الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة! نستكمل الموضوع السابق: كيف تكون فقيهاً.
نحن ذكرنا القواعد المنهجية للتفقه في الدين، وتبقى الممارسة العملية بحيث يختار طالب العلم متناً من متون الفقه على حسب كل مذهب، ولعل من أفضل كتب المختصرات للحنفية مختصر القدوري، أو الدر المختار، وفي المذهب المالكي مختصر خليل، أو مختصر المنهاج، أو المنهاج للنووي عند الشافعية، أو زاد المستقنع عند الحنابلة.
أما طريقة التتلمذ فيها فإننا سنوضح ذلك بذكر مثال، كتاب الزاد مثلاً أول باب منه باب المياه، يقرأ هذا الفصل الأول مرة، مرتين، ثلاثاً، أربعاً، خمساً، بحيث يسقط كل جملة، وإذا كان هناك شروط يحفظها، فإن استطاع أن يحفظ سريعاً فالحمد لله، وإلا فإن أهم شيء هو الفهم، بحيث لو أراد أن يعبر فإنما يعبر من كلام الفقهاء وليس من كلامه هو، فإن من الأخطاء أيها الإخوة أن شروح المشايخ تعبر لطالب العلم للفهم ثم يأتي الطلاب فتخرج على سبيل المذكرات، ثم على سبيل الكتاب، ثم يطبع الكتاب، وليس فيه الصيغة الفقهية التي تداولها الأئمة، وينبغي أن يكون الشرح شيئاً، والكتاب الذي يطبع شيء آخر، بحيث لا تذهب السليقة الفقهية لدى طلاب العلم جيلاً بعد جيل؛ ولهذا تجدون أن مشايخنا الكبار حينما كانوا يتعلمون ويقرءون على الشيخ، يشرح الشيخ شرحاً بسيطاً، وكان الطالب يمسك الكتاب الأصل ويذهب إلى الشيخ، أما الآن فأكثر اهتمام الطلاب بشروح المشايخ في الجامعات وغيرها، فتقل السليقة الفقهية، والعبارة الفقهية التي هي أمتن.
فإذا قرأ الطالب هذا المتن ينتقل بعد ذلك فيقرأ شرحاً لشيخ من المشايخ، وينبغي أن يكون هذا الشيخ ملماً بالدليل؛ لأن العبرة ليست أن نعرف مذهب فلان أو علان فقط، العبرة بأن نتربى على الدليل، ولعل من أفضل شروح الزاد الشرح الممتع لشيخنا محمد بن عثيمين ؛ لأنه يبين مراد المؤلف ودليل المؤلف، ثم بعد ذلك يبني في الطالب الملكة الفقهية في طريقة الاستنباط، فالشرح الممتع يعتبر أصلاً، فإذا قرأ كتاب الشرح الممتع حفظ دليل المؤلف، وحفظ دليل الشيخ إذا كان القول الراجح، ثم يمشي على هذه الطريقة، فإذا انتهى من كتاب الطهارة مثلاً يرجع مرة ثانية يتأمل فيه ويقرأ.
ثم يأتي للمرحلة الثانية وهي إذا بلغه عن ابن تيمية قولاً في هذه المسألة يذهب ويعلق على المسألة التي في باب المياه، ويقول: واختار ابن تيمية القول كذا، ويرجع إلى الأصل، أين اختاره ابن تيمية ؟ يقول: راجع الاختيارات راجع مجموع الفتاوى صفحة كذا، وإذا بلغه أن أبا عمر بن عبد البر يقول في المسألة كذا يذهب ويقول: وقال أبو عمر بن عبد البر ويضع قوساً وينقل الكلام، تجده بعد خمس سنوات يكون كتاب الطهارة عنده أغلى من كل شيء، ولو طلب أن يباع له بأعلى الأثمان لما باعه؛ لأنه صار عنده ثروة من أقوال الأئمة المحققين ممن يهتم بهم، إذا بلغه أن شيخنا ابن باز اختار كذا أو اللجنة الدائمة اختارت كذا ودليلهم كذا، فيكون قد عرف الدليل.
المرحلة الثالثة: وهذه تتأتى بعد سبع أو ثمان سنوات من هذه الممارسة، يبحث كل مسألة وينظر هذه المسألة من قال بها؟ ثم يذهب للمغني أو المجموع، أو البيان للعمراني، أو غير ذلك من كتب الخلاف، أو لأصحاب المذاهب، بحيث يعرف دليل مالك ودليل الشافعي ودليل أحمد فيتربى على أدلة الأئمة، فإذا انتهى من هذا الباب عرف ما أصل مالك في هذا القول، فيكون عنده دربة عشر سنوات فيعلم أن مالكاً يبني أصله في المياه على كذا؛ ولهذا تجدون النووي رحمه الله يختصر لك فيقول: هذا الباب مبني على خمسة أحاديث، مثل: باب سجود السهو مبني على خمسة أحاديث، باب الحيض مبني على كذا حديث، فيريد أن يؤصل لك هذه المسائل.
إذاً التربي على أدلة الأئمة وأقوالهم تعطي طالب العلم ملكة فقهية كبيرة جداً؛ ولهذا الذي يتربى على مذهب واحد خاصة من غير دليل ليس بفقيه، وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على أن الذي لا يعرف أقوال الأئمة بدليله ليس بفقيه، فإذا تربى على هذا يكون كأنه تتلمذ على مشايخ كثر؛ ولهذا يقول إبراهيم الحربي وهو من أصحاب أحمد ومن تلاميذه: سمعت من أحمد مسائل دقاق، يعني: مسائل غريبة ما يعرفها أهل الحديث في وقتهم، فقلت: يا أبا عبد الله ! مم ذاك؟ يعني: من أين لك هذه المسائل؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن، إذاً: الحنفية عرفوا بتفريعات المسائل، فإذا تربى طالب العلم على الدليل وعلى القياس وكيف يفرع المسائل شيئاً فشيئاً فإنه سيكون إماماً؛ ولهذا حينما درس الإمام الشافعي مع ذكاء حاد وفطنة وحفظ على مدارس الأئمة: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ألف كتاب الرسالة، فليست المسألة مسألة حضور دروس فقط، لا؛ بل لابد من جلد في المكتبة، وأنا إذا دخلت مكتبة طالب العلم ووجدتها مرتبة ومنمقة عرفت أنه لا يقرأ، وإذا وجدت مكتبة طالب العلم مرتبة وفتحت كتاباً منها فوجدته واضعاً ورقة وكتاباً آخر معلقاً عليه، عرفت أنه طالب علم متمكن، وإذا دخلت مكتبة طالب علم وجدت الكتب متناثرة فعرفت هذا كتاب جديد وهذا كتاب جديد، عرفت أن الطالب لا يحسن أن يجمع الكتب ولا يحسن أن يقرأ هذه الكتب، فالمسألة بحاجة إلى تروٍ وتأنٍ.
يقول الشافعي رحمه الله: كتبت بيدي من مسائل محمد بن الحسن حملي بعير، تعرفون البعير إذا صار فيه هذا المزود؟ هذا الذي هو حمل، فالذي كتبه الشافعي حمل من هنا ومن هنا حملي بعير أين هذه الكتب؟ هذه الكتب هي التي قرأها وأخرج لنا كتابه الأم.
يقول: كنت أكتب مسألة محمد بن الحسن وأجمع فيها ما جاء فيها من الآثار، وهذه نسميها نحن مسودات لطالب العلم، هذه تنمي طالب العلم بالكتابة؛ ولهذا شيخنا محمد بن عثيمين أخرج كتباً كثيرة، من كتبه مختصر زاد المعاد، مختارات مغني اللبيب، مختارات إعلام الموقعين، فيقرأ الكتاب ويعلق عليه ثم يتحفظ أقوال الأئمة، وشيئاً فشيئاً سيكون بإذن الله إماماً بعد فترة يشار إليه بالبنان، نسأل الله التوفيق والتسديد.
وبهذا يكون قد جمع مادة علمية، وعرف أقوال الأئمة.
وينبغي لمن أراد أن يبحث في الفقه ألا يفته كتاب المغني وكتاب المجموع، وكتاب المنتقى للباجي ، وكتاب الحاوي الكبير للماوردي ، وكتاب فتح الباري لـابن رجب و ابن حجر، ومجموع الفتاوى لـأبي العباس بن تيمية ، والاستذكار والتمهيد لـأبي عمر بن عبد البر ، وتحقيقات ابن القيم رحمه الله، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، وبدائع الصنائع للكاساني ، أو المبسوط للسرخسي، ولو لم يكن عندك إلا هذه المكتبة لكفتك بإذن الله؛ ولهذا يقول الإمام ابن عبد السلام: ما تجرأت للفتيا حتى كان عندي كتاب أبي محمد بن قدامة يعني المغني، فإذا كان عندك المغني، والتمهيد والاستذكار، والسنن الكبرى للبيهقي مع تنقيحات واختيارات وفقه ابن تيمية مجموع الفتاوى، و ابن حجر أو ابن رجب في فتح الباري لهما، والمجموع للنووي، والبيان للعمراني ، والحاوي للماوردي ، والمنتقى للباجي ، وبداية المجتهد لـابن رشد بحيث يعلمك طريقة معرفة سبب الخلاف وثمرة الخلاف، إذا اشتريت هذه الكتب وراجعتها شيئاً فشيئاً بإذن الله سوف تجد فائدة كبيرة جداً جداً أكثر من أن تجمع الكتب وربما لا تراجعها سنين عديدة.
هذا استكمال لموضوع كيف تكون فقيهاً، وهناك نقاط كثيرة، لكني قلت بدلاً من أن نذكر المنهجية يكفينا أن نذكر هذه المنهجية، ثم نبدأ بالطريقة العملية فيها.
التحديث لا يقوى عليه إلا فحول الرجال، كما قال الإمام الزهري : علم الحديث فحل لا يقوى عليه إلا فحول الرجال؛ ولهذا ليس المحدث الذي يحفظ مختصر البخاري و مسلم ، أو بلوغ المرام، أو المنتقى، ويستدل بذلك أو يجيد علم الرجال، ثم يقال عنه: أنه محدث، لا، فقد ذكر الإمام السبكي المحدث الشافعي المعروف في كتابه الماتع معيد النعم ومبيد النقم معاتباً بعض طلاب أهل زمانه حينما يقرأ الواحد منهم البخاري و مسلم ، والسنن لـأبي داود و الترمذي ، و النسائي و ابن ماجه ، ثم يقال عنه أنه محدث، يقول: ليس هذا بمحدث، فلابد أن يقرأ كتب المعاجم، وكتب المسانيد، وكتب المصنفات، ثم عد أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم قال: ثم هذا يصلح أن يكون من أهل الحديث!
فهذا يدل على أن هذا العلم ليس بالسهل أن يتمكن منه الإنسان، وأنا أقول: ليس هذا الكلام نوعاً من التعجيز، ولكن أيضاً ليس قطف الثمرة بالأمر السهل، ففرق بين طالب العلم الذي يقول الناس عنه أنه طالب العلم وأنه يجيد الحديث، وبين أن يكون أهل الحديث يقولون عنه أنه محدث، هناك فرق كبير.
أنت لو ذهبت إلى رجل يلبس لباس الطب وعنده عيادة تقول: هذا طبيب، لكن الأطباء يعلمون حقيقته هل هو طبيب أم ليس بطبيب؟
هذه المتون: مختصر الصحيحين، بلوغ المرام، زوائد المنتقى على هذه الكتب، وكلما حفظ يراجع، وطريقة الحفظ أيها الإخوة ليست حفظاً فقط -وهذه مهمة جداً لمن أراد أن يعود نفسه الاستحضار- فإذا حفظ حديثاً يقطعه على حسب المسائل، فإذا قرأ حديثاً يقول: أستخرج من هذا الحديث المسألة الفلانية، والمسألة الفلانية، هو يحفظ هذا الحديث ثم يستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، هو الذي يقول عن نفسه ثم يقرأ الحديث الآخر، وهذا الحديث يستخرج منه كذا وكذا وكذا، ثم يكون له وقت معين مع الشروح، هل وافق قوله الشروح أم لا، فإن لم يوافق يقول: لماذا؟ بحيث يعرف كيف فهم الأئمة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه طريقة الحفظ الناجحة، وهذه الدربة على الحفظ وعلى الاستحضار، تجد أنه بعد زمن إذا سئل يقول: ودليل هذه المسألة هو حديث فلان، وحديث فلان، وحديث فلان، فهذا الاستحضار لم يأت عبثاً، إنما جاء من الدربة التي سار عليها؛ ولهذا الدارقطني الإمام الكبير يقول: ما رأينا أحفظ للمتون والاستشهاد بها من أبي بكر الإسماعيلي .
يقول: كنا في مجلس فقيل لنا: هل يتيمم بالغبار؟ أو ما ليس له غبار؟ قال: فلم نحر جواباً، فخرج الإسماعيلي وهو يتوضأ ويمسح الماء، فسئل فقال: نعم، أوما حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، والتربة لا بد أن يكون فيها غبار، قال: فعجبنا، من الذي عوده؟ هي الدربة والاستمرار.
هذا هو القسم الأول قسم الحفظ، أن يحفظ ويقطع الحديث من حفظه بناءً على المسائل، فإذا كان بينه وبين زميله لا يقول: سمع لي فقط؛ بل يقول: تعال نتذاكر العلم مثلما كان الأئمة يتذاكرون في الأبواب، يقول: هل تحفظ حديثاً في وجوب السواك؟ يقول: نعم، ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب )، يقول: لا، لكن هذا الاستدلال ما استدل به أهل العلم، فيستفيد فقهاً وحفظاً، ثم يقول: هل تحفظ حديثاً في أن المرأة إذا اغتسلت تنقض شعرها؟ قال: نعم ( أفأنقضه من غسل الجنابة؟ قال: نعم )، وفي رواية عند مسلم : ( والحيضة ).
إذاً: هو الآن يعود نفسه الحفظ والاستحضار؛ لأن الاستحضار فن وعلم يحتاج إلى دربة، كثيرون الذين يحفظون متوناً كثيرة لكنهم لا يستفيدون منها، فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ قال: أنت؛ ولهذا ذكر الخطيب البغدادي قصة أبي حنيفة رحمه الله حينما كان الأعمش عند أبي حنيفة قال: فسأل رجل الأعمش ، فقال: ما عندك فيها يا نعمان ! قال أبو حنيفة النعمان : الحكم فيها كذا وكذا، قال: من أين لك هذا؟ قال أبو حنيفة : أو ما حدثتنا عن فلان بن فلان بن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، فضحك سليمان الأعمش وقال: نعم، حقاً يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، فهذا يدل على أن الإنسان لا بد أن يكون فقيهاً فاهماً للحديث، ففهم الحديث أولى من حفظه؛ ولهذا عيب على أهل الحديث عندما ظهر خلاف بين أهل الحديث والرأي أنهم مثل الأسفار، يحملون أسفاراً ولا يفهمونها؛ ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: كانت رقابنا بأيدي أهل الرأي حتى جاء الإمام الشافعي ؛ لأن الشافعي فهم النص وبدأ يناظرهم، والأمثلة في هذا كثيرة، لكن لا نريد أن نخرج عن هذا الموضوع.
الشرح الثاني للشيخ طارق عوض وهو شرح النخبة، ما فائدة هذين الشرحين؟ فائدتهما أن كل واحد يعطيك فهم مراد الحافظ وأمثلة على طريقة الأئمة، ويوضح الفرق بين المتأخرين والمتقدمين بأسلوب بسيط، هذا الكتاب شرح النخبة فيه مصطلح، فيه قواعد الأئمة، هذا المصطلح مبني على طريقة المتأخرين، وليس على طريقة المتقدمين، هذان الشرحان يبينا لك الفرق بين هذا وذاك بأسلوب بسيط، وهذان الشرحان لو قرأتهما على شيخ مدرك وبدأت تعرف وتميز شيئاً فشيئاً -يعني: تقرأ الشرح مرة مرتين ثلاث أربع عشر مرات- يكون عندك إدراك في فهم المصطلح.
وبعد انتهائك من هذا الشرح وفهمك له تبدأ بالطريقة الثانية، وهي طريقة البحث، ولا حاجة إلى أن تقرأ تدريب الراوي، أو شرح الألفية للعراقي، أو مقدمة ابن الصلاح؛ بل اجعلها بحثاً وإن كنت صاحب همة، فهذه من أفضل الكتب، ولا تنس فتح المغيث للإمام السخاوي؛ لكني أقول: إذا كنت لا تريد أن تقرأ، فلك طريقة أخرى وهي أنك إذا جعلت شرح الشيخ إبراهيم اللاحم ، أو شرح طارق عوض للنخبة في يدك فأمسك الكتاب كأنك أنت الذي تريد أن تشرح، فإذا جاءك الحديث الشاذ أو المنكر فراجع هذه الكتب على طريقة الأئمة، والآن الحمد لله هناك الرسائل الجامعية وهي كثيرة جداً جداً خاصة التي تعني بمعرفة طرق الأئمة المتقدمين، فإذا جاءك الشاذ فهناك رسائل ماجستير أو دكتوراة عن الحديث الشاذ وأمثلة في ذلك، فإذا قرأت أنت عن الشاذ اختصرت هذه الرسالة، ووضعتها في شرحك للنخبة المتمثلة في شرح طارق عوض والله ستضيف لنفسك معلومات وستميز الأحاديث.
وإذا جاءك الحديث المنكر فتعرف عليه عند المتقدمين وراجع شرح العلل للإمام ابن رجب ، فإن الإمام ابن رجب قد ذكر قواعد الأئمة في علم المصطلح التي يحتاج إليها المضعف والمرجح في معرفة ودراسة الأسانيد، بحيث إذا جاءتك مسألة من مسائل شرح النخبة فراجع شرح العلل لـابن رجب أو بعض الكتب التي تتحدث عن هذه النقطة بالذات على طريقة المتقدمين، وهي كتب مطبوعة الآن.
أقول: ما أعلم فناً من فنون علم الآلة خدم في هذا الوقت أفضل من علمين: علم النحو، وعلم المصطلح، أما علم الأصول فبحاجة إلى خدمة، أما هذان العلمان فقد خدما خدمة كثيرة وكبيرة من قبل الباحثين في الرسائل الجامعية.
فإذا قرأت أي كتاب يتحدث عن الجهالة وجدت الفرق بين الجهالة عند المتقدمين والجهالة عند المتأخرين، كذلك شرح الموقظة للشيخ عبد الله السعد شفاه الله، فهذا كتاب ماتع قد ذكر فيه أمثلة كثيرة لطريقة المتقدمين.
إذاً: أي كتاب يتحدث عن المنكر، أو عن الجهالة، أو عن الشذوذ، أو عن التدليس تشتريه، وتقرأ فيه بحيث تميز طريقة الأئمة، ولعل من أفضل الكتب التي تتحدث عن التدليس كتاب بسيط وجيد في بابه وهو: التدليس للشيخ ناصر الفهد فك الله أسره.
وعليك كذلك أن تعتمد على معرفة العلة من حيث ما هي العلة، وطريقة فهم الأئمة للعلة؟ ولعل أفضل من تحدث عن هذا هو الحافظ ابن رجب، فقد ذكر العلة وبينها بياناً تاماً لطالب العلم.
ولا تنس الاهتمام بطريقة السماع، وهل يشترط اللقيا والسماع أم اللقيا دون السماع، ولعل من أفضل من كتب فيها هو الشيخ إبراهيم اللاحم في كتاب الاتصال وهو رسالة مطبوعة وجيدة في بابها، وكتاب للدكتور خالد إدريس الأستاذ المشارك في جامعة الملك سعود في موقف البخاري و مسلم من الاتصال، والله أعلم.
وهناك كتب تتحدث عن القواعد عند الأئمة استُخلصت من كلامهم، ولعل من أفضلها ثلاثة كتب:
الكتاب الأول: كتاب قواعد حديثية مجموعة من كلام المحدث عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، في ثلاثة مجلدات وهو ماتع في بابه، بحيث يعطيك طريقة الأئمة في هذا الباب.
الكتاب الثاني: قواعد في مصطلح الحديث، جمع للدكتور ماهر الفحل ، فقد أحسن وأجاد في جمعه لقواعد الأئمة في هذا الأمر؛ لأن غالب النكارة والجهالة والشذوذ والعلل والإرسال والتدليس والسماع قد جمعها في هذا الجمع، بعد ذلك إذا فهمت هذا الأمر وبطبيعة الحال سوف تكون عندك محفوظات لأمثلة الأئمة في المنكر، محفوظات لأمثلة الأئمة في الشاذ، فتحفظها وتحفظ أسانيدها، بحيث تستطيع تميز.
بعد هذا لابد لطالب العلم أن يقرأ كتاباً للأئمة في دراستهم للأسانيد، فإن دراسة الإسناد لابد فيها من جمع طرق الحديث، وقبل أن يشرع لابد أن يقرأ نصب الراية للإمام الزيلعي فإنه يعطي طالب العلم طريقة الأئمة في تعليل الأحاديث، وقارن بين تصحيحات الآخرين لحديث تكلم فيه الزيلعي ، وبين كلام الزيلعي تجد أن كلام الزيلعي مختصر مفيد حوى عبارات وجمل وقواعد الأئمة كما قد قرأتها ودرستها، بحيث تعرف طريقة المتأخرين، وطريقة المتقدمين.
المتأخرون إذا جاءهم إسناد فإنهم يفتحون بعض كتب المتأخرين مثل: تقريب التهذيب، فإذا جاءه مثلاً الأعرج نظر قول الحافظ ابن حجر فيه فإذا هو يقول: الأعرج من الطبقة الثانية ثقة، فيقول الباحث: إذاً ثقة، ويأتيه في السند مثلاً أبو الزناد فإذاً هو فلان بن فلان ثقة، ومحمد بن سيرين ثقة، وأبو هريرة صحابي، إذاً الحديث إسناده صحيح، ولذلك عندنا إشكالات كبيرة في الاختصار للسند، وأنت عند فهمك للرجل لا تختصره بطريقة الحافظ ابن حجر، فإن الأئمة -وهذا الذي سوف نذكره- ربما يضعفون هذا الثقة إذا روى عن راو، أو يصححون هذا الضعيف إذا روى عن راو، وعلى هذا فلابد من معرفة الطبقات والأسانيد؛ لأن معرفة الطبقات والأسانيد من الأهمية بمكان، ولابد لطالب العلم بعد ذلك أن يحفظ سلسلة الأسانيد، فإن كل صحابي له سلسلة أو سلسلتان مشهورتان في الحديث، فإذا قيل لك: ابن عمر فإن من أشهر الأسانيد عن ابن عمر : مالك عن نافع عن ابن عمر ، ومالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
وإذا قيل: أبو هريرة فإن من أشهر الأسانيد عنه: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
وكذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة .
سعيد بن منصور عن أبي هريرة .
وبهذا يسهل على طالب العلم معرفة مدار الأحاديث بحيث لو جاءه حديث عن أبي هريرة يعلم أن هذا الحديث مداره عن فلان وفلان عن أبي هريرة ، وهذه الطريقة فيها كتب.
ولعل من أفضل الكتب في معرفة سلسلة الأسانيد إذا أراد أن يحفظها الطالب رسالة للشيخ الدكتور عادل الزرقي ، فإنه جمع أصح ما روي من الأسانيد عن ابن عمر وأصح ما روي عن أبي هريرة، وبين في هذه الرسالة أن ابن عمر يروى عنه كثر، ولكن الرواة المشاهير عنه اثنان: سالم بن عبد الله بن عمر ، و نافع ، وأصح الرواة عن نافع هم فلان وفلان وفلان، فإذا حفظت هذه السلاسل فإنها تنفعك إذا جاءك أحاديث متعارضة.
ولابد أن تعلم أن أصح الأسانيد عن قتادة ما جاء من طريق سعيد بن أبي عروبة و هشام بن حسان ، وهذا يسمى أصح الرجال عن الراوي، وهي مهمة جداً جداً لطالب العلم، بحيث يعرف ويعلم تصحيح الأحاديث، فأحياناً يكون الراوي ثقة لكنه إذا روى عن شيخ فهناك أوثق منه، فإذا اختلف الرواة نقول: أوثق الناس في الزهري مالك بن أنس ، و عقيل بن خالد ، و شعيب ، و يونس ، و الأوزاعي ، و ابن جرير ، وهم بالطبقة الثانية.
بعد زمن وأنت تبحث الأسانيد وتراجع تجد أنك قد حفظت أسانيد كثيرة، بحيث أنك لو قرأت مسند الإمام أحمد تعرف أن هذا الإسناد إسناد صحيح، وكلما كان الإسناد أقصر -وهو ما يسمونه إسناد عال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يكون بين المصنف والرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أو أربعة- كلما سهل عليك، وبهذا تعرف سلسلة الأسانيد.
بعد ذلك تحفظ المدارات يعني: هذا الحديث مداره على أبي هريرة عن طريق ثلاثة: أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وقلت: إن من أفضل الكتب رسالة للدكتور عادل الزرقي ، وكتاباً لأخينا الشيخ فهد العمار وهو كتاب ماتع في هذا الباب قدم له الشيخ عبد الله السعد، يستطيع من خلاله طالب العلم أن يميز بين مدارات الأحاديث.
ثم بعد ذلك يمسك بلوغ المرام؛ لأنه مخدوم، ثم يأتي إلى الحديث الأول، فيرجع إلى المراجع الأمهات لهذا الحديث، فمثلاً يكون رواه مالك و أبو داود و الترمذي ، يرجع إلى هذه الكتب ثم يجمع، الترمذي رواه عن فلان عن فلان، و أبو داود روى عن فلان، فمداره عن فلان.
مثال: إذا روى أبو داود حديثاً قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا محمود بن غيلان ، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال الترمذي : حدثنا فلان بن فلان عن فلان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، إذاً: اتفق أبو داود و الترمذي عند محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، فنقول: مدار الحديث رواه فلان وفلان، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وندرس هذا الإسناد وهو ما يسمى بعلم المدار.
فبهذه الطريقة يصبح طالب العلم بعد زمن بإذن الله محدثاً مدركاً عالماً بالتصحيح والتضعيف.
وأنا أقول: يشين بطالب الفقه ألا يكون ملماً بدراسة الأسانيد؛ لأنه لا يحب التقليد في الفقه؛ لكنه يقلد في الحديث، وأقول أيضاً: يشين بطالب الحديث ألا يكون مدركاً فاهماً للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يأتي بأقوال شاذة بسبب عدم معرفته للقياس وأقوال الأئمة؛ يقول بعض الناس: اقرأ صحيح البخاري ويكفي، لا، هذا لا يكفي، لابد أن يتتلمذ طالب العلم على كتب الفقهاء، بحيث يكون عنده الملكة الفقهية الأصولية.
ثانياً: مقدمة المجروحين لـابن حبان ، ثالثاً: مقدمة الضعفاء للعقيلي ، رابعاً: مقدمة ميزان الاعتدال للذهبي ، خامساً: مقدمة الكامل لـابن عدي ، سادساً: مقدمة الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم ، سابعاً: مقدمة كتاب تلخيص البدر المنير لـابن الملقن ، هذه مقدمات كتب مهمة جداً جداً؛ لأنها فواتح يستفيد منها طالب العلم، ولا أنسى مقدمة السنن الكبرى فهناك شروح عليها، وبهذا إن شاء الله سوف يوفق طالب العلم أن يكون محدثاً وفقيهاً، ولا يدرك العلم براحة الجسد.
إذا كان يلهيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟!
ولهذا يقال: إن جار الله الزمخشري كان يتتلمذ على شيخ هو وأحد أقرانه، وبعد أن كبرا في السن، قرينه انشغل بالتجارة، وكبرت تجارته وماله، أما جار الله الزمخشري كبر علمه ومحفوظاته، فاجتمعا يوماً في مجلس، فكان الناس يسألون الزمخشري فكان يتكلم كأنه سيل عارم، وكان زميله الذي يعرفه في زمن الطلب ينظر إليه بلهف، ويتمنى أن يكون هو في ذلك الموقع، فلما انتهى المجلس قال: والله لو كان لي أن أتمنى لتمنيت أن أبذل كل مالي لأكون في مثل هذا الموقف، فإن العلم شرف والله، فضحك الزمخشري وقال: غني صادق، فقال أبياته المعروفة، وهي ليست له، ولكنه أخذها:
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟!
فالعلم لا ينال براحة الجسد، ولا ينال العلم بقراءة في كتاب من كتب المصطلح اليوم، وغداً كتاب فلان، وأذهب إلى المكتبة وأبحث عن الكتاب وأشتريه، ثم أقرأ به اليوم، فهذه القراءة قراءة غير مركزة، غير تفصيلية، لا بد أن يكون لطالب العلم جدول، هذا الجدول يكون مثل الجدول الدراسي، بدلاً من أن يكون السبت: الحصة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، يقول: السبت: الفجر، الظهر، العصر، المغرب، العشاء، الأحد كذلك، الإثنين كذلك، ثم يكون عنده العلوم كلها، علم الفقه، وعلم العقيدة وعلم التوحيد، وعلم النحو، وعلم المصطلح، وعلم الأصول، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ويقسمها كلها ..، ويحفظ القرآن، ويحفظ المتون، فيجعل الفجر مثلاً للحفظ، والظهر يكون قد أتى من الجامعة وهو كليل الذهن فيجعله لقراءة كتاب في الأدب قبل أن ينام بحيث يستقيم لسانه؛ لأنه يعيب على طالب العلم ألا يكون عنده حصيلة ثرية من الألفاظ والعبارات بحيث يستطيع أن يعبر عما في نفسه؛ ولهذا يقول الإمام أحمد : كتبت بيدي أكثر مما كتب أبو عمرو بن العلاء ، و أبو عمرو بن العلاء متخصص بالعربية، وتعرفون طريقتهم، واليوم لو طلبت من طالب العلم أن يقرأ مختار الصحاح ما قرأه؛ بل إن بعض مشايخنا الفضلاء عندما ذكر بعض المشايخ أنه ينبغي لطالب العلم أن يقرأ القاموس المحيط للفيروزأبادي، قال: لا، هذا ليس للقراءة إنما هذا للبحث، فقد كان العلماء في السابق يقرءونه؛ لأن هذه القراءات تفيد وتنفع طالب العلم.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتقوى، وأعتذر لأن هذا أقل ما يقال فيه، وإلا فإن موضوع (كيف تكون فقيهاً) لا يصلح إلا للفقهاء، ولكننا متطفلون على بابهم، ولعلنا أن نحشر معهم، ولعلي أن أدخل وإياكم في قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ( يا رسول الله! الرجل يحب القوم، ولما يعمل مثل عملهم، قال: المرء مع من أحب )، فإننا بإذن الله نحب أهل الفقه وأهل الحديث.
ثم سأل أهل زمانه: من أعلم الناس بالحديث؟ فقيل له: مالك بن أنس، فذهب إلى أمه وأزال كل عهد الجاهلية في بيته وقال: يا أمي! أنا ذاهب إلى مالك بن أنس ، فذهب إلى مالك بن أنس، فكان من أصح الأسانيد في كتب الموطأ رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي، فلما قرأ وحفظ علم مالك أراد أن ينتقل إلى الكوفة ليحفظ من أحاديث شعبة ما عنده إلا حديثاً واحدً، قال: فلما دخل الكوفة جاءه نعي شعبة بن الحجاج فكان يبكي ويقول: عزائي أني لم أحفظ عنه إلا حديثاً واحداً كان هو سبب هدايتي.
الشاهد أن هذا الرجل طلب منه أهل الحديث أن يحدثهم، قال: أحدثكم بعد الفجر، قالوا: عندنا درس، قالوا له: قبيل الظهر، قال: عندي درس، قالوا: بعد العصر، قال: عندي درس، قال لهم: بعد المغرب، قالوا: عندنا درس، جدول مليء بالدروس، قال: فما هم وإياه حتى اجتمعوا في السحر قبل الفجر، هذا الوقت الذي ليس لهم فيه درس فخرجوا من بيوتهم، واستمروا في هذا الوقت يحضرون حتى قرأوا كتاب الموطأ عليه، قارن بين هذا ودروس الطلاب الآن، أول ما يقال: الشيخ الفلاني سوف يشرح كتاباً، تأتي وتنظر المسجد كله ممتلئ، هؤلاء ثلثهم محب للعلم، لكن ما عندهم جلد بل كسالى، وخمسهم محب للعلم، وهؤلاء بإذن الله سوف يوفقون، لكنهم يبتعدون شيئاً ويقتربون شيئاً، وثلثهم جاء لينظر من هذا الشيخ الذي يقول الناس عنه، فإن كان الدرس الأول جيداً وهو يحبه أعطاه من ألقاب الأئمة الكبار التي لا تكاد توجد في أحمد ولا البخاري، وإن لم يكن كذلك أو له عليه شيء قال: هذا يخطئ في كذا، هذا يلحن في كذا، هذا كذا وكذا، ولو نظرت لوجدت أن طريقة نقدنا لمشايخنا وطلبة العلم قد توجد في أئمة كبار، ولكن لم يضرهم ذلك إذا كانوا قد فقهوا مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: كتاب فقه الصحابة سوف يطبع إن شاء الله، وهو ليس بفقه كما هي كتب الفقه المعروفة، ولكنه فقه الصحابة جمعنا فيه أقوال الصحابة على طريقة المغني والأوسط لـابن المنذر فنقول مثلاً: اختلف الصحابة على قولين: القول الأول قول عمر، ونذكر الدليل بحيث يتعود الناس على أن الصحابة لهم فقه، وكيف صاروا عليه، وأنا ما أحب لطالب العلم أن يتعجل الطباعة؛ بل يبحث عنه، ويضعه عنده حتى إذا كبر يطبعه؛ لأن العجلة في الكتب ليست بمحمودة لطلاب العلم؛ لأنهم أحياناً يهتمون بكتب العصريين ويتركون كتب المتقدمين، والعجيب أن ابن شاس المالكي عندما ألف كتاب عقد الجواهر الثمينة، وهو ثلاثة مجلدات، المجلد الواحد لو ضرب به أحدنا لمات وصار قوداً، ومع ذلك حينما ألف هذا الكتاب -لأنه اختصر المدونة والنوادر والزيادات على فقه الإمام مالك- غضب الشاطبي على تأليف هذا الكتاب، وقال: إن هذا سوف يعود الطلاب على المهانة والعجز، ويجعلهم لا يقرءون الكتب الطوال كالمدونة وغيرها. رحمك الله يا إبراهيم الشاطبي يا أبا إسحاق ، أين هذا عن أهل زماننا؟! وأين نحن عنه، لكن بدأنا ننشغل بأمور ربما تؤثر في المستقبل.
ومشكلتنا الآن أننا نبالغ في وصف بعض وسائل التكنولوجيا أنها مؤثرة في الدعوة والتربية، والواقع أن لها زمناً، لكن التربية الحقيقية هي التي تكون في المساجد، تربية لطلاب العلم بحيث يلازمونك وتلازمهم، يعرفون أكلك وشربك، ضحكك ومرحك، طريقة عرضك وطريقة أسلوبك، هذه هي الملازمة الحقيقية، أما الملازمة عن طريق الفيسبوك أو التويتر، كيف أكلت، وكيف شربت مثلما يفعله بعض الإخوة فهذا لا يؤثر، بل إن هذا نوع من ملح العلم، صحيح أنه قد يؤثر على بعض الناس لكنه لا يؤثر على الذين سوف يكونون أئمة للناس؛ ولهذا ينبغي لطلاب العلم أن يأخذوا مثل هذه الأمور بشيء من الحكمة، فلا يتجاهلونها ولا يبالغون فيها؛ لأنها مهما بلغت ومهما كانت فإنها ستبقى وسيلة من وسائل الإعلام، والإعلام مؤثر للغوغاء، لكنه لا يبني رجالاً ولا أصحاب دهاء.
أما الكتب -الحمد لله- فهي تنمي الذاكرة، ولعل من أفضلها -يعني: العصرية- غير كتب ابن القيم ، و ابن تيمية ، و أبي عمر بن عبد البر ، و ابن رجب ، و ابن حجر، فهؤلاء كل كتاب لهم عليك بشرائه، لكن كتب المعاصرين قد يصعب على طالب العلم أن يجد كتاباً يعطيه بعض الرؤى، واسمحوا لي أن أقول هذه العبارة: إن بعض طلاب العلم يجبن أن يذكر بعض الكتب المعاصرة خوفاً من أن يقال: إن كل كتاب أثنى عليه هو تابع له، وهذا لا يلزم، ما زال الأئمة ينصحون ببعض الكتب مع أن فيها ما فيها؛ ولهذا الإمام الدارقطني رحمه الله حينما جاء أبا بكر الباقلاني وقبل رأسه، قام ناصر السنة الدارقطني يقبل رأس الباقلاني وهو من شيوخ الأشعرية؛ لأنه رأى أنه أجاد في مناظرته للمعتزلة، فنصر السنة بهذا الباب، مع أن الدارقطني ألف كتاب الصفات رداً على أبي بكر الباقلاني ، فإعطاء الناس منزلتهم فيما يحسنون ليس معناه أنهم يحسنون كل شيء، فالكتب كثيرة، لكن لعل من أهمها بعض كتب الدكتور أحمد الأميري ؛ لأن فيها نوعاً من المدارك في العقول: فن التفكير، تعالوا نختلف، وهي كتب جيدة، أحمد الهاشمي له كتب جميلة، الدكتور عبد الكريم بكار له بعض الكتب جيدة في الجملة، بعض الكتب العصرية لشهادة الماجستير والدكتوراه في الثقافة، كل الكتب في الماجستير والدكتوراه إذا رأيت أنها تخدمك فشراؤها جميل ومفيد بإذن الله سبحانه وتعالى، وكتب مشايخنا، كشيخنا عبد العزيز بن باز، وشيخنا محمد بن عثيمين، وشيخنا عبد الله بن جبرين، وشيخنا صالح الفوزان، هذه كتب مفيدة لطالب العلم، لكن أيضاً لا بد لطالب العلم أن يقرأ بعض الكتب الأدبية فإن قراءة الكتب الأدبية تفيد طالب العلم، وإن كان ثمة كتاباً فليقرأ شرح ديوان المتنبي فهو مفيد ونافع، والله أعلم.
الجواب: أما المبتدئ فيسمع المحاضرات وسينتفع إن شاء الله، وطالب العلم إذا أراد أن يكون موسوعة فهذا شيء، وإذا أراد أن يكون إماماً ومحققاً فشيء آخر، لابد أن يلم بكل الفنون، لكن هو بالخيار إما أن يبدأ بكتاب التوحيد إذا كان في الثانوية أو في الجامعة ولابد أن يحفظه، وأفضل شروح كتاب التوحيد للمبتدئ ثلاث كتب: للشيخ صالح الفوزان ، ولشيخنا محمد بن عثيمين ومختصر فتح المجيد لـإسماعيل بن عتيق ، وهو كتاب جيد مع أنه مختصر، وهو مفيد للغاية، والعقيدة الوسطية أفضلها ثلاثة كتب، كتاب شرح العقيدة الوسطية لشيخنا محمد، فإذا انتهى منه يقرأ التنبيهات للشيخ عبد العزيز بن رشيد ، إذا انتهى منه يقرأ الروضة الندية للشيخ زيد بن فياض ، ويقرأ المجلد الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس من مجموع الفتاوى، والأول والثاني والثالث والرابع من الدرر السنية، والمجلد الأول والثاني والثالث في مجموع الرسائل والمسائل، فهذه كلها تقوي طالب العلم في فهمه لمسائل العقيدة والولاء والبراء، والله أعلم.
الجواب: يقول: سبع سنين ما استفدت، والسبب عدم المنهجية، المنهجية مهمة جداً لطالب العلم؛ ولهذا تجد الإنسان مؤصلاً، وأحياناً ترى الناس طبائع، فبعض الناس لا يحب أن يأخذ المعلومة سطحية بل يحب أن يأخذ المعلومة من العمق؛ لأن طبيعته هكذا، وبعض الناس سلطات على طول.
الجواب: التتلمذ على الشيخ الفلاني لا ينبغي أن يكون من باب الزهو؛ ولهذا ما ندري أن فلاناً تلميذ على يد الشيخ إلا إذا مات! سبحان الله العظيم! إذا مات الشيخ جاء وقال: إنه شيخنا، وكان في المجالس، وكان شيخنا! طيب أين أنت؟ ما شفناك في درس الشيخ؟ فلا ينبغي أن يكون من باب الزهو والاستكثار؛ بل ينبغي أن يكون حقاً وحقيقاً، بحيث لو سئلت في كتاب الطهارة فأنت تعرف أقوال شيخك، في الصلاة تعرف أقوال شيخك، هذا هو التتلمذ، على كل حال: المتقدمون لم يكونوا يتساهلون في التتلمذ، لو أن إنساناً حفظ على راوٍ حديثاً واحداً يجعلونه من شيوخه، فالخطب في هذا يسير، حتى لو درس على الشيخ في الفتاوى الجواب الكافي، أو القنوات التي يذكر فيها الفتاوى بحيث يقيد أقوال الشيخ ويستدل له ويعرف أقواله فإن هذا نوع من التتلمذ، ولو أنه يسمع أشرطة الشيخ فإن هذا نوع من التتلمذ، والحمد لله.
الجواب: أنا عندي أن مختصر الصحيحين على نوعين: نوع للحفظ، ونوع لمعرفة الروايات وضبطها، أما بالنسبة للحفظ فإنه الجمع بين الصحيحين لشيخنا يحيى اليحيى ، أو مختصر المنذري ويضيف عليه ما زاد على مفردات مسلم من المتفق عليه ومفردات البخاري، وهذه طريقة جيدة إذ لا بد من البدء بالمختصر، ولا يحفظ الأسانيد ابتداءً.
وأما من أراد ضبط الصحيحين فأفضل كتاب هو الجمع بين الصحيحين لـعبد الحق الإشبيلي تحقيق غمد الغماس .
الجواب: أنا قلت: يضع له جدولاً، الآن مثلاً أنت في المدرسة تدرس نحواً وتدرس حديثاً، وتدرس مصطلحاً لماذا ما صار هذا تشتيتاً؟ ولا تنسوا الطريقة التي يقولون عنها التدرج، وهذه ليس معناها أنك تمسك متناً حتى تنتهي منه فقط، هذا ليس طريقة ناجحة، الحافظ النووي رحمه الله مات وعمره ثمانية وثلاثون سنة، أو قيل اثنان وأربعون، أو قيل خمسة وأربعون! واليوم الواحد عنده اثنا عشر درساً، أنت قادر بإذن الله لا تعش جلد الذات، ولا تنظر إلى المتخاذلين يريدون أن يخذلوك، فيقولون: هل تظن أن الأمة ستنتفع بك؟! كل هؤلاء اتركهم، وللعلم فإن كثرة الصحبة في الطلب أحياناً مضرة.
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
لا تستكثر من الصحاب، واحد اثنين ثلاثة هم الذين معك، يكون لكم درس تقرءون في البيوت، ثم جلسة ليلية، تتذاكرون ما قرأتم، مع حضور دروس المشايخ، مع البحث؛ لأن البحث مهم لطالب العلم، والبحث سيكون له محاضرة كاملة.
أنا أقول: حينما أسمع فتوى بعض المشايخ أعرف أن الشيخ أخذها بالبحث أو أخذها بالتلقي، الذي يأخذها بالبحث يكون مطمئناً لقوله، يستدل بها وكأنه يراها مثل الشمس، وإذا نوقش فإن له جواباً على كل شيء، فهذا مطمئن على اختياره للقول الذي يقول به، وأما غير المطمئن فإنك إذا ناقشته يقول: قال به فلان، وشيخنا ابن باز يقول كذا، وشيخنا ابن عثيمين يقول كذا، إذاً هو غير مطمئن، بل هو مقلد للفتوى متبع للفتوى، وفرق بين الأمرين، فانظر لنفسك هل أنت تريد أن تكون متى ما سئلت تقول: هذا قول فلان، أو تريد أن تكون إذا سئلت تقول: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو قول فلان وفلان، والفرق بين الأمرين واضح، وانظر أيضاً هل تريد أن تكون لا تعرف مسألة إلا وتعرف مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فيها مع معرفة أقوال الأئمة؟ اعلم أن هذا يتطلب منك جداً واجتهاداً وبذلاً وتضحية، وبإذن الله سوف تناله.
ومن قال: أنا سوف أكون مثل العالم الفلاني فإنه قطعاً سيكون أقل منه، ومن قال: أنا سوف أكون مثل ابن تيمية سوف يدرك أكثر من أهل زمانه بسبب أن همته عظيمة، والذي يقول: أنا فقط أهم شيء أني أبني بيتاً، أو أشتري شقة، أو يقول: أنا سوف أبني لي فلة مثل فلة فلان فهذا لا تجده يحصل شيئاً كثيراً؛ لأن الهمة دنيئة.
نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماما
الهمة هي التي تغير؛ ولهذا ما أسرع الفشل من النجاح. فبعض الناس يحدث نفسه بأنه سيحصل على الماجستير أو الدكتوراه أو الجامعة، فإذا انتهى رجع إلى أرذل العلم؛ ولهذا ترى بعض زملائك في الجامعة كان يشار إليهم بالبنان، والناس تتطلع إليهم، ثم بعد ذلك يتخرج من الجامعة ويأخذ الماجستير ويأخذ الدكتوراه ثم ينطوي على نفسه ولا يراجع العلم ولا يفتح الدروس، شيئاً فشيئاً ثم شيئاً فشيئاً.. بعد ذلك قد يجمع بينك وبينه مجلس فيسألك بعض المسائل الصغار التي يعرفها الكتاتيب؛ لأنه نسي العلم، ولو كان دكتوراً؛ لأنه في الجامعة يأخذ متناً ولا يشرح منه إلا كتاب النكاح، أو لا يشرح إلا كتاب المعاملات، أو لا يشرح إلا كتاب العبادات، وهذا ديدنه، فلا يكون طالب علم فقط؛ بل إذا لم يكن مستحضراً مستذكراً فاتحاً الدروس لطلاب العلم، لأن هذه نعمة من الله، ولا تظن أنك تنفع طلاب العلم فقط، بل هم ينفعوك أيضاً حينما يسألونك وهذه نعمة من الله. حينما يرن جوالك يا طالب العلم للفتوى هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولا تكن ممن قال الله فيهم: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، كما لم تؤمن بفائدة العلم؛ ولهذا ما أكثر من حمل شهادات الدكتوراه وهم أهل لأن يقوموا بتبليغ الرسالة وتبليغ العلم وبيان العلم لكن قليل نفعهم، جامعات تخرج دكاترة فيأتي طالب العلم يريد أن يشرح له كتاباً لا يجد من يجلس ليعلمه.
والله إني لأتعجب حينما أرى الدكتور كلما كثر الطلاب عنده في الفصل تضايق وقال: كيف يفهم هؤلاء، وإذا قلوا في درس المساجد تضايق، عجباً له والله! أليس هذا هو الواقع؟ إذا كان في المسجد وقل الطلاب تضايق يريد أكثر، وإذا كان في الجامعة كثر الطلاب تضايق، إذاً لابد أن يعيد الإنسان نظره في هذا الأمر ولا يكون ممن أعطي نعمة فكفرها والعياذ بالله.
الجواب: مسألة تربية الناس على القول الراجح مهمة؛ لكن هل القول الراجح كتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا، القول الراجح من رجحه؟ أنا أو أنت أو فلان وفلان، إذاً لابد أن تكون تربية الناس ليس على القول الراجح، وإنما تربية الناس تكون على تصوير المسألة وبيان الدليل، والحمد لله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، فكوننا نعلم الناس الفتوى وأن الدليل كذا، وهو قول فلان أو فلان، يتربى الناس ويعلمون أنهم على هدى، ولكن إذا قلنا: إن هذا القول قول فلان، نقول الحمد لله تراه ما يقول إلا الحنبليات، وليس قول كذا، لماذا لا يتربى الناس على تعظيم النص؛ لأن فلاناً يخطئ ويصيب، وفلاناً يصيب كثيراً ويخطئ قليلاً، وفلاناً يخطئ كثيراً ويصيب قليلاً، تربية الناس على تعظيم الكتاب والسنة هو المطلوب؛ ولهذا أقول لكم بحق شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين والشيخ عبد الرحمن بن سعدي لهم فضل علينا، عودونا التتلمذ على الدليل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لها فضل علينا حينما عودت الطالب على فهم الكتاب والسنة، وإن كان هناك خلل وهذا طبيعي جداً، في السابق ما كان يعرف إلا الكتاب، أما الآن فنحن في خير وفي نعمة، ونحن دائماً نصور المجتمع على أنه مجتمع فيه انحطاط، مع أن الأمة فيها خير، والله العظيم أن الأمة فيها خير، لا يكون حالنا دائماً الندب وجلد الذات، وإذا تحدثنا تحدثنا عن المنكرات، ولا نرى إلا الشيء الغير محمود، عود نفسك دائماً أنك تمدح من أصاب وتذم من أخطأ، لا تكن حياتك دائماً نقداً، أنا أرى أن الذي يكثر النقد إنسان فاشل؛ لأنه يخاف أن يُنقد فيبقى منتقداً، امدح من يستحق المدح، وتكلم على من يستحق الذم، ولا تكن حالك حالة واحدة، تذم فلاناً وتمدح فلاناً فقط، فإذا أصاب الذي تذمه تقول: هذه قطرة من بحر أخطائه، لا، كن إيجابياً تثني على من يستحق الثناء، فالرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الكفرة، أثنى على النجاشي، وأثنى على سهيل بن عمرو قبل أن يسلم، فلابد أن يكون عندك إنصاف.
مرة من المرات أحد أبنائي قال لي كلمة والله العظيم أنها أخذتني فعلاً، قال: إذا اجتمعنا وتكلم واحد منا عن فلان يثني عليه أنه ما شاء الله عليه فيه كذا وكذا، فإن كل من في المجلس يسكتون، وإذا تحدث واحد يسب فلاناً فكلهم يشاركون.
نحن لماذا نعود أنفسنا على النقد؟ يا إخوان! إثارة الإيجابية هي المطلب، هي التي تحيا في الناس؛ لأننا حينما نحيي في الناس النقد فإن هذا يقلل من الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان يخاف أن ينقد، فإذا قيل له: تكلم، قال: لا، يوجد الشيخ الفلاني أخاف أن يقولوا عني كذا، خل الناس وتذكَّر الله سبحانه وتعالى، وانشر العلم، يا أخي! دعاة في السابق كانوا يتحدثون ومن المعروفين بالدعوة، والله لو يأتون اليوم لا يصلح أن يكون الواحد منهم ولا بالمتوسط، لكن نفع الله بهم نفعاً عظيماً، الآن طلاب العلم كثر، والمعرفة بالكتاب والسنة كبيرة، لكن الدعوة قليلة؛ لأن هذا الطالب يخاف أن ينقد، فنحن لماذا دائماً نخاف من النقد؟
عندما كنا في الحج -وهذه من الغرائب- خرجنا في حج هذه السنة، وكان هناك بعض الحملات، وكان عددنا في الحملة خمسة آلاف، مشت الأمور على أحسن حال، لكن تعود الناس إذا رجعوا من الحج ألا يذكروا إلا الخطأ، وفي مزدلفة يتصل على أهله متى وصلتم؟ ونحن وصلنا الساعة الفلانية، ومتى رميتم؟ نحن رمينا الساعة الفلانية، وهذا لا ينبغي أن يكون هو حالنا، كنا في الحج فخرجنا من عرفة وركبنا القطار، وتذكرون ما صار للقطار من سب وأضحوكة وغيره، صار من أفضل الأشياء التي كنا نتصور خلاف ذلك، ركبنا القطار ونزلنا من القطار وكل شيء على ما يرام، صار مخيم الإخوة وراء ثلاثة مخيمات، الطريق جديد المحطة جديدة، فكان هناك رمل قصير، وفي بداية جلوسنا في المخيم جاء رجل وقال: والله يا أخي! إنهم أخطئوا، أنا ضحكت فقلت: ما الذي أخطئوا فيه؟ قال: يا أخي! هذا الطريق الآن المرأة ما تقدر تمشي فيه، قلت: طيب! حينما خرجنا من منى إلى عرفة ما رأيت حسناً؟
الشاهد هو لماذا نعود أنفسنا دائماً على هذا؟ وهذا قد يبني طالب العلم، ويبني ابنك، ويبني أختك، ويبني المجتمع فيكون حالهم مبني على النقد، لا يا أخي الأصل الإيجابية، (لا تسبه فإنه يحب الله ورسوله)، الإيجابية هي المطلب؛ لأنها تبني، أما النقد فهو يهدم، مثلاً الزوجة لو أنها تصلح لك طعاماً قلت: هذا مالح وهذا حلو، وهذا ديدنك كل يوم، فإنها تقول لك بعد ذلك: اشتر من المطعم نحن ملينا، لكن إذا قلت: هذا الطعام ما ذقت مثله قط، غداً سوف تأتي لك بطبخ أفضل.
يا أخي! أنا أتعجب لماذا لا نربي أبناءنا على الثناء المنضبط؟! لماذا الطالب دائماً يخوف من الرياء، يخوف من العجب؟ إذا كان الطالب صغيراً حسن الصوت تجد أن القيم عليهم إذا جاء وقت الأذان أو وقت الإقامة، يبحث عن أسوأ واحد صوتاً فيهم ويقول: فلان قم أذن بنا، وكأنه حرام على هذا الحسن الصوت الذي يحسن الأذان والإقامة أن يؤذن، لماذا نربي أبناءنا على هذا؟ وإذا قيل للمربي: لماذا تصنع هذا؟ قال أنا لا أريد أن يعجب بنفسه، يا أخي! دعه يعجب بنفسه، تعلمنا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد.
المغني من يوم وهو صغير عمره أربع سنوات، يقال له: قم سوف تكون فلاناً وفلاناً وفلاناً، فيغني ويغني حتى يحسن صوته ويظهر وهو مغني، ساذج ما فيه خير للأمة، فما بالك بهؤلاء الشباب لماذا لا نربيهم ونشجعهم، فلابد من أن نربي أبناءنا ونشجعهم ونثني عليهم، يا أخي! محمد صلى الله عليه وسلم أثنى على رجل وقت إسلامه فقال: ( من دخل دار
الآن أقولها لكم بحق، لو أنك تقول لي: محاضرتك سيئة، وأنت أخطأت في كذا وكذا وكذا وكذا، لو يقول لي: يا عبد الله السنة القادمة نريدك أن تلقي محاضرة، أقول: لا، ما أنا بملق عندكم محاضرة، هذه طبيعة نفسية، الآن خطيب الجمعة قد يخطب الجمعة والناس تصلي وتخرج، قد يخطب خطبة عصماء أفاد فيها وأجاد وتعب أسبوعاً كاملاً يكتبها، عظيم أن نرسل له رسالة بارك الله فيك! وكثر الله من أمثالك، لقد أعجبت بخطبتك؛ لكن لو يذكر حديثاً ضعيفاً يقال له: السلام عليكم! ذكرت حديثاً وهو حديث ضعيف، راجع الكتاب الفلاني لماذا؟ هذه حياته دائماً، وتجد لو يخطئ إماماً في طريقة السلام تجد أن الذي يراه ينتظر متى يسلم حتى يقول له، ولو رآه سلم وخرج وهو يتسنن أسرع في الصلاة وسلم ليلحق به، فلماذا محبة النقد؟ ولو أصاب في مسح رأسه لقال: الأصل أنه يصيب! الناس بحاجة إلى ثناء وذكر حسن، عندما كنت أتحدث عن هذه النقطة فتكلمت عن الخطبة، قال لي خطيب: يا شيخ! والله إنك قلت هذا الكلام ووقعت على الجرح، والله إنني إذا ألقيت الخطبة وأثنوا على خطبتي عرفت أن جهدي لم يضع، والله إني حينما أذهب إلى بيتي أستعد للخطبة التي بعدها، وإذا نقدت قلت: يا رجال يوم الخميس في الليل، أو صبح الجمعة أروح أدخل على المنبر وأطبع لي خطبة والحمد لله، شفت الفرق! الإيجابية تزرع وتبني.
أنا أذكر لكم قصة بسيطة جداً جداً، أنا أول ما حضرت دروس المشايخ بثالث متوسط أو بأولى ثانوي ما كنت أعرف إلا أحفظ القرآن وبس، فقال لنا مدير التوعية الإسلامية في المدرسة: أنا أريد أن أحضر درساً، فقال: إذا انتهيت من الدرس سوف أرجع لكم، قال الإخوة وكنت أنا من أصغرهم: نذهب كلنا إلى الدرس، وإذا جاء المغرب حضرنا وانتهينا ثم نرجع نكمل النشاط الطلابي، حضرنا وإذا الشيخ يشرح حديث بلوغ المرام، ثم قال: أخرجه مالك ورواه البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي ، أعجبت بهذه النغمة: البخاري و مسلم قال صلى الله عليه وسلم، فمن يومها أحببت الحديث، وبدأت أحفظ في الحديث، فهذه نعمة من الله من هو سببها؟ الذي قال لنا: نحضر الدرس، والشيخ الذي حضر الدرس، فأنت ما تدري لعل كلمة تكون هي سبب هدايتك ومحبتك للعلم.
حضرت في أولى ثانوي محاضرة لشيخنا محمد بن عثيمين في القصيم في مركز الملك خالد إلى يومي هذا أذكرها، فكانت محاضرة الشيخ أحكام الصيام، وكنت صغيراً، الشيخ كان في المسرح الذي يسمى المنصة، عندما انتهى من المحاضرة قمنا جميعاً إلى الشيخ نسلم عليه، عندما ذهبت إلى الشيخ سلمت عليه، والشيخ كان في الكرسي وأنا أتيته من جهة يمينه التفت إلي الشيخ وقال: هلا هلا، وضحك ضحكة شيخنا محمد المعروفة، فسلم عليّ وبدأت أقبله، قال: ويش لونك يا وليدي عساك طيب كيف الحال؟ أنا رجعت من المحاضرة وقلت للشباب الذين معي بالحلقة: والله إن الشيخ محمد يعرفني، قالوا: كيف؟ قلت: سلم علي سلام حار أكيد أنه يعرفني، والذي عرف محمد بن عثيمين بـعبد الله السلمي ، لكن السلام هذا أثر في تأثيراً كبيراً، وذهبت أشتري كتب الشيخ محمد .
ولهذا أنا أقول: أول شيخ تتلمذت عليه وله فضل عليّ شيخنا محمد بن عثيمين فكل الكتب التي طبعت أخذتها وقرأتها وتأملتها وحفظتها ولله الحمد، فكأن الإنسان يعرف أن الثناء الحسن له فضل على العالم وعلى طالب العلم، فيربي الإنسان طلابه على هذا الأمر؛ لأن التربية بالثناء مهمة جداً في زمن كثرت فيه الملهيات، وكثرت الانحطاطات، وكثرت الانتكاسات، وكثر الحور بعد الكور، فنحن بحاجة إلى تشجيع الناس وإظهار ثنائهم؛ لأننا بحاجة إلى مثل هذا أيها الإخوة، وتعزيز هذا في نفوس الناس مهم جداً جداً.
نسأل الله الهداية والتوفيق، ولعل في هذا كفاية، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر