إسلام ويب

كيف تكون فقيهاً ومحدثاً -2للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أجل النعم وأعظم المنن التي من الله بها على من شاء من عباده تعلم العلم وتعليمه، ومن ذلك أن يصبح المسلم فقيهاً محدثاً، فينبغي لمن أراد أن يصل إلى هذه المكانة أن يعرف طريقة العلماء في استخراج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة، وأن يقوم بحفظ المتون الصغيرة في علم الحديث، ثم يقوم بدراسة علم مصطلح الحديث، ويفهم طريقة السلف في دراسة الأسانيد عند تخريج الأحاديث، وأن يحفظ رجال الإسناد الذين عليهم مدار الأحاديث، وعند تحقيقه لذلك كله يستطيع الحكم على الحديث.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة! نستكمل الموضوع السابق: كيف تكون فقيهاً.

    نحن ذكرنا القواعد المنهجية للتفقه في الدين، وتبقى الممارسة العملية بحيث يختار طالب العلم متناً من متون الفقه على حسب كل مذهب، ولعل من أفضل كتب المختصرات للحنفية مختصر القدوري، أو الدر المختار، وفي المذهب المالكي مختصر خليل، أو مختصر المنهاج، أو المنهاج للنووي عند الشافعية، أو زاد المستقنع عند الحنابلة.

    أما طريقة التتلمذ فيها فإننا سنوضح ذلك بذكر مثال، كتاب الزاد مثلاً أول باب منه باب المياه، يقرأ هذا الفصل الأول مرة، مرتين، ثلاثاً، أربعاً، خمساً، بحيث يسقط كل جملة، وإذا كان هناك شروط يحفظها، فإن استطاع أن يحفظ سريعاً فالحمد لله، وإلا فإن أهم شيء هو الفهم، بحيث لو أراد أن يعبر فإنما يعبر من كلام الفقهاء وليس من كلامه هو، فإن من الأخطاء أيها الإخوة أن شروح المشايخ تعبر لطالب العلم للفهم ثم يأتي الطلاب فتخرج على سبيل المذكرات، ثم على سبيل الكتاب، ثم يطبع الكتاب، وليس فيه الصيغة الفقهية التي تداولها الأئمة، وينبغي أن يكون الشرح شيئاً، والكتاب الذي يطبع شيء آخر، بحيث لا تذهب السليقة الفقهية لدى طلاب العلم جيلاً بعد جيل؛ ولهذا تجدون أن مشايخنا الكبار حينما كانوا يتعلمون ويقرءون على الشيخ، يشرح الشيخ شرحاً بسيطاً، وكان الطالب يمسك الكتاب الأصل ويذهب إلى الشيخ، أما الآن فأكثر اهتمام الطلاب بشروح المشايخ في الجامعات وغيرها، فتقل السليقة الفقهية، والعبارة الفقهية التي هي أمتن.

    فإذا قرأ الطالب هذا المتن ينتقل بعد ذلك فيقرأ شرحاً لشيخ من المشايخ، وينبغي أن يكون هذا الشيخ ملماً بالدليل؛ لأن العبرة ليست أن نعرف مذهب فلان أو علان فقط، العبرة بأن نتربى على الدليل، ولعل من أفضل شروح الزاد الشرح الممتع لشيخنا محمد بن عثيمين ؛ لأنه يبين مراد المؤلف ودليل المؤلف، ثم بعد ذلك يبني في الطالب الملكة الفقهية في طريقة الاستنباط، فالشرح الممتع يعتبر أصلاً، فإذا قرأ كتاب الشرح الممتع حفظ دليل المؤلف، وحفظ دليل الشيخ إذا كان القول الراجح، ثم يمشي على هذه الطريقة، فإذا انتهى من كتاب الطهارة مثلاً يرجع مرة ثانية يتأمل فيه ويقرأ.

    ثم يأتي للمرحلة الثانية وهي إذا بلغه عن ابن تيمية قولاً في هذه المسألة يذهب ويعلق على المسألة التي في باب المياه، ويقول: واختار ابن تيمية القول كذا، ويرجع إلى الأصل، أين اختاره ابن تيمية ؟ يقول: راجع الاختيارات راجع مجموع الفتاوى صفحة كذا، وإذا بلغه أن أبا عمر بن عبد البر يقول في المسألة كذا يذهب ويقول: وقال أبو عمر بن عبد البر ويضع قوساً وينقل الكلام، تجده بعد خمس سنوات يكون كتاب الطهارة عنده أغلى من كل شيء، ولو طلب أن يباع له بأعلى الأثمان لما باعه؛ لأنه صار عنده ثروة من أقوال الأئمة المحققين ممن يهتم بهم، إذا بلغه أن شيخنا ابن باز اختار كذا أو اللجنة الدائمة اختارت كذا ودليلهم كذا، فيكون قد عرف الدليل.

    المرحلة الثالثة: وهذه تتأتى بعد سبع أو ثمان سنوات من هذه الممارسة، يبحث كل مسألة وينظر هذه المسألة من قال بها؟ ثم يذهب للمغني أو المجموع، أو البيان للعمراني، أو غير ذلك من كتب الخلاف، أو لأصحاب المذاهب، بحيث يعرف دليل مالك ودليل الشافعي ودليل أحمد فيتربى على أدلة الأئمة، فإذا انتهى من هذا الباب عرف ما أصل مالك في هذا القول، فيكون عنده دربة عشر سنوات فيعلم أن مالكاً يبني أصله في المياه على كذا؛ ولهذا تجدون النووي رحمه الله يختصر لك فيقول: هذا الباب مبني على خمسة أحاديث، مثل: باب سجود السهو مبني على خمسة أحاديث، باب الحيض مبني على كذا حديث، فيريد أن يؤصل لك هذه المسائل.

    إذاً التربي على أدلة الأئمة وأقوالهم تعطي طالب العلم ملكة فقهية كبيرة جداً؛ ولهذا الذي يتربى على مذهب واحد خاصة من غير دليل ليس بفقيه، وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على أن الذي لا يعرف أقوال الأئمة بدليله ليس بفقيه، فإذا تربى على هذا يكون كأنه تتلمذ على مشايخ كثر؛ ولهذا يقول إبراهيم الحربي وهو من أصحاب أحمد ومن تلاميذه: سمعت من أحمد مسائل دقاق، يعني: مسائل غريبة ما يعرفها أهل الحديث في وقتهم، فقلت: يا أبا عبد الله ! مم ذاك؟ يعني: من أين لك هذه المسائل؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن، إذاً: الحنفية عرفوا بتفريعات المسائل، فإذا تربى طالب العلم على الدليل وعلى القياس وكيف يفرع المسائل شيئاً فشيئاً فإنه سيكون إماماً؛ ولهذا حينما درس الإمام الشافعي مع ذكاء حاد وفطنة وحفظ على مدارس الأئمة: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ألف كتاب الرسالة، فليست المسألة مسألة حضور دروس فقط، لا؛ بل لابد من جلد في المكتبة، وأنا إذا دخلت مكتبة طالب العلم ووجدتها مرتبة ومنمقة عرفت أنه لا يقرأ، وإذا وجدت مكتبة طالب العلم مرتبة وفتحت كتاباً منها فوجدته واضعاً ورقة وكتاباً آخر معلقاً عليه، عرفت أنه طالب علم متمكن، وإذا دخلت مكتبة طالب علم وجدت الكتب متناثرة فعرفت هذا كتاب جديد وهذا كتاب جديد، عرفت أن الطالب لا يحسن أن يجمع الكتب ولا يحسن أن يقرأ هذه الكتب، فالمسألة بحاجة إلى تروٍ وتأنٍ.

    يقول الشافعي رحمه الله: كتبت بيدي من مسائل محمد بن الحسن حملي بعير، تعرفون البعير إذا صار فيه هذا المزود؟ هذا الذي هو حمل، فالذي كتبه الشافعي حمل من هنا ومن هنا حملي بعير أين هذه الكتب؟ هذه الكتب هي التي قرأها وأخرج لنا كتابه الأم.

    يقول: كنت أكتب مسألة محمد بن الحسن وأجمع فيها ما جاء فيها من الآثار، وهذه نسميها نحن مسودات لطالب العلم، هذه تنمي طالب العلم بالكتابة؛ ولهذا شيخنا محمد بن عثيمين أخرج كتباً كثيرة، من كتبه مختصر زاد المعاد، مختارات مغني اللبيب، مختارات إعلام الموقعين، فيقرأ الكتاب ويعلق عليه ثم يتحفظ أقوال الأئمة، وشيئاً فشيئاً سيكون بإذن الله إماماً بعد فترة يشار إليه بالبنان، نسأل الله التوفيق والتسديد.

    وبهذا يكون قد جمع مادة علمية، وعرف أقوال الأئمة.

    وينبغي لمن أراد أن يبحث في الفقه ألا يفته كتاب المغني وكتاب المجموع، وكتاب المنتقى للباجي ، وكتاب الحاوي الكبير للماوردي ، وكتاب فتح الباري لـابن رجب و ابن حجر، ومجموع الفتاوى لـأبي العباس بن تيمية ، والاستذكار والتمهيد لـأبي عمر بن عبد البر ، وتحقيقات ابن القيم رحمه الله، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، وبدائع الصنائع للكاساني ، أو المبسوط للسرخسي، ولو لم يكن عندك إلا هذه المكتبة لكفتك بإذن الله؛ ولهذا يقول الإمام ابن عبد السلام: ما تجرأت للفتيا حتى كان عندي كتاب أبي محمد بن قدامة يعني المغني، فإذا كان عندك المغني، والتمهيد والاستذكار، والسنن الكبرى للبيهقي مع تنقيحات واختيارات وفقه ابن تيمية مجموع الفتاوى، و ابن حجر أو ابن رجب في فتح الباري لهما، والمجموع للنووي، والبيان للعمراني ، والحاوي للماوردي ، والمنتقى للباجي ، وبداية المجتهد لـابن رشد بحيث يعلمك طريقة معرفة سبب الخلاف وثمرة الخلاف، إذا اشتريت هذه الكتب وراجعتها شيئاً فشيئاً بإذن الله سوف تجد فائدة كبيرة جداً جداً أكثر من أن تجمع الكتب وربما لا تراجعها سنين عديدة.

    هذا استكمال لموضوع كيف تكون فقيهاً، وهناك نقاط كثيرة، لكني قلت بدلاً من أن نذكر المنهجية يكفينا أن نذكر هذه المنهجية، ثم نبدأ بالطريقة العملية فيها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534705

    عدد مرات الحفظ

    777184208