير قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول، وقال في الفتح: ثقة، والصحيح أنه تفرد به عن غيره من الرواة، و البخاري و مسلم أصح وقد روياه بلفظ: ( لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، هذا هو الصحيح، والله أعلم.
إذاً: الصحيح هو فعله صلى الله عليه وسلم، وليس قوله، الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رمى ثم دعا بالهدي فنحر، ثم ذهب إلى الحجام فحلق، ثم تحلل، فهل فعله يدل على الوجوب؟
الجواب: بلى؛ لقوله: ( خذوا عني مناسككم )، الجواب: أننا نقول: إن الحلق هل هو نسك أم محظور، أم محظور ونسك؟ ثلاثة أقوال: أصحها أنه محظور في زمن، ونسك في زمن، وعلى هذا فالحلق محظور، فإذا جاء يوم العيد صار نسكاً، وبالتالي فيجوز للإنسان أن يحلق قبل أن يرمي جمرة العقبة؛ لأن يوم العيد يوم نسك، والشارع أمر الإنسان إذا أراد أن يتحلل فليتحلل بالحلق؛ ولهذا فمذهب أبي حنيفة يرى أن التحلل يحصل بالحلق، وليس بالرمي ولا بالطواف، والصحيح -كما قلت- أن من رمى فقد شرع في التحلل، ولا ينبغي له أن يتحلل إلا بالحلق، فإن تحلل ولبس الثياب فقد أساء ولكن ليس عليه شيء، والدليل إجماع العلماء على أن المرء إذا وطئ امرأته صبيحة يوم العيد ولو لم يرم جمرة العقبة أنه يكون قد جامع بعد التحلل الأول، يقول ابن تيمية : ولم يخالف إلا أبو يعلى .
إذاً: مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية أنه لو جامع صبيحة يوم العيد ولو لم يرم جمرة العقبة فإنه يكون قد تحلل التحلل الأول؛ لأنه شرع في التحلل الأول، لكن لا ينبغي إلا أن يكون بالرمي ثم الحلق ثم يشرع له التحلل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )؛ لأنه إذا نحر شرع في التحلل، والتحلل هو الحلق، ولكن لو طاف فقد تحلل بدليل قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، فهو أقوى من الرمي وأقوى من الحلق، لكن لا ينبغي له أن يشرع في التحلل إلا بعد أن يرمي جمرة العقبة؛ لأن النبي لم يشرع في التحلل وقد حلق الرأس إلا بعد أن رمى جمرة العقبة، وقال لمن حلق قبل الرمي وقد فعل محظوراً قال: (افعل ولا حرج)، فدل ذلك على أن الحلق في وقت العيد نسك، إذا عرفت هذا فاعلم أنه لما كان الحلق نسكاً فلا حرج أن يحلق الإنسان بنفسه أو يأمر أحداً أن يحلق رأسه؛ لأن الإنسان يفعل خلاف ما ذكره بعض المشايخ الفضلاء؛ لأن الحلق في وقته نسك، والله أعلم.
قال المؤلف: [ويحل له كل شيء إلا النساء] وهذا ثابت، وهو قول عمر : أنه يجوز له كل شيء، يتطيب ويقلم أظفاره ويعقد إلا النساء، وقولنا: إلا النساء الصحيح أنه يحرم عليه الوطء، ويحرم عليه المباشرة والدواعي، وعلى هذا فإن من دواعي النكاح ومن محظورات الإحرام التغزل بالزوجة، فإن ابن عباس رضي الله عنه كما روى ابن جرير الطبري أنه تكلم بكلام لا أحب أن أذكر هذا البيت في هذا المقام الشريف، فقال: مه يا ابن عباس قال: إنما قصد إذا خوطب بذلك النساء: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، قال: إنما كان ذلك إذا خوطب النساء، الشاهد من هذا أن حديث الرجل مع امرأته رفث، والرفث لا يجوز له إلا بعد أن يتحلل التحلل الأول والثاني؛ وعلى هذا فيوم العيد الذين يتصلون على نسائهم ويتحدثون حديثاً لا يصلح إلا مع المرأة يكون حكمه محظوراً، فإياك في الوقوع في المحظور، فإن ذلك عين الخطأ، وبيان هذا مهم جداً.
قال المؤلف: [والثاني: يحصل بما بقي مع السعي إن لم يكن سعى قبل].
يعني: التحلل الثاني يحصل بما بقي مع السعي، أي: أنه إذا رمى وحلق ثم طاف وسعى تحلل التحلل الثاني، والراجح أن السعي لا علاقة له بالتحلل كما قلنا، وأن السعي ليس بركن إلا في المذهب الحنبلي، وقد قلت: اختلف العلماء، فذهب الحنابلة إلى أنه ركن، والقول الثاني: رواية عن الإمام أحمد أختارها أنا، وعلى هذا فالسعي ليس ركناً إلا في المذهب الحنبلي، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أركان الحج اختلف العلماء في عددها، وسوف نذكر المذهب، ونبين القول الراجح بدليله.
يقول المؤلف: أركان الحج أربعة:
ذهب مالك و أحمد و الشافعي إلى أن الإحرام ينعقد بالنية، ولو لم يتلفظ. وذهب أبو حنيفة إلى أن الإحرام لا بد فيه من فعل، فلا بد فيه من التلبية، وذهب ابن تيمية إلى أن الإحرام لا بد فيه من نية مع فعل، إما التلبية وإما تقليد الهدي، والراجح هو مذهب الأئمة الثلاثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، فلا فرق في ذلك بين الحج وغيره، هذا هو مذهب الجمهور، فمن ترك النية لم ينعقد حجه قولاً واحداً.
إذاً الإحرام ركن وهو قول الجميع والله أعلم، الثاني: الوقوف بعرفة وهو قول الجميع، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهو مذهب عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع وهو الصحيح؛ لحديث عبد الرحمن بن يعمر : ( الحج عرفة فمن وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ).
ثم قال المؤلف: [ووقته] يعني: وقت الوقوف يبدأ قال الحنابلة: [من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر]، ذهب الحنابلة وهو من مفاريد مذهب الحنابلة إلى أن بداية الوقوف بعرفة من بعد طلوع الفجر، ودليل الحنابلة حديث عروة بن مضرس : ( من شهد صلاتنا هذه وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ) قالوا: إن النهار يبدأ من طلوع الفجر، فدل ذلك على أن بداية الوقوف بعرفة من طلوع الفجر، هذا دليل الحنابلة، استدلوا بالقول.
والأئمة الثلاثة: أبو حنيفة و مالك و أحمد واختيار ابن تيمية واختيار أبي عمر بن عبد البر ، بل حكاه إجماعاً على أن الوقوف بعرفة الذي هو الوقوف التعبدي يبدأ من بعد زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ الوقوف بعد زوال الشمس؛ لأنه كان بنمرة فلما أراد أن يخطب دخل عرفة، ما دليلكم؟ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هنا وقال: ( وقفت ههنا وعرفات كلها موقف )، وقالوا: القول هذا مطلق، ويقيده فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: إن قول الحنابلة قوي، وإن كان لو وقف نهاراً أجزأ لكنه ترك واجباً.
عندنا مسألة ثانية: وهي مسألة الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، فالحنابلة والحنفية يقولون: من وافى عرفة قبل غروب الشمس وجب أن يبقى إلى الغروب، ومن وافاها بعد الغروب جاز أن يجلس ولو ساعة ثم يخرج فما حكم الوقوف بعرفة إلى الغروب؟ ذهب أبو حنيفة و أحمد إلى أنه واجب، وذهب الشافعي إلى أنه مستحب، ولا ينبغي له أن يترك، ودليل الشافعي؟ قال: حديث عروة بن مضرس : ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فمن وقف نهاراً فقد تم حجه )، والحنابلة ما دليلهم؟ قالوا: لأن النبي وقف إلى غياب القرص، الحنابلة في المسألة الأولى أخذوا بالقول ولم يأخذوا بالفعل، وفي الصورة الثانية أخذوا بالفعل ولم يأخذوا بالقول، والشافعية العكس، ومالك أعظم فقال: إن من وقف بعرفة نهاراً ولم يقف ليلاً فلم يقف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة إنما يصدق بالليل، فإن وقف بليل ولو ساعة جاز، هذا مذهب الأئمة والذي يظهر والله أعلم أنه إن وقف بعرفة نهاراً أجزأ، وإن خرج من عرفة قبل غروب الشمس أجزأ، ولكنه أساء إساءة شديدة، والله أعلم.
وأقول: لا ينبغي للإنسان إن وقف بعرفة نهاراً أن يخرج منها كما هو مذهب عامة أهل العلم، ولا ينبغي التخفيف في هذه المسألة، وإن كنا نقول: لا يجب عليه الدم، لكن لا ينبغي أن تغير أحكام الشريعة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما حج وقال: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ) فدل ذلك على أنه لا ينبغي أن تغير السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها مخالفة للمشركين، فإن المشركين كانوا يخرجون من عرفة قبل غروب الشمس حتى إذا كانت الشمس على رءوس الجبال مثل العمائم خرجوا، فمن خرج قبل غروب الشمس فقد شابه أهل الشرك، فلا ينبغي للإنسان أن يصنع ذلك، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فأحب مخالفتهم، فتأخر في عرفة وقدم مزدلفة، كل ذلك لأجل أن يقتدى به، فإذا سمحنا للناس أن يخرجوا من عرفة، فإن هذا يدل على أن شريعة الحج وطريقة محمد في الخروج تقتضي غيابها عند الناس، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قال المؤلف: [فمن حصل في هذا الوقت]. وهو من طلوع فجر يوم التاسع إلى طلوع فجر يوم العاشر [وهو أهل] ما معنى (أهل) يعني: أنه إما أهلية أداء وإما أهلية وجوب، يعني: إما بالغاً وإما عاقلاً ليصلح أن يكون حجه صحيحاً، وإن كان لا يجزئ إذا كان غير بالغ، [ولو ماراً أو نائماً أو حائضاً أو جاهلاً أنها عرفة صح]. فلو كان ما يدري معه سيارة يبحث عن وادي عرنة حتى يعرف عرفة فما علم، حتى طلع الفجر فوجد أنه في مزدلفة، نقول: هل مررت على هذا الوادي؟ قال: نعم، نقول: إذاً إذا كنت قد مررت من جانبه فقد وقفت بعرفة، فلا يلزم العلم بذلك، والله أعلم.
قال المؤلف: [لا إن كان سكراناً أو مجنوناً أو مغمى عليه]؛ لأنه ليس له نية، وهذا إنما نوى الوقوف وإن لم يعلم المكان، أما المجنون والمغمى عليه فإنهم لم يعلمان ذلك، وعلى هذا فلو أغمي عليه قبل الفجر، ولم يصح إلا بعد الفجر، فإنه لم يقف بعرفة، فحينئذٍ يتحلل بعمرة.
قال المؤلف: [ولو وقف الناس كلهم إلا قليلاً في اليوم الثامن أو العاشر خطأً أجزأهم ذلك].
لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي : ( الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون )، وقال ابن عمر : إن الصوم مع الجماعة أو كما قالت عائشة رضي الله عنها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر