كنا قد تحدثنا عن شروط العقد والفرق بينها وبين الشروط في العقد، وقلنا: إنها ثلاثة فروق، أما الشروط في العقد فإنها مبنية على أقوال الأئمة وتوسعهم في الشروط هل هي معتبرة -أي: الشروط الجعلية- أم ليست بمعتبرة؟ والعلماء رحمهم الله يفرقون بين الشروط الجعلية في المعاملات وبين الشروط الجعلية في عقد النكاح، أنا لا أريد أن أدخل في الشروط الجعلية في المعاملات؛ لأن فيها تفاصيل، والمذاهب مختلفة فيما بينها، وإن كان المذهب الحنبلي هو أوسع المذاهب في الشروط الجعلية، يعقبه بعد ذلك المالكية، وبعد ذلك الحنفية، ثم الشافعية، فالشافعية هم أشد المذاهب في الشروط، ويتلوهم الحنفية، لكني أريد أن أتحدث عن الشروط الجعلية في عقد النكاح.
فأقول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية إلى أن الشروط الجعلية في عقد النكاح إذا لم تكن من مقتضى العقد ولا من مصلحته، مثل: أن يشترط الرجل بعض الشروط التي فيه منفعة له، مثل أن يشترط ألا تسافر المرأة معه، أو أن تشترط المرأة عدم السفر معه، أو ألا يخرجها من بيت أبيها، هذه الشروط فيها مصلحة للمرأة، أو تقول المرأة: لا أريد أن أخرج من المدينة المنورة، فيتزوج الرجل المرأة بهذا الشرط، فهذا الشرط فيه منفعة أو مصلحة لأحد الزوجين، فهذه يسمونها شروطاً جعلية ليست من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ومعنى مقتضى العقد يعني: من حيث أن وجوده كعدمه سواء، مثال ذلك: أن يقول الرجل: أتزوجك بشرط أن أستمتع بك، هذا الأصل في عقد النكاح أليس كذلك؟ أو تقول المرأة: تزوجني بشرط أن تنفق عليّ هذا شرط بمقتضى العقد أليس كذلك؟ أو يتزوجها بشرط المهر يكون مؤجلاً أو مؤخراً، فهذا يسميه العلماء من مصلحة العقد، أو يتزوج الرجل المرأة على ألا يدخل بها إلا بعد سنة، فهذا شرط من مصلحة العقد ولا إشكال فيه، وإنما الإشكال في الشروط الجعلية التي ليست من مقتضى العقد ولا من مصلحته، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية إلى أن الشروط الجعلية باطلة. إذا لم تكن من مقتضى العقد ولا من مصلحته، والشرط الجعلي هو: ما يكون فيه مصلحة لأحد الزوجين وليست من مقتضى العقد ولا من مصلحته، فلو اشترطت المرأة على أن تكمل دراستها عند الجمهور فإن هذا الشرط باطل، ولو اشترطت المرأة ألا يخرج بها زوجها إلى الخارج فهو شرط باطل، ولو اشترط الزوج ألا يسافر بها فهو شرط باطل، هذا عند الجمهور، واستدلوا بأدلة:
الدليل الأول: قالوا: إن الأصل في عقد النكاح أنه منجز واشتراط أحد الزوجين ما ليس من مقتضاه ولا من مصلحته مخالف لأصل العقد؛ لأنه لا يمكن أن يكون زواجاً يستمتع به وللمرأة فيه شرط، فلو أخل بالشرط لما جاز له أن يستمتع مع أن أصل العقد من لوازمه الاستمتاع.
الدليل الثاني: قالوا: لما جاء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه البيهقي و ابن أبي شيبة أن عبد الله بن مسعود اشترى من زوجته أمة، قالت: بشرط أنك متى ما أردت بيعها فأنا أحق بها بالشرط، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر -وهذا هو الشاهد-: لا تستمتع بها وفيها شرط. وهذا حديث صحيح صححه أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
قالوا وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه أنكر الاستمتاع بهذه الأمة؛ لأن فيها شرطاً يخالف مقتضى العقد وهو الاستمتاع، فدل ذلك على أنه لا يصح الشرط مع أصل النكاح الذي يستلزم الاستمتاع.
قالوا: ولأن هذه الشروط باطلة؛ لمخالفتها النكاح.
الدليل الثالث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)، وهذا الحديث يرويه أبو حنيفة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو حديث منكر، لكن استدلوا به، وقالوا: فعقد النكاح عقد، هذا مذهب الجمهور، إلا أنهم اختلفوا في صحة العقد مع وجود الشرط، فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة و مالك و الشافعي إلى أن هذه الشروط باطلة والعقد صحيح، فقالوا: كل الشروط الجعلية باطلة والعقد صحيح؛ لأنها لم تخالف مقتضى العقد ولا مصلحته، وأما الظاهرية فإنهم يقولون: إن مثل هذه الشروط باطلة والعقد باطل، والراجح هو مذهب الجمهور، وهو عدم بطلان العقد.
القول الثاني في المسألة هو مذهب الحنابلة، وهم أوسع المذاهب -كما قلت- في الشروط، قالوا: إن الشروط الجعلية التي ليست من مقتضى العقد ولا من مصلحته تنقسم في عقد النكاح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شروط صحيحة يصح معها العقد.
والقسم الثاني: شروط باطلة يصح معها العقد.
القسم الثالث: شروط باطلة يبطل معها العقد إذا كانت مخالفة لمقتضى العقد. قالوا: فإذا كانت هذه الشروط صحيحة فقد صح معها العقد.
قالوا: ولنا أدلة ذلك: الدليل الأول: أن رجلاً تزوج امرأة واشترطت على ألا يسافر بها، فتزوجها ثم إنه أراد أن يسافر بها فأبت، فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إني تزوجت امرأتي واشترطت علي ألا أسافر بها، وإني أردت أن أسافر بها بعد ذلك، قال عمر : هي على شرطها، قال الرجل: ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هي على شرطها، قال: الله أكبر غلبننا النساء -يريد إثارة عمر رضي الله عنه- فقال عمر رضي الله عنه: مقاطع الحقوق عند الشروط. والحديث رواه البيهقي عن سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة ، ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووجه الدلالة منه أن عمر رضي الله عنه أثبت صحة العقد وأثبت شرط المرأة، فدل ذلك على صحة العقد وشرطه.
الدليل الثاني: ما رواه البخاري و مسلم من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج )، وجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الإيفاء بالشرط، وبين أن الإيفاء بالشرط في عقد النكاح أولى من غيره، فدل ذلك على صحة الشروط الجعلية، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
وهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فقد تخفى عليه بعض السنن، والله سبحانه وتعالى أراد ألا تكون العصمة إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجدون العالم الكبير قد تخفى عليه بعض المسائل الصغيرة.
والغريب أن بعض طلاب العلم أو بعض الناس حينما تخبره أن الإمام أحمد أخطأ في كذا، أو البخاري أخطأ في كذا فيقول: سبحان الله! هذا دليل على العلم، لكن لا يريدون من طالب العلم أن يخطئ، هذه غرائب، يعني: إذا أخطأ طالب العلم في فتوى استكثروا ذلك منه، ولو قلنا: إن أبا حنيفة أو الشافعي أخطأ في ذلك فلا يجد غضاضة عندهم، لكن كون هذا يخطئ لا، هذه كبيرة، هذا غريب فأحياناً يخطئ طالب العلم في الفتوى، وذا يقول رواه البخاري ولم يروه البخاري ، أو يقول: هذا مذهب أحمد ولا يكون مذهب أحمد ، والخطأ في ذلك يسير يعني: أخطأ في مثله أئمة كبار، فلماذا يستكثر أن يخطئ طالب العلم، والسبب في ذلك أنه أحياناً يكون حسداً من عند أنفسهم.
أقول: إن الحنابلة استدلوا بالحديث الثاني وهو حديث: ( إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج )، وهذا القول أعني به صحة الشروط إذا كانت صحيحة هو الراحج.
القسم الثاني عند الحنابلة: الشروط الباطلة، والعقد معها صحيح، مثال ذلك: أن يتزوج الرجل المرأة على ألا نفقة لها، أو أن يتزوج الرجل المرأة على سكنى ولا بيتوتة لها، مثلاً: عنده زوجة أولى فيتزوج الثانية ويقول: ليس لك ليلة، أو أنا آتيك بالليل فقط، أو آتيك بالنهار فقط، أو آتيك متى ما رغبت، فهذا يسمى في المشهور عند الحنابلة شرطاً باطلاً. وقد اختلف العلماء في حكم اشتراط الرجل أو اشتراط المرأة على زوجها ألا بيتوتة لها ولا نفقة، ولا بد من تحرير محل النزاع في هذه المسألة.
أولاً: إذا تزوج الرجل المرأة من غير شرط، ثم إن المرأة رأت من زوجها نفوراً، فقالت: أبقني ولا ليلة لي، أو أبقني ولا نفقة لي، فيكون هذا الشرط شرطاً تالياً للعقد، فإذا كان ذلك الشرط تالياً للعقد من غير وجوده مع العقد ولا في أثنائه، فإن هذا صحيح عند عامة أهل العلم، واستدلوا بما جاء في الصحيحين من حديث عائشة أن سودة بنت زمعة أراد النبي أن يطلقها فقالت: ( يا رسول الله! اجعل يومي لـعائشة ) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لزوجاته لكل امرأة منهن ليلة، ولـعائشة ليلتين، هذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: أن يكون الشرط بالعقد أو قبل العقد، وهذا اختلف الفقهاء في حكمه، فذهب جمهور الفقهاء بما فيهم الحنابلة إلى أنه شرط باطل، أما الجمهور فيرون أن كل الشروط باطلة، والحنابلة يرون أن هذا الشرط باطل؛ لمخالفته لمقتضى العقد؛ لأن الأصل في العقد النفقة والسكنى والبيتوتة، هذا مذهب جمهور الفقهاء من الأئمة الأربعة.
القول الثاني في المسألة: هو رواية عند الإمام أحمد ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين وهو قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي أن مثل هذا الشرط صحيح؛ لأن المرأة أحياناً تكون راعية لوالديها المريضين في بيتها، فتتزوج الرجل بشرط ألا يخرجها من البيت، أو ألا يأتيها كل ليلة، أو أن الرجل يشترط ذلك، فهو حق للمرأة يجوز أن تسقطه في الماضي وأن تطالب به في المستقبل، يعني: لها أن تسقطه، فإذا تزوج الرجل المرأة على ألا نفقة لها ولا بيتوتة فتزوج عند ذلك فليس بمحرم، لكنها لو رغبت بعد ذلك على أن ينفق عليها فيجب عليه أحد أمرين: إما أن يعدل، وإما أن يطلق، فلا يجوز أن يبقيها بمخالفة الشرط؛ لأن إبقاءه في المستقبل حق لله، وإسقاطه في الماضي حق للمخلوق، فحينئذٍ لا بأس أن تسقط المرأة ذلك.
أما لو جلس معها سنة، ثم قالت: أريد أن تجعل لي نفقة، أعطني نفقة السنة الماضية نقول: لا؛ لأنك أسقطتيه، أما المستقبل فلها أن تطالب.
وعلى هذا جوز جمهور المعاصرين ما يسمى بزواج المسيار، وهذا الزواج لم يعرف عند الصحابة، ولا عند التابعين ولا عند العلماء، ولكنه يسمى زواج النهاريات أو الليليات قال الإمام أحمد : زواج النهاريات أو الليليات ليس من الإسلام في شيء، وهو أن يشترط ألا يأتيها إلا في النهار أو لا يأتيها إلا في الليل وهذا هو القول الأول في المسألة.
القول الثاني: هو صحة الشرط: وإن قلنا بجوازه وصحته؛ لأن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج.
إلا أننا نقول: إن هذا التجويز ينبغي أن يكون بشرطين:
الشرط الأول: ألا يكون ذلك هو الأصل؛ لأن الأصل هو أن يكون الزواج زواجاً إسلامياً، بمعنى زواج بقاء السكنى؛ لأن الله يقول:
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ
[البقرة:187]، وفي الاستمتاع:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
[الروم:21]، وهذا بقاء السكنى، وهذا هو الأصل، وحينما نجوز مثل هذه الممارسات فإنما هو لمعالجة بعض الظروف، أحياناً مدرسة كبيرة السن، أو مدرسة عندها أولاد، وهي تريد أن تستمتع بالحلال، فلو أرادت أن تتزوج زواجاً عاماً ما قبلها بعض الأزواج، ربما يكون عمرها خمساً وثلاثين سنة، أو اثنتين وثلاثين سنة، أو أربعين سنة، فتجد أن بعض الأزواج يعزفون عنها، فإذا رضيت بأن تسقط البيتوتة عنها فربما وجدت من يرغب بها، فهذه معالجة وليست هي الأصل.
الشرط الثاني: أننا لو قلنا بجواز ذلك فلا يسوغ أن تجعل القوامة للمرأة؛ لأنه إذا جعلت القوامة للمرأة فصارت خراجة ولاجة أدى إلى فساد عريض، ولهذا يجب على الزوج وإن تزوج المرأة بهذا ألا تخرج إلا بإذنه؛ لأن بعض الأزواج إذا تزوج المرأة يقول لها: أريد أن آتي، قالت: لا، اليوم لا تأتي أنا مشغولة فيقول: ماذا عندك؟ فتقول: ليس لك دخل، أنا مشغولة، وحصل في ذلك فتن وقلاقل والعياذ بالله، فلا بد أن تكون القوامة للرجل بحيث يعرف أين امرأته وأين ذهبت، وإلا صار الحبل على الغارب وهذا خطر عظيم.
ومع هذا فإنه لا ينبغي لأهل العلم وطلبة العلم أن تكون هذه الاستثناءات هي الأصل بحيث يستغل الإعلام ذلك ويقول: انظروا إلى فقهاء الإسلام لا يعطون للمرأة حقها، فعندما أفتى المجمع الفقهي بجواز زواج المسيار تكلمت الصحف وتكلمت النساء وإنكم وإنكم، طيب، الغرب الآن يجوز الزنا والعياذ بالله، والخلان والخلات. لماذا لم ترفع عليهم قضية، وأنتم دائماً تطنطنون حول الغرب، الغرب يجوز الاستمتاع بالمرأة، الآن تذهب إلى البارات والعياذ بالله فتجد لها صاحباً، والخيانات الزوجية أكثر من أن تحصى، يقال: إن (85%) في أمريكا خيانات زوجية، ويعتبرون الخيانات الزوجية مجرد علاقات صداقة، وأنها تحب صديقها وتتكلم معه وتخرج معه، ولو لم تمارس معه العلاقة الجنسية، لكن هذا يعتبرونه خيانة، على كلٍ هذه شنشنة نعرفها من أخزم.