عفو أبي بكر الصديق عن عمر بن الخطاب
موقف الإمام مالك ممن اعترض على تأليفه للموطأ
مالك بن أنس ألقي مهابة ومحبة في قلوب الخلق، كان رحمه الله حسن البزة، حسن الهندام، حتى إن بعض العباد كتب له كأنه يستنكر اهتمامه بذلك، لكنه رحمه الله ورضي عنه كان قلبه معلقاً بالله سبحانه وتعالى، كانت محبته للناس، كان صدقه لله سبحانه وتعالى في كل ما يأتي ويذر، عندما ألف كتاب الموطأ وهو شاب صغير، قال بعض العلماء الذين يكبرونه: ما يصنع
مالك في موطأ كهذا، وهناك من هو خير لنا من
مالك ؟! يعنون بذلك
ابن أبي ذئب إمام أهل مصر، قال: فجاء الطلاب إلى
مالك فسألوه، فقالوا: إن الناس يقولون: ما يصنع
مالك بموطئه؟ وقد ألف من هو خير من
مالك ، فكان
مالك لا يتكلم، ويقول: ما كان لله يبقى. انظر الصدق، ما يؤلف الواحد كتاباً إلا يقصد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، ليست كلاماً يقال بالألسن، إنما أردت في المقدمة: ولولا اهتمام بعض إخواننا الذين لا أستطيع أن أخالف أمرهم، ثم يعطيك بعض الكلمات فالذي يعرفه ربما يعلم أنه غير صادق لا يكون صادقاً بذلك، أما
مالك فقال: ما كان لله يبقى، قال
الذهبي في السير: وبقي كتاب
مالك ، ولا يعلم موطأ غيره، هل تعرفون موطأ غير موطأ
مالك ؟ إنما هو موطأ
مالك .
ثم يمتحن في صدقه، ومحبته لإخوانه، فيقول أبو جعفر المنصور : يا مالك ! ألف لنا كتاباً، ووطئه لنا، وقيل: إنه حينما ألفه قال له: سوف أجعله حجة بيني وبين الخلق، قال مالك : لا يا أمير المؤمنين! إني والله لا أحب ذلك، قال: لم؟ قال: فإن الناس تفرقوا في البلدان، وفي القرى، فربما بلغهم عن محمد صلى الله عليه وسلم سنة لم نبلغها، فدع الناس وما هم عليه، والله! لو أن أحداً قيل له: سوف يوضع كتابك ويقرأ في الصحف، أو في الإذاعات -وقد يوجد كتب أعظم منها- ربما لا يقول ذلك، أما مالك فقال: لا يا أمير المؤمنين.
موقف علي بن أبي طالب في خلافه مع طلحة بن عبيد الله
لقد حدثت بين الصحابة بعض الخلافات، وكان كل واحد منهم ينشد الحق ولم يرد عرضاً من الدنيا، ولم يرد الرياسة ولا الجاه، فقد حصل بين
علي بن أبي طالب و
طلحة بن عبيد الله و
الزبير بعض الاختلاف، لكنهم كلهم ينشدون الحق، وتقع معركة حينما يؤجج المنافقون هذه القضية، فتقع فتنة معركة الجمل، ولكن
علياً كان ينشد الحق، و
طلحة كان ينشد الحق، و
الزبير كان ينشد الحق، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة.
ومع هذا الاختلاف ترفع السيوف، وكل واحد منهم يعتذر لأخيه، تنتهي المعركة فيقول علي رضي الله عنه: هبوا لي طلحة بن عبيد الله ! ابحثوا لي عن طلحة بن عبيد الله ، قال: فبحثوا فلم يجدوه من ضمن القتلى في المعركة، قالوا: يا أمير المؤمنين! والله! ما وجدناه، قال: هبوا لي طلحة بن عبيد الله ، قال: فبحثوا فوجدوه قد هرب من المعركة، فلحقه أحد المنافقين فطعنه في صدره، فإذا صدره يثعب دماً، فأخذه علي رضي الله عنه، وضمه إلى صدره وقال: عزيز عليّ أبا محمد! أن أراك مجندلاً في بطون الأودية، إلى الله أشكو عجري وبجري، ويدخل علي بن طلحة بن عبيد الله على علي بن أبي طالب ، فيقول علي بن أبي طالب : يا علي! ادن. فيدنيه، فيضمه ويقول: والله! إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
[الحجر:47].
أيها الأخ! راجع شريط ذكرياتك، فلربما كان بينك وبين بعض أصحابك في عملك، أو في وظيفتك، أو في مسجدك بعض الاختلافات، وربما أحببت استنقاصه في المجلس، فاعلم أخي! أن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء، ولا من أخلاق المؤمنين.
نبل تعامل الإمام أحمد مع من جلده في فتنة خلق القرآن
هذا
أحمد بن محمد بن حنبل الإمام الذي نال منزلة عظيمة مرموقة في قلوب الخلق، حتى إن
علي بن حزم أبو محمد إذا أراد أن يرد على خصومه من الفقهاء كان إذا وافق
أحمد يقول: وهو قول
أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، أما إذا خالفه كان لا يذكر
أحمد أصلاً في المسألة، كل ذلك تعظيماً لـ
أحمد وما حباه الله في منزلة الخلق، وفي الحديث: (
إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض ).
هذا القبول في الأرض لم يكن ليتأتى إلا بالصدق، ومحبة الخلق والاعتذار لهم. كان أحمد بن حنبل يضرب ثمانية وعشرين سوطاً حتى إن المعتصم كان يأتي بالشرط الذين أعضادهم كبيرة، فيقول: اضرب، فيضرب، ويضرب حتى إذا كلت اليمنى أخذ اليسرى، حتى إذا كل يأتي الثاني والثالث والرابع و أحمد يقول: يا أمير المؤمنين! آية أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيخرج من السجن بعد أن أعلى الله كلمته وقوله. يقول ابنه صالح : والله إني كنت لأضع كفي على بعض الفجوات فكان لا يستطيع أن يتكئ كما تتكئون فكان يجلس جلسة القرفصاء، والناس يسألونه ويجيبهم، قال: وإذا رجل في آخر المسجد حسن البزة والهندام، قال: فلما نفر الناس عن أحمد أقبل هذا الرجل وجثا على ركبتيه، فقال: السلام عليك أبا عبد الله ! قال أحمد ورفع رأسه: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أبا عبد الله ! استغفر لي، قال أحمد : أخي مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشرط الذين ضربوك لأجل خلق القرآن، لكن الإمام أحمد لم يجعل هذا الخلاف حائلاً بينه وبين الرجل جاء أخوه تائباً، فلم يجعل الخلاف مسألة شخصية، ولم يجعل حظوظ النفس تدخل بينه وبين أخيه، ولم يقل وكان له أن يقول: والله! لا أسامحك، وقد كنت تنصر البدعة وتقمع السنة، لكن أحمد رحمه الله كان رحيماً بإخوانه المسلمين، فلما قال: كنت أحد الشرط الذين ضربوك لأجل خلق القرآن، قال: فسكت أحمد ، ثم رفع رأسه، فقال: يا أخي! أحدث لله توبة، قال: أبا عبد الله ! والله ما جئتك إلا تائباً من ذنبي، مستغفراً ربي، وجئت أستسمحك لحق المخلوق عليّ، قال صالح : فرأيت أبي قد وضع رأسه بين فخذيه، ثم سكت هنيهة ثم رفع رأسه، وإذا لحيته تخضب دمعاً، ثم قال: قم قد غفرت لك، قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسببي، إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدع.
واليوم ربما يقول بعض الناس إذا مات فلان: إن فلاناً يطلبك الحل حلله جزاك الله خيراً، فيقول: والله! ما أحلله، وقد يكون لأجل مال، أو لأجل دينار، أو لأجل درهم، أو لأجل عرض من الدنيا، أما أحمد رحمه الله فقال: ما أحب أن يؤذى مسلم بسبي، والله يقول:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
[النور:22].
صفح الإمام النووي عمن سرق نعله
والعجب يا إخوان! إني حاولت تأمل قصص العلماء الربانيين الذين كانت لهم منزلة في قلوب الخلق، فرأيت مع ما حباهم الله من الإيمان والتقوى كانت قلوبهم صافية لإخوانهم المسلمين،
محيي الدين النووي ، الإمام الشافعي الذي لا يعلم مسجد من مساجدنا في هذه البلاد الطيب أهلها المباركة أرضها إلا وقد قرئ فيه كتاب رياض الصالحين للإمام
النووي رحمه الله، هذا الإمام نال شهرة في قلوب الخلق. وقيل: إنه توفي وعمره ثمان وثلاثون سنة، أو ثمان وأربعون سنة، أو اثنان وأربعون سنة على الخلاف، وعندما بدأت أبحث عن سيرة هذا الإمام وجدت بعض إخواني يقول: كان
محيي الدين في زمن الطلب يرى أن الواهب لا تثبت هبته وتخرج من ملكه حتى يقول الموهوب له: قد قبلت، وإذا لم يقل الموهوب له: قد قبلت، فإنها لم تكن لازمة، ولا تثبت. وهو قول الشافعية.
و النووي رحمه الله كان في زمن فقر، ومرة اشترى نعلين حسنتين، فدخل المسجد فوضع نعليه في المكان الذي يوضع فيه النعال، ثم صلى، فلما خرج بحث عن نعليه فلم يجدهما، فذهب إلى الرف الأول فلم يجدها، ثم ذهب إلى الرف الآخر فلم يجدها، فالتفت، فإذا رجل قد أخذ نعلي محيي الدين ، وإذا هو يهرب، فلما رآه محيي الدين النووي أسرع خلفه، فأسرع السارق، و النووي رحمه الله يقول: على رسلك أخي! على رسلك، والرجل يلتفت، ويرى النووي قد اقترب منه، ويسرع أكثر وأكثر، و النووي يقول: على رسلك على رسلك أخي! قال: ولا يدري هذا الرجل يقول؟ وكأنه يخاف أن يمسك به النووي ، ويقول النووي : على رسلك أخي قد وهبتها لك، قل: قد قبلت، قد وهبتها قل: قد قبلت، قال: والرجل مشكلته أنه سارق وليس بفقيه، فهرب، قال: فتأثر الإمام النووي ، وعرف الحزن في وجهه، فقال لأصحابه: والله! وددت أنه قال: قد قبلت، أشهدكم إني قد وهبتها له، والله! إني لا يسرني أن أقف أنا وأخي بين يدي ربي؛ لأجل نعال.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في (صيد الخاطر): والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم، ويتخشع في نفسه ولباسه، ولكني أرى القلوب تنبو عنه، وليس له محبة في قلوب الخلق، ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس هو بكثير صوم ولا صلاة، وأرى القلوب تهفو له، ومحبته في قلوب الخلق تزداد، فعلمت أن السر هو في السريرة، فالله الله في السريرة، فالله الله في السريرة، فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بذكر سيرته، فالله الله في السرائر، الله الله في السرائر، من صفى صفي له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في نهاره كفي في ليله، ومن أحسن في ليله كفي في نهاره، ومن سره أن تدوم عافيته فليتق الله في الخلوات، وليغتفر لإخوانه عن الهفوات، بذلك ينال جنة ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حسن تعامل ابن تيمية مع من آذاه