إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم إياك نعبد, ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد, وبعد:
أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم النبيين، وبعثه بشريعة غراء, ليقيم أمة, وليبعث منهجاً، وهذه الأمة هي خير الأمم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110].
وهذه الخيرية أحبتي الكرام! ليست خيرية عرقية, ولا خيرية عنصرية, ولا جغرافية, ولكنها خيرية مستمدة من تطبيقها لشريعة الرب، ومتابعتها لسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام, فقد جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخضع له وأحب إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم ), ولذا اختاره لرسالته.
ولماذا الحبيب عليه الصلاة والسلام كان أسوة حسنة؟ اسمع ما يرويه لنا ابن مسعود بالحديث الثابت الصحيح كما رواه البخاري و مسلم قال: ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت, و
وليس هذا في الحيوانات فحسب، بل حتى في الجمادات, فقد روى البخاري في صحيحه من حديث جابر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يقوم إلى جذع في سارية المسجد فيتكئ عليه ويمسكه ويخطب الناس، فقال لامرأة من الأنصار: انظري غلامك النجار يصنع لي أعواداً أكلم الناس فيها, فصنع هذه الثلاث الدرجات, يقول
وكان الحسن البصري إذا روى هذا الحديث جثا على ركبته وبكى وقال: عباد الله! جذع تحن لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم, أفلا يكون نحن أحق بذلك وأولى.
إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أصح سيرة على وجه التاريخ, حتى قال أحد أعداء هذا الدين من المستشرقين: إن محمداً فقط هو النبي الوحيد الذي ولد تحت ضوء الشمس, إشارة من هذا المستشرق أو هذا الكاتب إلى دقة أخبار من روى سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام, بل إننا نقول: إن من الظلم لنبينا صلى الله عليه وسلم, وإن من الظلم للحقيقة أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت سيرهم وأسماؤهم, وسطرت يراع المؤرخين آثارهم, فإن من العظماء وإن من القادة، وإن من الساسة من كان عظيم العقل، ولكنه فقير العاطفة عقير اللسان, وإن من العظماء من كان كريم السجايا، واسع العطاء, ولكنه قليل الحكمة، سيئ الرأي, ومنهم بليغ القلب، بليغ العقل، والقول وثاب الخيال, ولكنه بارد الشعور، قليل الإرادة.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام الذي جمع العظمة من أطرافها.
أحبتي الكرام! لقد أخبرت أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن كل شيء عنه وكل ما يأتي ويذر, حتى في معاشرتهن وما يقول وما يفعل, فعرفنا كيف يأكل, وعرفنا كيف ينام, وعرفنا كيف يشرب, وعرفنا كيف يتنظف, وعرفنا كيف يقضي حاجته، فصلاة ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار, وفي السر والجهار، وصلى الله وسلم وبارك عليه كلما ذكره الذاكرون, وغفل عن ذكره الغافلون, وصلى الله عليه في الأولين والآخرين, أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه, وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولاً عن أمته, فإنه أنقذنا به من الهلكة, ووقانا بسنته من التخبط والانحراف والعجلة, فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروهاً فيهما, وفي واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها, وهو عليه الصلاة والسلام القائد إلى خيرها, والهادي إلى رشدها, الذائد عن الهلكة والزيغ والعناد، الهادي إلى سبيل الرشاد, القائم بالنصيحة والإرشاد، كذا ذكر الإمام الشافعي في أول مقدمته لكتابه العظيم كتاب الرسالة.
أحبتي الكرام! إن الذين وصفوا سيرته عليه الصلاة والسلام أحبوه واقتدوا به, فاجتمع في وصفهم وتدوينهم أمانة النقل مع محبتهم للموصوف, وهو عليه الصلاة والسلام أنموذج الإنسانية الكاملة, وهو عليه الصلاة والسلام ملتقى الأخلاق الفاضلة, وحامل لواء الدعوة العالمية, أعطاه ربه وأكرمه, وأعلى قدره، ورفع ذكره، ووعده بالمزيد حتى يرضى, ولاه قبلة يرضاها, من أطاعه فقد أطاع الله, ومن عصاه فقد عصى الله, ومن بايعه فإنما بايع الله, لا قدر لأحد من البشر يسامي قدره, صفوة الخلق عليه الصلاة والسلام, وأكرم الأكرمين على الله.
وحينما قال موسى كليم الله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84], قال الله لمحمد: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5], وحين سأل موسى عليه الصلاة والسلام هذا النبي الوجيه عند ربه قال: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26], أما الله فقد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:1-2].
أكرم الله به هذه الأمة بأفضل الكتب, وخير الشرائع, وجعلها خير الأمم, فلا تكاد ترى إماماً من الأئمة ولا صحابياً سطر التاريخ مآثره, ولا قائداً من قواد الإسلام سطر الأئمة مآثره, إلا وسببه هو محمد صلى الله عليه وسلم, فمن أبو بكر رضي الله عنه؟ ومن عمر ؟ ومن الشافعي ومن مالك ومن النعمان ؟ ومن خالد ومن صلاح الدين ؟ من الأئمة الذي جاءوا بعده من كل الخلق؟ لولا محمد صلى الله عليه وسلم, حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل الميثاق على كل نبي بعثه أن إذا بعث محمداً أن يتبعه ويساير شريعته, ولهذا يقول القائل:
شهم تشيد به الدنيا برمتها على المنابر من عرب ومن عجم
أحيا بك الله أرواحاً قد اندثرت في تربة الوهم بين الكأس والصنم
نفضت عنها غبار الذل فافتقدت وأبدعت وروت ما قلت للأمم
ربيت جيلاً أبياً مؤمناً يقظاً حسوا شريعتك الغراء في نهم
فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم
وخالد من صلاح الدين قبلك من مالك ومن النعمان في القمم
من البخاري ومن أهل الصحاح ومن سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم
من ابن حنبل فينا وابن تيمية من الملايين أهل الفضل الشمم
من نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
وأذكر قصة ذكرها الشيخ أحمد شاكر في كلمة حق وهي جميلة أن تذكر, وجميل أن تبين, يقول الشيخ أحمد شاكر: كان أحد خطباء مصر فصيحاً متكلماً مقتدراً, وأراد ذلك الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم هذا الأمير أحد الأدباء وهو طه حسين, فقال هذا الخطيب مادحاً هذا الأمير في خطبته قال: جاءه الأعمى, يعني: طه حسين فما عبس ولا تولى, فما كان من الشيخ محمد شاكر أبو الشيخ أحمد شاكر إلا أن قام بعد الصلاة يعلن للناس أن صلاتهم باطلة؛ لأن هذا الرجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقل أكثر واحد من أهل العلم الإجماع على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة أنه مرتد, فقام وقال: أعيدوا صلاتكم فإنه ليس لكم صلاة؛ لأن الإمام أخطأ وكفر.
يقول الشيخ أحمد شاكر : ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا, قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة, يقول: فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً متنفحاً مستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهيناً، ذليلاً، خادماً، على باب مسجد من مساجد القاهرة, يتلقى نعال المصلين, ويحفظها في ذلة وصغار, حتى لقد خجلت أن يراني, وأنا أعرفه وهو يعرفني, لا شفقة عليه, فما كان موضعاً للشفقة, ولا شماتة فيه, فالرجل يسمو على الشماتة ولكن لما رأيت من عبرة وعظة، انتهى كلامه رحمه الله.
وقد سأل هارون الرشيد الإمام مالك بن أنس في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن بعض المتفقهة أفتوا بجلده فقط, فغضب مالك رحمه الله وقال: يا أمير المؤمنين! ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه العظيم الدرر الكامنة عن إبراهيم بن محمد الطيبي أن بعض أمراء المغول تنصر, فحضر عنده جماعة من كبار النصارى، فجعل واحد منهم ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ومع القوم كلب صيد مربوط, فلما أكثر هذا المتنصر سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وثب هذا الكلب فخمشه فخلصوه منه, وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- قال هذا الرجل المتنصر: لا, بل هذا الكلب كان عزيز النفس, وظن أني أشير إليه، وأنا أسب محمداً -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- فكان هذا الكلب عزيز النفس فظن أني أريده فقام ما قام, فلما أكثر وعاد بسب النبي صلى الله عليه وسلم فوثب الكلب مرة أخرى فقبض على زردمته، وهو موضع الابتلاع من الحلق, قال: فقلعها فمات من حينه فأسلم بسبب ذلك نحو من أربعة آلاف.
هذا هو الحبيب عليه الصلاة والسلام وهذا هو خلقه, وهذه بعض شمائله, ومن أراد أن تنجح دعوته وتستقيم سيرته فعليه أن يقتدي بالمعلم الأول, وبالقدوة العظمى, لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21], فإن الحي كما يقول ابن مسعود: لا تؤمن عليه الفتنة, فرسول الله عليه الصلاة والسلام المعصوم من كل خطأ يبقى عليه, فهو بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام, أسوة في أخلاقه وفي تعاملاته مع الخلق, وإن الأخوة لا تفرض بقوانين ولا بمراسيم, ولا بأحلام الحكماء ولا بأقوال الشعراء, وإنما هي أثر من تخلص النفس من نوازع الأثرة والشح والأنانية وحب الذات والرفاهية, والأخلاق الحسنة لا تنبع إلا من نفوس طيبة، وطبائع كريمة تميز بين الأدب والملق, والصدق والكذب, ولقد جاءت رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنصيب وافر من الاهتمام بالأخلاق وحسن التعامل, وقد وصف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4], وقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وهل بعد طغيان فرعون من طغيان, ومع ذلك يقول الرب لنبي من أنبيائه وهو موسى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44].
إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه, وتطلب للناس الأعذار, والتمس لأغلاطهم المسوغات, وأخذهم بالأرفق من حالهم, وإنه يجب على كل مسلم أن يقتدي بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وخاصة دعاة الإسلام وطلبة العلم, وأهل الخير والصلاح, أن تتوفر فيهم الطبيعة الخيرة, المعدة لأن تتجمع عليه القلوب, وتتآلف حولها النفوس؛ لأن الناس وخاصة في هذا الزمان في حاجة إلى كنف رحيم, وإلى بشاشة سمحة, وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم وخطئهم.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم : قال: ( بينما كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله, فرماني القوم بأبصارهم, فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تبصرون إلي؟ قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم, فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت, فلما سلم عليه الصلاة والسلام فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه, فو الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني غير أنه قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ).
فتأمل يا رعاك الله! هذا الأدب النبوي عليه الصلاة والسلام, عالج هذا الخطأ برحمة وحنان, جعلت معاوية بن الحكم لا يقتصر على هذا الأدب وهذه التربية وهذا التعليم, بل حفزه ذلك لأن يزيل الجهل عن نفسه, فقال: ( يا رسول الله! إن منا أناساً يخطون, قال: كان نبيٌ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك, قال: وإن منا أناساً يأتون الكهان, فقال: فلا تأتهم, قال: يا رسول الله! وإن لي جارية ترعى لي غنماً بين أحد والجوانية, وهي أماكن معروفة فجاء الذئب فأخذ شاة من غنمها, وأنا بشر من بني آدم, آسف كما يأسفون لكني صككتها, -يعني: ضربتها- فعظم ذلك عليْ وقلت: أعتقها؟ قال: ائتني بها, قال: فجئته بها فقال: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم, قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله, قال: أين الله؟ فأشارت إليه في السماء وقال: أعتقها فإنها مؤمنة ).
بال أعرابي في المسجد كما في الصحيحين من حديث أنس فقام إليه الناس ليقعوا به, ( فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه لا تزرموه وأريقوا على بوله ذنوباً من ماء, فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، وسكنوا ولا تنفروا ), الله أكبر! لو أن سائلاً سألك يا رعاك الله! وقال لك: وقعت على امرأتي في نهار رمضان لعظمت هذا الأمر, ولربما قلت له: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين, ولم يعتق؛ لأنه ليس فيه عتق في هذا الزمان, فلو قال لك: لا أستطيع أن أصوم لرأيت بعضنا يقول: يجب عليك أن تصوم. اسمع حينما جاء أعرابي كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت ), وفي رواية:( فعل الله بها ما فعل, قال: وما ذاك؟ قال: تجملت لي فوقعت عليها, قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة, قال: يا رسول الله! والله ما عندي ما أعتق به, قال: فصم شهرين متتابعين, قال: يا رسول الله! وهل الذي وقع بي ما وقع إلا الصوم؟ ), يعني: ما أستطيع أن أصبر، قال: ( فأطعم ستين مسكيناً, قال: والله يا رسول الله! ما عندي ما أتصدق به, قال: فجلس فأوتي إليه بعرق فيه تمر, ثم قال: تصدق بهذا, فقال: أعلى أفقر منا, فو الله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه, فقال: خذه وأطعمه أهلك ).
ذلك الأعرابي حينما بال في المسجد فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقطع بوله؛ لأنه يخشى لو قطع بوله لأثر ذلك في بقع أخرى، وفي أماكن أخرى وأثر ذلك على ثيابه, وقال: ( لا تزرموه ), يعني: لا تقطعوا عليه بوله, هذا الأعرابي حينما وجد هذا الحنان وهذه الرأفة من النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً ) الله أكبر! ولا ترحم معنا أحداً أبداً قال عليه الصلاة والسلام: ( لقد حجرت, لقد حجرت ).
يأتي رجل اسمه عبد الله بن حمار وكان يشرب الخمر، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم, وكان ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقيم عليه الحد, فرأى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال: ( لعنه الله, ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعينوا الشيطان على أخيكم, فإنه يحب الله ورسوله ), الله أكبر, ما هذه الكلمة العظيمة؟ ( فإنه يحب الله ورسوله ), لها دلالات عظيمة, إن الرجل مهما قصر في طاعة الله, ومهما وقع في الذنب العظيم فإنه يجب على الدعاة وعلى الناس أن يثيروا همته في أنه ما زال قريباً في طاعة الله, ( فإنه يحب الله ورسوله ), هذا الخير الذي استقر في قلبه وهو طاعة الله ومحبة الله ورسوله سبب أكيد في أن تجعل هذا الرجل المذنب أن يترك هذا الذنب، ويقدم على طاعة الله سبحانه وتعالى.
هذه الخيرية دليل على أن الإنسان ربما يصطنع هذا الخلق مع الخلق, لكنه مع من يكثر الاحتكاك معه, ومن كان يكثر الخلطة معه ربما يذهب هذا الخلق المصطنع ويبقى الحقيقة, أما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتكلم على أحد ولا على أصحابه, ولا على أزواجه الذي يكثر الاختلاط معهن بكلمة واحدة.
بل كان عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي لا يعالج الخطأ في فورة غضب أزواجه, جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدني مسرورة, قال: فجعل يحدثها)، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يعالج خطأ عائشة الذي كان عندها, ولكن هذه المعالجة تحتاج إلى تروي وإلى نظر في الوقت المناسب للمعالجة؛ لأن بعضنا إذا رأى صاحب منكر ربما يغلظ عليه القول, وربما يشتد عليه في القول, وربما كان من هذا المخطئ أن يرد بالصاع صاعين, ويقول: مشكلة فلان أنه لا يقبل الحق, ربما يقبل الحق ولكنك أتيت هذا الحق بطبق ليس من ذهب, أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو يعالج الخطأ في الوقت المناسب.
قال: ( فدخل على
قد تتحدث مع صاحب لك بعض الحديث, وربما يكون في بعض المناقشات، وبعض المناقشات الفقهية يحصل فيها بعض الالتزامات من بعض الخصوم, وربما قال كلمة ربما ظاهرها فيها من الشناعة والغلظة وعظيم القول ما لا يخفى, ولكن يجب عليك أن تحمل هذه الكلمة محملها الصحيح, فلربما كان غضباناً وهو لا يعلم.
ومما يدل على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه، وعلى معالجته للخطأ, وعلى أنه لا يستمع لهذا الخطأ فيحمله أكثر من محمله الحقيقي وإلى صدقه أيضاً, ما جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي التي هو عندي فيها, وبينما أنا وإياه في مرط ), يعني: على الفراش متغطين في لحاف, قالت: ( فدخلت
قالت: ( فدخلت
ومن الخلق العظيم أن تسكت أحياناً؛ لأن الزمن كفيل في حل كثير من مشاكلنا. (فسكت عليه الصلاة والسلام. قالت: فكانت
لو أن هذا الحدث وهذه الواقعة وقعت فينا لربما قالت زينب: وأيضاً في عائشة هذا, ولكن الحبيب عليه الصلاة هو العدل, وعالج القضية بأسمح أمر وأحلاه.
أيضاً يروي لنا أنس كما في الصحيحين قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على أزواجه كل عصر, ويتقرب منهن غير أنه لا يمس, وكن يجتمعن في البيت الذي هو عندها, فإذا أراد أن يقوم أخذ بيد التي هو عندها فإذا قامت, قمن وتفرقن, قالت:
هذا الخلق من محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث مع خلق نبينا صلى الله عليه وسلم مع أسرته وأزواجه حديث لا ينضب, ولعله يكون له حديث محمد صلى الله عليه وسلم، وعلاقته مع أزواجه.
عمرو بن العاص حينما أسلم كان كلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ابتسم له النبي صلى الله عليه وسلم, فظن عمرو بن العاص أن هذا الحظوة وهذا الحب، وهذا العطف وهذه الابتسامة إنما كانت من محمد صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص ؛ لأنه كان أحبهم إليه.
روى البخاري و مسلم من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: عائشة وأيضاً أبوها, لم يقل: أبو بكر, بل قال: أبوها؛ لأن حب أبي بكر زاد بحب عائشة رضي الله عنها, وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
أحبتي الكرام! إن الاقتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أيضاً اقتداء في عبادته, فلا غلو ولا تفريط ولا إفراط, ومن أراد بدعوته ومنهجه ورسالته أن تنجح فعليه أن يدلف من باب الاستقامة, والاستقامة بابها هو المحراب, ولئن ظن الدنيوي أن جناته في قصره وديناره ودرهمه فإن جنة المسلم في محرابه، وطاعته لربه ورسوله صلى الله عليه وسلم, وها أنت يا رعاك الله! قد سمعت نزراً يسيراً عن خلق محمد صلى الله عليه وسلم, بعبادته وسمته في معاملته مع أصحابه، ومعاملته مع أزواجه.
والباب في هذا الأمر يطول, لكني أحب أن أبين أن سلامة المنهج، وصحة العقيدة مع التعامل الأخوي الإيماني ركيزتان متلازمتان, وعينان نضاختان تسكبان خيراً لا ينضب, دور يجب أن يقتدي به دعاة الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم, وهذه الدعوة لم تتأت ثمارها ولن تنجح ولن تترعرع إلا بأن يكون هذا المنهج الإيماني وهذه العقيدة الصافية معها نهر لا ينضب، وهو الخلق والأسوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين, وأن يجعلنا متبعين لسنته, مقتدين بمنهجه في السراء والضراء, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: مصافحة المرأة الأجنبية للرجل لا يجوز, أما الشابة فهو مذهب الأئمة الأربعة كلهم, وقد جاء عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لئن يغرز في رأس أحدكم بمخيط حتى يخرج من مكان آخر خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ), وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( إني لا أصافح النساء ), وهذا خبر بمعنى الأمر, وقد ذكر علماء الأصول أن من أعظم الأوامر ما جاء الأمر بصيغة الخبر, وهذا هو قول أئمة الإسلام, وأما قول المرأة: إني لا أصافح الرجال نقول: جزاك الله خيراً على هذا الخلق, ونسأل الله عز وجل أن يثبتك على طاعته.
وأما زوجك حين رفض فبيني له السنة بحكمة وتؤدة, فإن أبى فنقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ), ( وإنما الطاعة في المعروف ), وقد قال القائل:
إذا نلت منك الحب فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وطاعة الله وطاعة رسوله خير للمرء من كل شيء.
الجواب: أولاً: محبة النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذناها -كما يقول علماء الأصول- بالتلازم حينما ذكرنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فأحببناه, وكل من قرأ سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأها كما أرادها عليه الصلاة والسلام وكما أرادها المحدثون فإنه سوف يسلم.
هذه هند بنت عتبة حينما سمعت سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما انتهت المعركة والفتح, دخلت فاغتسلت ثم قالت: ( يا رسول الله! والله ما من دين أبغض إلي من دينك, وأما اليوم فأصبح دينك أحب الأديان إلي, والله ما من أحد أبغض إلي منك, وأما اليوم فكنت أحب الناس إلي ).
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تدرك بأمور, لكن الذي سأل عنه السائل هو محبة الله سبحانه وتعالى, ومحبة الله تدرك بأمور أجملها على عجل:
الأمر الأول: قراءة القرآن بتدبر, وكل من قرأ القرآن بتدبر عرف عظمة الخالق, وقد روى البخاري ومسلم قصة جبير بن مطعم حينما أسلم, وبطبيعة الحال أن أول من يسلم لم يكن فيه من الإيمان والخشية والرهبة والخنوع مثل ما كان فيمن كان قديم الإسلام.
فـجبير بن مطعم حينما تأمل كتاب الله حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35], قال جبير : حتى خشيت أن ينخلع قلبي ), فتدبر القرآن من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: كثرة الدعاء والابتهال أن يسأل العبد ربه أن يرزقه محبته.
الأمر الثالث: محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: اتباع طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, فكلما أكثر المرء من طاعة الله ولازم طاعة الله بعث الله في قلبه من المحبة إليه ما لا يخفى, كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب, وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي عليها ), وفي بعض الروايات: ( فبي يسمع, وبي يبصر ), وهذا يدل دلالة صريحة على أن متابعة وطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم سبب أكيد في كثرة وملازمة محبته سبحانه وتعالى.
الجواب: أما قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1], فقد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد ولا يصح هذا الحديث, وأما حديث أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40], فقد رواه أبو داود من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا قال الإمام أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40], قال: سبحانك فبلى, أو بلى سبحانك ), فقال الراوي: فسألته يعني هذا الصحابي: وقال سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة, وقد اختلف أهل العلم هل يقول ذلك في الفريضة؟ والأقرب والله أعلم هو ما ذكره غير واحد من المحققين: أن كل ما ثبت في الفرض استحب في النفل, وكل ما ثبت في النفل جاز في الفرض, وعلى هذا فلو قال ذلك في الفرض فحسن, وإن سكت فهو أفضل؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في الفرض, ولو قالها فحسن, وأما إذا ثبت أنه قالها في الفرض فيستحب في النفل، والله أعلم.
الجواب: من نظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى نكت في قلبه نكتة سوداء, ومن عصى الله سبحانه وتعالى في خلواته نكت في قلبه نكتة سوداء, ومن أكل مالاً حراماً نكت في قلبه نكتة سوداء, ومن ترك صلاة الفجر أو أي شيء من الصلوات نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يعود القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
والمشكلة أيها الإخوة أن الكثير منا لا يحس بالمعصية التي عصى الله سبحانه وتعالى ولا يستشعر، لماذا؟ لأن المعاصي قد كثرت منا, وقد كان سلف هذه الأمة لا يعصون الله, ويعرفون متى يعصون, وإذا عصوا عرفوا ذلك بخلق أزواجهم ودوابهم وغير ذلك.
وعلى هذا أولاً: تشكر أخي على هذا الحنان وهذه الرحمة من محبتك للخلق, واعلم يا رعاك الله! أن محبتك للخلق من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد روى الطبراني في أسانيد يقوي بعضها بعضاً وإن كان في سندها بعض الضعف, أن أبا ضمضم في ليلة من الليالي وبعدما صلى قال: ( اللهم إنك تعلم أن رسولك قد أمرنا بالصدقة، وليس عندي ما أتصدق به, اللهم إني قد جعلت عرضي لأمتك, أو كما قال, فقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى الفجر وقال: أتدرون من أعظم الناس صدقة هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال:
نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر