الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، نبينا محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أما بعد:
فحيا هلاً بكم وسهلاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في ليالي وأيام هذه العشر المباركة الفاضلة التي أقسم الله تعالى بها، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من خير من يسابق إلى جنات عدن ورضوان من الله.
أيها الإخوة المباركون والأخوات الكريمات! لا يخفى عليكم ما وعد الله عز وجل من مثوبة ومن أجر ومن فضل عظيم لحجاج بيت الله الحرام، وفي الأزمنة الأخيرة ولله الحمد انكب الناس على تفقه أحكام هذه الفريضة العظيمة وهو حج بيت الله الحرام.
أحببنا في هذه السلسلة الموسومة بسلسلة الدروس العلمية للحجة الثالثة أن نطرح جزءاً من المسائل المشكلة في الحج، التي ربما لا يتمكن البعض لضيق الوقت من التعرض إليها.
لا يخفاكم أن كثيراً من المتون المختصرة في أحكام وفقه الحج تشرح في هذه الأيام، وأحببنا أن نتطرق خلال هذه الدورة اليسيرة إلى شيء من المسائل المشكلة.
ضيفنا لا يخفى عليكم، هو علم وصاحب فضل علينا, هو فضيلة شيخنا الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، وكيل المعهد العالي للقضاء لشئون الدورات والتدريب، وهو ضيف سبق له أن أمتعنا بحضوره واستفدنا منه كثيراً، هذا هو اللقاء الأول، أما اللقاء الثاني سيكون غداً بمشيئة الله في نفس العنوان، وهو مسائل مشكلة في الحج مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد رئيس قسم السنة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لا أحب الإطالة عليكم، فالجميع متشوق للسماع من لدن صاحب الفضيلة، أسأل الله أن يفتح عليه، وأن يبارك فينا وفيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
شيخنا! الميدان لكم فلتتفضلوا مشكورين مأجورين.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، موضوع هذه الجلسة المسائل المشكلة في الحج، وسوف ندلف إن شاء الله من بداية نية إحرام الحاج أو المعتمر، إلى يوم عرفة أو إلى ليلة مزدلفة، وسوف يكمل فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بقية المناسك، ولن نتطرق إلى المسائل التي يعرفها عامة الناس في بعض الكتب، ولكني أحببت أن أذكر المسائل المشكلة في الحج، أو التي يسع فيها الخلاف ويكثر، أو المسائل التي قيدها بعض الأئمة في بعض الكتب، وقد تخفى على بعض طلاب العلم الذين ربما اهتموا بالمختصرات، وتركوا كتب المطولات، كفتح الباري لـابن حجر ، والمغني لـابن قدامة ، والتمهيد لـابن عبد البر ، والمحلى لـابن حزم وغير ذلك من كتب أئمة الإسلام، وعلى هذا فسوف يكون موضوع بحثنا هنا مسائل أو إن شئت فسمها نقاطاً نبدأ بها، وربما نختلف في مسألة الترتيب على حسب ما يستذكره المتحدث.
النية للإحرام تنقسم إلى قسمين:
أولاً: التلفظ بالنسك الذي يريده، وهذا بلا شك مستحب، بأن يقول: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، إذا أراد التمتع، أو يقول: لبيك حجة، لبيك اللهم لبيك؛ إذا أراد الإفراد، أو يقول: لبيك عمرةً وحجاً، إذا أراد القران، وهذا غالب ما يتحدث الفقهاء فيه، قالوا: ويستحب أن يتلفظ بما نوى، يقصدون هذه المسألة.
ثانياً: وهو أن يتلفظ فيقول: اللهم إني نويت الحج، فهل يجوز ذلك؟ نص الإمام أحمد رحمه الله على جوازه في الحج خاصة، ولم يجوز في الصلاة، وكذا الشافعية، وعلى هذا صار الحنابلة بقولهم: ويستحب أن يقول: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله في المجلد السادس والعشرين إلى أن ذلك لا يشرع، ولا يستحب أن يتلفظ بالنية، وقال رحمه الله: إن ذلك بدعة، وسار المتأخرون من بعد ابن تيمية على الخلاف، فبعضهم أخذ بقول ابن تيمية ، وبعضهم أخذ بقول أحمد و الشافعي .
والعبرة أيها الأحبة! هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، و ما فعله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قرر أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن كل عمل عمله صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقال عنه: بدعة، نعم يقال: جائز، يقال: سنة على حسب مدلولات النصوص أو غيرها، لكن لا يقال عنه: بدعة.
وهذا الذي جعل الإمام أحمد يقول بالجواز، وقد كنت أقول: لم قال أحمد بجواز ذلك؟ لماذا لم يقل ببدعيته وهو الذي لا تخفى عليه سنة؟ وقد روى البيهقي وقبله الشافعي و ابن أبي شيبة من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة : ماذا تقول إذا أردت الحج؟ قال: لا أدري، قالت: قل: اللهم الحج أردت ولك عمدت، فإن كان الحج فاللهم، وإلا فإن حبسني فمحلي حيث حبستني، وأنتم ترون هذا اللفظ دليلاً على أن عائشة تلفظت بالنية، وهذا يدل على أن التلفظ بالنية جائز؛ لأن عائشة فعلته، وإن كان الأفضل ألا يتلفظ.
وبعضهم يستدل على الاستحباب: بما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة )، وهذا الحديث وإن صححه بعض المتأخرين، إلا أن أكثر أهل العلم على تضعيفه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حج قارناً وليس مفرداً، وإن كان بعض الصحابة يقول: أفرد الحج، ويقصدون بأفرد الحج إنما هو أن يعمل عمل المفرد، وإن كان بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام حج قارناً كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وفي الصحيحين من حديث أنس ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، وغير ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فالأقرب أن نقول: إن التلفظ بالنية في الحج خاصة أو العمرة جائز، وإن كان الأفضل عدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلفظ.
انتشر أن تقليم الأظفار في حق الحاج أو المعتمر لا بأس به، وقالوا: لم يرد حديث صحيح صريح يدل على أن تقليم الأظفار ممنوع منه المحرم، والذي ورد هو حلق الرأس، والأقرب والله أعلم: أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره وحلق شعر رأسه، سواء كان رأسه أو جسده، وعلى هذا سار الأئمة الأربعة خلافاً لابن حزم وبعض المتأخرين كالشوكاني ومن نحا نحوهما.
ومما يدل على أن تقليم الأظفار محظور من محظورات الإحرام:
أولاً: ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه كما رواه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، قال: التفث هو إزالة الشعر وتقليم الأظفار، وهذا تفسير عن صحابي؛ فيكون حجة.
ثانياً: أن المحرم كالمضحي إذا أراد أن يضحي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً )، قال أهل العلم: هذا دليل على أن المضحي شابه المحرم في بعض أنساكه، فعومل معاملة المحرم في بعض أحكامه، وإذا كان المضحي لا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً؛ فكذلك المحرم، لأن المضحي مقيس على المحرم.
ثالثاً: نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.
لكن روي عن عطاء : أنه لا بأس به، وهو قول ابن حزم . والأقرب هو قول الأئمة الأربعة.
أولاً نقول: إن كل من كان له ميقات فمر عليه؛ فلا يجوز له أن يتعدى ميقات أهل بلده إلى ميقات آخر، وقد حكى غير واحد الإجماع على ذلك، منهم النووي ، و ابن قدامة ، و ابن شاس المالكي و ابن الحاجب ، نفوا الخلاف في حكم من يمر من ميقات أهل بلده إلى ميقات غير ميقات بلده، كالمدني يتعدى ذا الحليفة ويحرم من الجحفة، ونقلوا الإجماع على عدم جواز ذلك.
وهنا مسألة أخرى: هل يجوز أن يمر شخص على ميقات ليس هو ميقات أهله، فيتعداه إلى ميقات أهله؟ بمعنى: أن الشامي لو مر على ميقات ذي الحليفة، فهل له أن يتعداه إلى ميقات بلده وهو الجحفة؟
اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك و أبو حنيفة واختاره أبو العباس بن تيمية أنه يجوز له ذلك.
وذهب الإمام أحمد و الشافعي إلى أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث ابن عباس : ( هن لهن )، يعني: هذه المواقيت لهذه الأقطار والأماكن، ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، فكل من مر على ميقات ولو كان غير ميقات بلده؛ فلا يجوز له أن يتعداه حتى يحرم.
وذهب مالك و أبو حنيفة إلى أن قوله: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ) مخصوص بمن سوف يتعدى إلى ميقات بلده، فقالوا: يجوز، قال أحمد و الشافعي : لم لا نقول أيضاً أن قوله: (هن لهن) مخصوص بمن مر على غيرهن من غير أهلهن، فليس احتمال تخصيص الثاني بأولى من احتمال تخصيص الأول. فقوله: (هن لهن) يعني أن أهل المدينة يحرمون من المدينة، وأهل الشام يحرمون من الجحفة، لكن الآن أهل الشام مروا على ذي الحليفة، قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، هذا في حق من ليس له ميقات سوف يتعداه، مثل النجدي إذا جاء إلى ذي الحليفة، فلا يسوغ له أن يتعدى ذا الحليفة ليحرم من الجحفة؛ لأن الجحفة ليست ميقاتاً له، وليست المدينة ميقاتاً له، فلا يتعدى الميقات الأول. قالوا: فقوله: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلن ) مخصوص بمن سوف يتعدى هذا الميقات إلى ميقات بلده، هذا مذهب مالك و أبي حنيفة .
أما الإمام أحمد و الشافعي فقالوا: ليس بتخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ) بأولى من تخصيص: ( هن لهن )، فيقال: إن كل من مر على ميقات غير ميقات بلده أو ميقات بلده؛ فيجب عليه أن يحرم.
هذه المسألة إنما ذكرتها لكم؛ لأنه وجد الآن خلاف من بعض المتأخرين، يقولون: يجوز للإنسان أن يحرم من أي ميقات، فالعبرة بالإحرام من الميقات، فللنجدي الذي جاء من طريق قرن المنازل أن يتعدى قرن المنازل وهو ميقات بلده إلى ميقات الجحفة، وهذا القول بعض أهل العلم نفى الخلاف فيه، وبعضهم قال: إن الخلاف موجود.
واستدل من قال من المعاصرين: بما رواه ابن المنذر : أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت أن تحرم بالحج؛ أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت أن تحرم بعمرة أحرمت من الجحفة. قالوا: فـعائشة هي من أهل المدينة؛ فأحرمت من الجحفة، والرد على ذلك بما قاله العراقي في طرح الثريب، قال: إن عائشة أخذت الطريق الآخر، ولم تأخذ طريق ذي الحليفة، وكل من أتى من الطريق الآخر طريق الساحل؛ فيجوز له أن يتعدى إلى الجحفة، لأنه لم يحاذ ذا الحليفة.
قالوا: ومما يدل على ذلك:
أولاً: جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابر قال : ( مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ).
ثانياً: جاء في صحيح مسلم و البخاري من حديث أبي قتادة ( أنهم أرادوا أن يحرموا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني. قال الراوي وهو
وعلى هذا نرجع إلى أصل المسألة: هل جدة ميقات أم ليست بميقات؟
الواقع أن جدة ليست بميقات، وإن كان جزء منها عن طريق البحر ميقاتاً؛ لأن جدة كبيرة وواسعة، فهي داخلة ضمن المواقيت بمحاذاة الجحفة من طريق البحر، والخارج عن الميقات تقريباً سبعون كيلو متراً، فمن جاء من أهل اليمن عن طريق البحر إلى شاطئ القلزم الذي يسمونه شاطئ البحر الأحمر من طريق جدة، أو أهل سواكر من السودان الذين يقطعون البحر الأحمر، فيقفون عند الشاطئ، فإن هذا المكان لا يحاذي الميقات، وعلى هذا: فيسوغ لهم أن يحرموا من الميناء، ولكن المطار الموجود في جدة داخل المواقيت، وشمال جدة كلها داخل المواقيت.
وعلى هذا فجدة ليست ميقاتاً كلها بل أغلبها وجزء بسيط منها ليس بميقات، ولو وجد مطار في هذا الميناء؛ جاز لأهل الشام أن يحرموا من جدة، لكن هل للنجدي والعراقي أن يتجاوزا ميقاتهما ويحاذيا المنازل من جدة لو فرض أن هناك مطاراً هل يجوز لهما ذلك؟ قلنا: لا يجوز؛ لأنه نقل الإجماع على عدم جواز من مر على ميقات بلده أن يتعداه إلى ميقات غير ميقات بلده.
إذاً: فلا يسوغ أن نقول: جدة ميقات؛ لأن الجزء البسيط من جدة خارج المواقيت، وبينها وبين مكة مرحلتان، يعني تقريباً من ثمانين إلى خمسة وثمانين كيلو متراً.
عامة الفقهاء من الأئمة الأربعة وهو قول ابن حزم قالوا: يستحب أن يحرم عقب فريضة وإن لم يكن فنافلة، ونقول: الوارد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم بعد فريضة الظهر، والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره أن يصلي ركعتين في ذي الحليفة، كما في الصحيحين من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة )، وهذا خاص بالوادي المبارك. وقرن المنازل، ويلملم، والجحفة، وذات عرق، ليست بأودية مباركة؛ لأن الله هو الذي خص ذي الحليفة بالوادي المبارك.
ولكن ذهب أبو العباس بن تيمية : إلى أنه ليس للإحرام سنة تخصه، ونقول: وإن كان ليس للإحرام سنة تخصه، إلا أن الأفضل للإنسان أن يحرم عقب فريضة، فإن لم يكن فليتطوع إن كان في وقت التطوعات، أو يكون عقب سنة الوضوء، كما قال بلال رضي الله عنه: ما توضأت وضوءاً من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما قدر لي فيه.
أول من ذكر المخيط هو إبراهيم النخعي ، والعبرة في كل ما لبس على قدر العضو، وقال الحافظ ابن حجر : إن المحرم ممنوع من أن يلبس ما كان قد اعتاد أن يلبسه قبل الإحرام، وعلى هذا: فلا يسوغ لبس الإزار الذي قد ربط أوله بآخره، حتى يكون على هيئة التنورة، فهذا ممنوع منه المحرم، ولا أعلم خلافاً في كتب الفقهاء في ذلك، بل نصوا على هذه المسألة، فقال الحنفية كما في بدائع الصنائع: ويحرم على المحرم أن يربط على إزاره بحبل، واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً حزم إزاره بحبل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انزعه مرتين )، والحديث ضعيف؛ لأن بين ابن جريج ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، ورواه البيهقي من طريق آخر، من طريق ابن أبي ذئب عن صالح بن حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل. قال الحافظ البيهقي : وهو منقطع، إلا أن أحدهما يتأكد بالآخر، ثم بما مضى من أثر ابن عمر : بأنه إذا عقد صار في معنى المخيط.
وعلى هذا: فما ينقل في بعض الكتب أن لبس الإزار بوضع تكة يجوز، ونقل ابن تيمية الإجماع، نقول: هذا خطأ على ابن تيمية ؛ لأن أبا العباس ابن تيمية رحمه الله قال في شرح العمدة (2/16): فأما إن خيط أو وصل لا ليحيط بالعضو -تأمل هذه الكلمة- ويكون على قدره مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك؛ فلا بأس به. فابن تيمية يقول: لو كان إزارك قصيراً فجئت بإزار آخر فوصلت هذا الإزار بالإزار الثاني والتحفت به، فيقول لك ابن تيمية : جائز؛ لأن هذا ليس هو المراد بالمخيط؛ لأنه قال: لا ليحيط بالعضو، يعني لا تربطه ليحيط بالعضو، فيكون على هيئة النقبة.
لـابن تيمية عبارة توهم، حيث أنه ذكر أن من لم يجد الإزار قال: فليلبس السراويل، قال: ولا يلزم لمن لم يجد الإزار أن يفتق السراويل كما قيل في قطع الخفين، فمن لم يجد إزاراً نقول له: البس السراويل ولا يلزمك أن تفتقه، قال ابن تيمية : إن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع.
ماذا يقصد ابن تيمية بهذه العبارة؟ يقصد أن فتق السراويل كلها حتى التكة تفتق؛ لأنه قال كما ذكرنا سابقاً لا ليحيط بالعضو، وهذا القول هو قول الأئمة الأربعة: إنه لا يجوز أن يجعل الإزار على هيئة السروال من غير كمين أسفلين، والفقهاء قالوا: إن كل ما سمي إزاراً في لغة الفقهاء واللغة جاز لبسه.
وهل الإزار الذي يوضع على هيئة التنورة هل يسمى إزاراً؟ نقول: الحجة في ذلك بقول علماء اللغة؛ فقد نص ابن منظور في لسان العرب و ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث قالا: إذا وصل الإزار حتى يكون كهيئة التكة من السراويل؛ فإنه يسمى نقبة، نون مضمومة وقاف مسكنة وباء وتاء مربوطة بعدها نقبة، قال عمر : فألبستنا أمنا نقبتها.
قالوا: ومما يدل على المنع: أن الصحابة اختلفوا في وضع الهميان، ما هو الهميان؟ هو كيس توضع فيه النفقة، اختلفوا في وضع الهميان على المنطقة فوق الإزار، فمنعه ابن عمر ، وجوزه ابن عباس إذا كان فيه النفقة، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره، هذا إجماع على المنع، وقد روى البيهقي بسند صحيح عن طاوس عن ابن عمر قال: رأيت ابن عمر يسعى بالبيت وقد حزم على بطنه بثوب، قال العلماء: إذا حزم على بطنه ثوب جائز، لكن إذا جعل الإزار موصلاً به على هيئة السروال؛ فإنه يمنع، بدليل ما جاء عند البيهقي من طريق مسلم بن جندب : أن رجلاً أتى ابن عمر وأنا معه، فقالوا: أخالف بين طرفي ثوبي من ردائي ثم أعقده وأنا محرم؟ قال: لا تعقد! كيف هذا؟ تجعل الإزار أمامك، ثم تأخذ أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك وتعقدهما خلفك، قال ابن عمر : لا تعقد الإزار! وهذا يدل على أنه ليس في المسألة إجماع، وإن كان بعض مشايخنا جوز هذا، ونقول: المسألة مسألة اجتهاد، لكن أن ننقل إجماع أهل العلم على جواز ذلك، فنقول: لا، أجمع أهل العلم على كلام إبراهيم النخعي على المنع، وإن كنت تريد التقيد بالضبط، فقل: الأئمة الأربعة، وهو قول ابن عمر و عائشة وغيرهما: أنه لا يجوز أن يربط إزاره على هيئة النقبة.
إذاً إذا قلنا: بأنه لا يجوز أن يوصل الإزار حتى يكون على قدر العضو، فلو لف أحد طرفيه ووضع حزاماً عليه، هل له أن يخيط في الثوب جيباً للجوال أو للنفقة أو غير ذلك؟ نقول: لا بأس؛ لأن هذا الخيط الذي سوف يوضع ليس على قدر العضو، وحينئذ نقول: لا بأس.
اعتادت بعض النساء أن تحرم بالثوب الأخضر أو الثوب الأسود أو البني، وبعضهم يجوز الاستحباب بالأخضر لما روى يعلى بن أمية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً ببرد أخضر )، وهذا صححه الترمذي وضعفه بعض أهل العلم؛ لأن الاضطباع لم يصح إلا من حديث ابن عباس ، والأقرب والله أعلم أن المرأة تحرم بما شاءت من الثياب، كما ثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا تنتقب المحرمة ولا تتبرقع ولا تتلثم، ولتلبس بعد ما شاءت من حلي ومعصفر، وأي شيء من ألوان الثياب، ورواه ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عمر .
وعلى هذا: فالمرأة تلبس بعد ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثوب زينة، قالت عائشة في الكحل: أما إنه ليس بحرام، ولكنه زينة ونحن نكرهه، فلا ينبغي للمرأة أن تلبس ثوب زينة، ولتلبس بعد ما شاءت من الثياب.
ذهب الأئمة الأربعة، وهو قول ابن عباس و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر إلى أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام؛ فإن عليه الفدية، والفدية قالوا: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، سواء حلق الرأس أو قصره، أو لبس المخيط أو غير ذلك.
ومن جاء محرماً ومنع من الإحرام لأجل عدم التصريح، ثم تحايل ولبس ثوبه ثم دخل، فنقول: عليك الفدية، وهذا الذي أفتى به صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم خلافاً في ذلك إلا ابن حزم فإنه قال: من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، كلبس الخفين، والبرقع، والطيب؛ فليس عليه شيء، إلا الحلق لورود النص، ولا عتب على ابن حزم ؛ لأن الخلاف مع ابن حزم خلاف في أصل المسألة وهي القياس، فـابن حزم لا يرى القياس، لكن العتب على الذي يرى القياس، ولا يرى الأخذ بهذه المسألة والقياس بجامع فعل المحظور، إلا ما خرج بنص أو إجماع، والنص جزاء الصيد وغيره كالجماع قبل التحلل الأول.
والدليل على هذا ما رواه الطحاوي من طريق أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه قال: يا أبا معبد! ناولني طيلساني. قال: وقد كنت تكره ذلك؟ قال: نعم، ولكني سأفتدي. فابن عباس أمر غلامه أن يأتي بالطيلسانة، وهي قريبة من الجبة، وإن شئت فقل: الجاكيت وغير ذلك، وقال: ولكني سأفتدي، وقد صح عند مالك من طريق ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أنه قال: المسفر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء؛ صنع ذلك وافتدى. ورواه ابن أبي شيبة من طريق قتادة أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق سأله رجل عما يروى في كحل الإثمد لأن الإثمد طيب، فقال: عليه يهريق دماً، لأنه اختار له أحد الفدية. فهذه أقوال ثلاثة من الصحابة.
والعجب على من لا يرى الفدية في فعل محظور، ويرى أن من جامع قبل التحلل الأول؛ عليه بدنة، قلنا: ما الدليل؟ قال: فعل الصحابة، طيب لماذا لا يكون قول الصحابة في المحظور كقولهم في الجماع قبل التحلل الأول؟ فلو سألنا سائل: ما ترى فيمن أحرم بالحج ولم يدرك عرفة؟ وهذا يسميه الفقهاء: الفوات، أي من فاته الحج، فإنهم أجمعوا على ما أخذ به عمر ، على أنه يتحلل بعمرة وعليه الهدي.
إذاً الأولى أن نأخذ بأقوال الصحابة الموافقة للقياس، والتي لم يخالف فيها أحد، والواقع أن الذي عليه الأئمة، وسار عليه سلف هذه الأمة، أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام؛ افتدى، وأما الإثم فإنه على حسب حاجته لفعل المحظور، فإن احتاج إلى فعل المحظور؛ فعله وليس عليه إثم، وإن كان من باب الترفه ليس إلا؛ وجب عليه الفدية والإثم لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند أبي داود أنه رأى أناساً في عرفة عليهم العمائم والقلانس قال: اذهبوا إليهم فإن جهلوا فعلموهم، وإن علموا فعاقبوهم، فهم إنما عوقبوا؛ لأنهم فعلوا محرماً.
نقول: ما ذهب إليه الأئمة الأربعة، وسار عليه سلف هذه الأمة: إلى أن من ترك واجباً من واجبات الحج؛ فإن عليه أن يهريق دماً، وهو مذهب ابن عباس و ابن عمر ، والدليل على هذا قالوا: لأن كل من ترك إكمال الحج الواجب؛ جبره بدم كالمحصر، إنما وجب عليه الدم لتركه واجب إتمام الحج، ومن فاته الحج؛ فإنه ترك واجب إتمام الحج؛ فيجبره بدم، وكذا من ترك واجباً من واجبات الحج؛ جبره بدم، قالوا: وهذا قياس صحيح أخذ به عمر في الفوات، وأخذ به ابن عباس كما روى عطاء عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: من نسي نسكاً؛ فليهرق دماً، وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عباس .
وبعض العلماء أشكل عليه هذا الحديث فقالوا: كيف يكون من ترك نسكاً فليهرق دماً؟ فهناك أنساك ليست واجبة، فهل تأمرونه بالدم؟ قلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ثوبان : ( لكل سهو سجدتان )، متى يكون سجود السهو؟ في ترك واجب؛ فإن ترك سنة نقول: هذه سنة ليست واجبة عليه، فالدم وجب عليه؛ لترك واجب؛ والبدل يأخذ حكم المبدل، فإذا ترك سنة وذبح فحسن، كما قال به بعض السلف، لكنه إذا ترك واجباً؛ يجب أن يجبره بدم، وعامة الناس يقولون: هذا الأثر لا يعرف إلا عن ابن عباس ، ونقول: لا يمكن أن يجمع الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم على أمر ليس لهم فيه مستند.
وقد روى صالح بن الإمام أحمد في مسائله عن أبيه قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: حدثنا هشام بن حسان عن نافع عن ابن عمر : أن من رمى قبل الزوال ونفر قبل الزوال فليهرق دماً، هذا قول ابن عمر ، قال أحمد : وبه أذهب، وهذا دليل على أن ابن عمر يرى أن من ترك واجباً؛ فليهرق دماً، فعندنا صحابيان؛ فليس هو اجتهاد عن ابن عباس فقط بل هو قول ابن عباس وقول ابن عمر .
يبقى علينا إشكال في هذه الرواية، فإن يحيى بن معين تكلم في رواية عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر ، وصححها مسلم رحمه الله، فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله . والأقرب أن رواية عبد الرزاق عن عبيد الله صحيحة، إلا إذا جاء بما يستنكر، ولعل هذا مما ليس بمستنكر، والله أعلم.
ثم إن أهل العلم انقسمت مدارسهم على ثلاث: مدرسة الحجاز، ومدرسة الكوفة، ومدرسة الشام، وكل هذه المدارس تقول بوجوب الدم على من ترك واجباً، لكن بعض الفضلاء يذكر عن عطاء : أنه إذا نفر من عرفة قبل غروب الشمس؛ ليس عليه شيء، ويقول: هذا دليل على أن عطاء لا يرى بترك الواجب دماً، نقول: من قال لك: إن عطاءً يرى أن الخروج من عرفة قبل غروب الشمس واجب، فقد اختلف العلماء فيه، فعطاء رحمه الله! لا يرى وجوب الدم؛ لأنه لا يرى أن أصل المسألة واجبة.
فإننا نقول: يستحب له أن يلبي حتى يمس الركن أو حتى يشرع في الطواف، فإن كان متمتعاً فإنه يقف عن التلبية إلى أن يهل من اليوم الثامن يوم التروية؛ أما إن كان مفرداً أو قارناً؛ فإنه يمسك عن التلبية في طوافه وسعيه، ثم يبدأ بعد ذلك إلى أن يرمي جمرة العقبة، وهذا هو الذي صح عن ابن عباس : أن الحاج يمسك عن التلبية إذا شرع في الطواف، وقد جاء عند البخاري عن ابن عمر أنه كان يمسك عن التلبية إذا رأى بيوت مكة، وأكثر أهل العلم قالوا: إن هذا اجتهاد من ابن عمر ، والصواب أنه يمسك إذا شرع في الطواف، لكن هل تشترط الطهارة للطواف أم لا؟ هذا معترك النزاع.
الطهارة للطواف اختلف الفقهاء فيها، ولعلي أذكر ذلك على مراحل:
أولاً: أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت، وهذا الإجماع نقله ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع، و النووي وغير واحد من أهل العلم: على أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، واختلفوا في سبب المنع، فقال بعضهم: لأجل اعتبار الطهارة في الطواف، وهذا قول الجمهور وعامة الفقهاء، وقال بعضهم: بل لأجل الدخول في المسجد، وأشار إليه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.
ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين- لـعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية مسلم : ( حتى تغتسلي )، فمنع عائشة من الطواف بالبيت، لا من دخول المسجد، ومن المعلوم أن الطواف بالبيت دائرة أقل وأدق من دائرة أوسع منها وهي دخول المسجد، فلو أراد الدخول في المسجد، لقال: غير ألا تدخلي المسجد، فيدخل الطواف تبعاً، أما أن يقول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام: ( غير ألا تطوفي بالبيت )، فهذا دليل على اعتبار الطهارة في الطواف، وإلا لم يقل: ( حتى تغتسلي ). ولو كان لأجل المسجد لقال: حتى ينقطع حيضك، فقوله: (حتى تغتسلي) دليل على أن المراد والمقصود هو الطهارة للطواف.
إذا ثبت أن الحائض ممنوعة من الطواف حال الحيض، فما حكم الطهارة للطواف؟
نقول: اختلف الفقهاء في ذلك، مع إجماعهم على أن الحائض لا تطوف:
القول الأول: ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تطوف وهي حائض، ويجوز للمرأة أن تطوف وهي نفساء، ويجوز لغيرها أيضاً أن تطوف بغير طهارة، قال العراقي : وهذا جمود وظاهرية متعقبة.
القول الثاني: هو قول ابن تيمية : إن الحائض ممنوعة من الطواف لأجل المسجد، وأصل الطهارة في الطواف سنة، ونقله ابن أبي شيبة عن حماد بن أبي سليمان و الحكم بن عمرو و سليمان التيمي ، كلهم يرون سنية الطهارة.
القول الثالث: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الطهارة للطواف شرط لصحة الطواف، فلا يصح الطواف إلا على طهارة؛ واستدلوا بحديث عائشة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، فقوله: (حتى تطهري) هذا لفظ مشترك، واللفظ المشترك عند الأصوليين يمكن حمله على جميع معانيه، وقوله: (حتى تطهري) هذا يحتمل من الطهارة الكبرى، ومن الطهارة الصغرى.
قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تطهري) يجوز أن يحمل اللفظ المشترك على جميع معانيه، إلا أن يرد نص أو معنى: النص أن يخرجه هذا النص. المعنى مثل القرء، القرء يحتمل الطهر ويحتمل الحيض، لكن هل يمكن حمل القرء على جميع المعنيين؟ لا يمكن؛ لأن هذا تضاد، لكن الطهارة هنا الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى.
قالوا: فدل ذلك على أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، ويدخل فيه كل من كان محدثاً، سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني مناسككم )، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : ( إن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضأ فطاف بالبيت )، قالوا: والفعل إذا خرج بياناً لمجمل قول؛ دل على وجوبه، فإن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما توضأ خرج بياناً لمجمل قول: ( خذوا عني مناسككم )، وكل فعل خرج بياناً لمجمل قول؛ فهو مأمور به، وهذا من المأمور به.
القول الرابع في المسألة: هو قول أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد نقلها الخطابي و المجد ابن تيمية في المحرر وهو رواية عند المالكية ذكروها عن ابن المغيرة المالكي قالوا: إن الطهارة للطواف واجبة وليست بشرط، وعلى هذا: فكل الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الثالث تصلح أن تكون دليلاً لأصحاب القول الرابع، ولكن أصحاب القول الرابع قالوا: نحن نسلم لكم بوجوب الطهارة، لكن أنى لكم باشتراطها؛ لأن معنى اشتراطها أنها لا تصح إلا بدليل، قالوا: ولم يرد دليل. وأرى أن هذا القول هو أعدل الأقوال؛ لأني لا أستطيع أن أخرج من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي )، وفي رواية: ( حتى تطهري )، وهذا أقل ما يقال في أنها يلزمها الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد فعلت عائشة ذلك، ولا أعلم خلافاً عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المسألة، إنما جاء الخلاف فيمن جاء بعدهم.
نعم لو أن المرأة الحائض احتاجت إلى طواف الإفاضة، فإننا نقول حينئذٍ: إن احتاجت وخافت فوات الرفقة أو انطلاق الطائرة إلى بلدها ولا تستطيع الرجوع؛ فإنها تطوف بعد أن تستشعر وتجبر هذه الطهارة بدم؛ لأن كل من ترك واجباً؛ فليهرق دماً فتذبحه في الحرم وتوزعه على فقراء الحرم. هذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول عند المالكية، وأرى أن هذا القول هو أعدل الأقوال.
هنا مسألة: لو أن شخصاً قال: مع مشقة الزحام ربما طاف الإنسان الشوط الأول والثاني ثم أحدث في الثالث، نقول: يذهب فيتوضأ ثم يستأنف من الثالث، لا يعيد الشوط الأول والثاني، لماذا؟ لأن كل شوط له حكم، فالموالاة هنا إن طال الفصل إطالةً عرفيةً؛ فإننا نقول: يعيد الوضوء والطواف، وإن كانت الإطالة محتملة، مجرد أن يذهب إلى الوضوء ويرجع؛ فنقول: حينئذٍ يجزئه ذلك؛ لأن في الزحام لو انتقل من الصحن إلى الأعلى؛ لتطلب ذلك تقريباً عند بعض الناس ثلث ساعة أو نصف ساعة.
وعلى هذا فنقول: إن من احتاج إلى الطهارة أو أحدث؛ فإنه يستأنف من الشوط الذي أحدث فيه، وما طافه وهو طاهر لا يعيده إلا إذا طال الفصل، والله أعلم.
إذا ثبت هذا، فهل يلزم في الطواف أن يجعل الكعبة عن يساره في كل طواف؟ أم المراد بأن يجعل الكعبة جهة اليسار؟ وفرق بين العبارتين، العبارة الأولى تقول: أن يجعل البيت عن يساره، فلو انحرف بأن يجعل ظهره إلى جهة البيت؛ وجب عليه أن يرجع ليجعل البيت عن يساره، وهذا قال به بعض الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.
القول الثاني في المسألة: أن الشرط والواجب هو أن يأخذ ذات اليمين، بأن يجعل الكعبة من جهة اليسار، والأفضل له أن يجعل الكعبة عن يساره، أما أن يكون هذا شرطاً، فهذا يحتاج إلى دليل.
ومما يدل على عدم الوجوب:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح طواف الصبي، ومن المعلوم أن الصبي يحمل ويجعل البيت عن ظهره.
ثانياً: أن أبا بكر طاف بابنه محمد بن أبي بكر وقد ضمه بحضنه، ولم يجعله ذات اليمين ولا ذات الشمال.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر ( طاف على بعيره )، ومن المعلوم ممن رأى أو ركب البعير، أن البعير أحياناً ينحر ولا يتحرك، أو يأخذ أحياناً ذات اليمين أو ذات الشمال، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الكعبة أحياناً عن ظهره، ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع ليجعل البيت عن يساره، وهذا مما لم نؤمر به أمر إيجاب، وإن كان هو الأفضل والله أعلم.
ذهب ابن عباس وهو مذهب الحنفية إلى أن السعي سنة، وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ركن، وأغرب الطحاوي فنقل الإجماع على أن الخلاف إنما هو في الحج خاصة لا في العمرة، وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أن الخلاف إنما هو في العمرة لا في الحج، فكلهم ينقل إجماعاً يخالف الإجماع الآخر.
والأقرب والله أعلم أن نقول: إن السعي حكمه الوجوب لا الشرطية ولا الركن ولا الاستحباب، وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: إن شاء سعى وإن شاء لم يسع، والأقرب هو قول عائشة : فلعمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته، والمقصود: ما أتم حتى يجبره بدم، وهذا هو قول الإمام أحمد في رواية اختارها ابن قدامة و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله فقالوا: إن السعي واجب وليس بشرط وليس بركن، هذا هو الأقرب والله أعلم.
وعلى هذا: فمن جامع بعد الطواف بالبيت وهو معتمر؛ فإن عمرته صحيحة لأنه أدى الأركان.
أسأل الله الفوز والإخلاص في القول والعمل، ونسأله سبحانه أن ييسر للحجاج حجهم، وأن من كادهم أن يكده، وأن يجعل تدبيره تدميراً عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: أقول: كان عمر رضي الله عنه يأمر من أراد أداء شعيرة أو عبادة أو عمل أن يتفقه في الدين، وقد بعث قيماً في أسواق المسلمين لمن فعل الربا أن يطرده من السوق، وكان رضي الله عنه يضرب بالدرة من لم يفقه الحلال والحرام في البيوع، وقال رضي الله عنه في قوم حجوا وعليهم العمائم والقلانس: اذهبوا إليهم فإن جهلوا فعلموهم وإن علموا فعاقبوهم، فالواجب على المسلم أن يقرأ أو يسمع أشرطة بعض المشايخ والعلماء، عله أن يتفقه.
ومن المعلوم في شريعة الإسلام: أن العبادة التي وافقت الإخلاص والامتثال لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم وأقرب للصحة والقبول من تلك التي نقصت من ذلك، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتفقه؛ فإنه يذهب مع حملة فيها طلاب علم أو فيها دعاة يفقهونه في دين الله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، قال ابن تيمية : ومفهوم هذا الحديث، أن من لم يرد الله به خيراً؛ لم يفقهه في الدين، والعبادة المتمثلة على نور من الوحيين أعظم من العبادة التي ليس فيها هذا النور.
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
الجواب: إذا كان هذا الشخص من عادته أن ينتقض وضوءه مثل أن يكون به حدث دائم كالانتفاخ والريح؛ فإنه يجزئه هذا الطواف؛ لأن كل من به حدث دائم، وتوضأ للعبادة ثم صلى أو أدى الواجب الذي عليه، فلو انتقض وضوءه حال العبادة؛ لا يلزمه الوضوء؛ لأن هذا مما يشق، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بأن تتوضأ لكل صلاة، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك.
أما إن لم يكن به حدث دائم، ولكنه أحياناً من الخوف والهلع يصاب بانتفاخات في القولون العصبي، لأن بعض الناس إذا اهتم يأتيه هذا الأمر، وليس بأمر دائم، فنقول: إن كان قد أخذ بقول من يقول من أهل العلم أنه سنة فلا تلزمه الإعادة، لأنه فعل بناءً على اجتهاد، أما إن فعل بناءً على عدم اجتهاد، فالأقرب والله أعلم أنه يجبره بدم، والله أعلم.
الجواب: كل من فعل ما هو خلاف الشرع، ولم يكن عن اعتقاد أو اجتهاد أو تقليد؛ فإنه يلزمه أن يعيد هذه العبادة، إلا أن يسأل عالماً، فإن سأل عالماً بعد ذلك فلا حرج، أما أنه يبحث، فهذا لا يسوغ، والله أعلم.
الجواب: المتمتع هو كل من أخذ عمرةً وحجةً في سفرة واحدة؛ كما قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، ومعنى تمتع بالعمرة إلى الحج، يعني أخذ عمرةً وحجةً في سفرة واحدة، كما نقل الإجماع على تفسير هذه الآية ابن عبد البر ، وعلى هذا فيمكن أن يدرك الإنسان فجر يوم عرفة، وذلك أن يأخذ عمرة بأن يطوف ويسعى ويقصر، ولو كان على إحرامه، ثم يذهب إلى عرفة فيلبي بالحج، هذا قول عامة الفقهاء.
الحالة الأخرى: وهي إذا أخذ عمرته في اليوم السابع أو قبل ذلك، فإنه يبقى متحللاً إلى ضحى يوم الثامن، فيفعل في اليوم الثامن مثل ما فعل في يوم إحرامه بالعمرة، وهذا هو الأفضل، بأن يصلي الظهر وهو محرم، لكن مع الأسف الواقع الذي نشاهده: أن بعض إخواننا لا يحرم إلا فجر يوم عرفة، أو صبيحة يوم عرفة، أو عصر يوم عرفة، أو ليلة يوم عرفة، وهذا قد حرم نفسه خيراً كثيراً؛ لأنه:
أولاً: خالف السنة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحرموا ضحى يوم الثامن، وأن يصلوا الظهر بمنى حال الإحرام.
ثانياً: أن من صلى حال الإحرام أعظم ممن صلى من غير إحرام.
ثالثاً: أن من أحرم في الضحى؛ فإنه يستحب له أداء عبادات لا يمكن أن يتأتاها من لم يحرم؛ فإذا صلى الظهر بعد أدبار الصلوات يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ولا يشرع هذا في حق غير المحرم، وقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبد الرحمن بن سابط من كبار التابعين أنه قال: كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواطن: بعد أدبار الصلوات، وإذا علوا نشزاً أو هبطوا وادياً، وإذا التقت الرفاق، وهذا لا يستطيع أن يتأتاها غير المحرم.
رابعاً: أن هذا لو مات وهو محرم؛ ( فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً )، أما غير المحرم فإنه لم يحصل على هذا الأجر، وقد أخبرني أحد الإخوة أن شخصاً أخر إحرامه، فمات في ليلة عرفة من غير إحرام، فلو أنه أحرم؛ لنال أجر الحديث: ( فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ).
خامساً: أن نومه حال إحرامه أعظم من نومه من غير إحرام؛ لأن الله يباهي بالحجاج الملائكة، سواء كانوا نائمين أو غير نائمين، نسأل الله أن يمن علينا بعفو وغفران.
أما من لم يحرم ويتحجج بأنه في خدمة الحجاج، فيقول أنس رضي الله عنه: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة وهو صائم، فمنا من صام ومنا من أفطر، فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر )، فنقول للمحرم الذي يخدم أصحابه: ذهب المحرمون الذين يخدمون بالأجر.
الجواب: مسألة قطع الشجر للمحرم في حال الإحرام، إن كان المحرم خارج الحرم؛ لا حرج عليه، كعرفة؛ لأن عرفة خارج الحرم، أما لو قطع في الحرم؛ فإن الأقرب والله أعلم أنه يستغفر وليس عليه شيء؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قطع الشجر شيء خلافاً للشافعي رحمه الله، ولكنه يأثم ويستغفر الله ويتوب إليه، ثم إن الشجر المراد هو ما أنبتته الأرض من المطر، وليس للبشر فيه فعل، أما ما كان للبشر فيه فعل وهم الذين يغرسونه؛ فإنه لا حرج في ذلك، والله أعلم.
الجواب: إذا ذهب إلى ينبع ثم أخذ الطريق الآخر وهو طريق الساحل حتى جاء الجحفة؛ لا حرج عليه في ذلك إن شاء الله، لما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر أنه قال: ( مهل أهل المدينة من ذي الحليفة )، والطريق الآخر من الجحفة، وقد ذكر ابن المنذر أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أحرمت بالحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أحرمت بالعمرة أحرمت من الجحفة؛ بأن تأخذ طريق الساحل، والله أعلم.
الجواب: أما الشراب فهو إجماع من أهل العلم على عدم جوازه لمن لم يحتج إليه، فإذا احتاج إلى ذلك مثل أن يكون به قروح أو جروح؛ فإنه لا حرج عليه في لبسه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يجد النعلين؛ فليلبس الخفين.
أما المشلح وهو الذي يسميه العلماء: القباء، فإن أهل العلم اختلفوا هل يجوز لبسه على الكتفين من غير إدخال لليدين أم لا؟ نقول: فيه خلاف، ذهب الخرقي من كبار أصحاب الحنابلة إلى أن لبس القباء من غير إدخال اليدين لا حرج في ذلك، وذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى أنه لا يجوز لبسه سواء أدخل يديه في المشلح أو القباء أو لم يدخلهما؛ لأن المحرم ممنوع من أن يلبس ما كان قد اعتاد أن يلبسه قبل الإحرام، والمشلح لبسه على هذه الطريقة وعلى طريقة إدخال اليدين في كميه، وعلى هذا: فلا يشرع له أن يلبس القباء أو المشلح.
ولكن الحيلة الشرعية بأن يقلبه أو يلتحف به، أو يأخذ بطانية فيلتحف بها ولا حرج في ذلك، أو يأخذ رداءه ويضم معه فرواً ويلتحف به، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
الجواب: بعض الفقهاء يرى أن ما أحاط العضو مثل هذا؛ فإنه يمنع، وقالوا: إن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن رجل جرح فربط جرحه بلفافة فقال: عليه أن يفتدي، وهذا مثله.
والقول الآخر في المسألة: أنه ما لم يدخل يديه أو يدخل رأسه فلا حرج في ذلك إن شاء الله، ولعل هذا أقرب والله أعلم.
الجواب: هذا يحصل كثيراً لبعض الشباب حديثي الزواج؛ يذهبون للعمرة وتكون المرأة قد طيبت ثياب الإحرام، وتطييب ثياب الإحرام لا يجوز، هذا هو القول الراجح، وهو رواية عند الإمام أحمد ، وقول عند المالكية، وهو قول ابن عمر . والدليل على منع المحرم من التطيب بثيابه ما ثبت في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية : ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وهو متضمخ بطيب بعد ما أحرم وعليه جبة فقال: يا رسول الله! ما ترى أن أصنع في عمرتي؟ قال: فلم يجبه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، فلما أفاق منه قال: أين السائل عن العمرة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: اغسل عنك أثر الخلوق )، والخلوق: طيب ( اغسل عنك أثر الخلوق وانزع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ).
وعلى هذا فإن كان يعلم مكان الطيب في الإزار أو الرداء قبل الإحرام؛ فيجب عليه أن يغسله، ثم يلبسه بعد ذلك.
أما التطيب في الجسد فهو سنة عند الجمهور خلافاً لـابن تيمية ، فإن ابن تيمية قال: حسن، والأقرب أنه سنة؛ لأن عائشة تقول: ( كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم )، وقد طيبته قبل الإحرام وبعد تحلله التحلل الأول، ولو لصق الطيب بيده أو إحرامه لا حرج إن شاء الله ما لم يتقصده، كما تقول عائشة : ( فنضمخ جباهنا بالسبك -وفي رواية: بالمسك- المطيب، فيسيل عرق إحدانا على ثوبها؛ فيراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينه )، والحديث رواه أبو داود وفي سنده ضعف، ولكن عليه العمل عند أهل العلم.
مسألة أخرى: مسألة الحجر الأسود، أحياناً يكون فيه طيب، فهل يمنع أو لا يمنع؟ نقول: ننظر، فإن كان الحجر الأسود فيه وبيص المسك بأن يكون له جرم؛ فإن الأولى ألا يلمسه، أما إن لم يكن به جرم بل فيه رائحة؛ فإن له أن يمس الحجر، ولا ينبغي أن يتركه بدعوى الطيب، وقد كان السلف على هذا، وهو قول ابن حزم والله أعلم.
الجواب: المتمتع الذي يقول: لبيك عمرة، أو يقول: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، وأدى عمرته كاملة، فهل يلزمه أن يلبي الحج من عامه؟ ذكر أبو العباس بن تيمية أنه يجب عليه، ذكره في المجلد السادس والعشرين، والقول الآخر: أنه لا يجب عليه؛ لأنه لم يشرع في الإحرام، وهذا هو الأقرب وهو قول شيخنا عبد العزيز بن باز ، وشيخنا محمد بن عثيمين وهو الأقرب، حتى لو قال: متمتعاً بها إلى الحج.
ثم إن قول القائل: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، هذه اللفظة لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقلها واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرها الفقهاء، والسنة أن يقول المتمتع: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك.
الجواب: اختلف العلماء في حق المكي، هل له أن يتعجل السعي قبل الوقوف بعرفة؟ فذهب الحنابلة والمالكية والحنفية وعامة الفقهاء إلى أنه لا يصح للمكي أن يسعى قبل عرفة، وهي فتوى اللجنة الدائمة، ونقل الحنابلة الإجماع على عدم جوازه، فعلى هذا: يحرم المكي ثم ينتظر حتى يطوف طواف الإفاضة ويسعى سعي الحج، قالوا: فإن طاف؛ فلا يصح الطواف هنا؛ لأنه يشترط أن يكون سعيه يسبقه طواف مشروع، ولا طواف مشروع هنا، وذهب الشافعي وهو قول لابن عباس إلى أنه يصح منه. وأقول: إنه إن أمكن تدارك ذلك بأن يعيد الطواف والسعي فحسن، وإن لم يفعل فإن شاء الله يجزئه ذلك، والعلم عند الله.
الجواب: والله! مسألة الخروج من عرفة قبل غروب الشمس: ذهب عامة أهل العلم إلى أنه يأثم، وخالف في ذلك الشافعي و ابن حزم فقالوا: لا بأس أن يخرج ولا عليه شيء، والجمهور على أنه يأثم ويجبره بدم، إلا مالكاً فإنه قال: من خرج من عرفة قبل غروب الشمس؛ فسد حجه، وهذا يدل على أن المسألة مسألة مهمة، فلا يسوغ للإنسان أن يخرج من عرفة قبل غروب الشمس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني مناسككم )، وقد وقف عليه الصلاة والسلام إلى غروب الشمس، وخالف في ذلك المشركين، فإذا كان رفقته يخرجون؛ فإنه يبقى، أما إذا كانت المسألة مما يسع فيها الخلاف، بمعنى أنه يرى أنها اختلاف في الاستحباب الأكيد أو عدمه؛ فله أن يوافقهم، مثل ما لو خرجوا بعد منتصف الليل من مزدلفة، أو قبل منتصف الليل أيضاً، وهو قول مالك رحمه الله فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
الجواب: المرأة التي حاضت تنظر فإن كانت قد لبت بالعمرة وانتظرت حتى يوم عرفة ولم تطهر، نقول: تدخل الحج على العمرة لتكون قارنة، ثم تذهب إلى عرفة، ولا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، وقد ذكرنا الإجماع على أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض إلا لحاجة، ولا حاجة هنا، فإذا جاءت من عرفة وطهرت؛ فإنها تطوف للإفاضة بنية الإفاضة والعمرة، وتسعى بنية سعي العمرة وسعي الحج، وتكون قد تحللت التحللين بعد ما ترمي وتقصر.
ويستحب لها أن تأخذ عمرةً من التنعيم إذا انتهى حجها، كما صنعت عائشة ، فكل من أهل بعمرة ولم يستطع إكمالها فأدخل الحج عليها ليكون قارناً، فإنه يستحب أن يأخذ عمرةً من التنعيم بعد ما ينتهي حجه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عائشة قال: ( إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج )، يعني أدخلي الحج على العمرة ( فعسى الله أن يرزقكيها )، وعلى هذا فعلت عائشة ، وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز والله أعلم.
الجواب: الأقرب والله أعلم وهو قول ابن قدامة بل نقل الإجماع على ذلك، وهو قول ابن شاس المالكي: أنه يجب عليه أن يرجع إلى قرن المنازل، وهذا هو قول عامة الفقهاء والله أعلم.
الجواب: قول ابن تيمية هنا صحيح، وهو قول عائشة رضي الله عنها، إلا أن عقد الإزار شيء، وخيطه بحيث يكون محيطاً بالعضو شيء آخر، فابن تيمية يجوز عقد الإزار، لكنه منع من خيطه ليحيط بالعضو كاملاً؛ لأنه إذا خيط بالعضو كاملاً؛ خرج من مسمى الإزار ويكون تسميته عند الفقهاء واللغة نقبة، وهو على هيئة التنورة كما ذكرنا، وهو ممنوع منه المحرم، وهو قول الأئمة الأربعة، وقول ابن تيمية رحمه الله.
الجواب: نقول: ذهب أحمد في المنصوص عنه؛ وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله: إلى أن الأفضل في حق الحاج أن يسوق الهدي مع القران، فيقول: لبيك عمرةً وحجاً وقد ساق الهدي، وسوق الهدي هو أن يشتريه من خارج الميقات، ويدخله إلى الميقات ليذبحه في الحرم، فلو اشتراه من الرياض أو من الطائف أو من عرفة، فيصدق عليه أنه قد ساق الهدي، كما قال ابن عمر وغيره، وهذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث خروجه إلى ذي الحليفة أمره ربه بأن يكون قارناً، وأن يسوق الهدي، ولم يكن الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل، وهذا هو الأفضل.
قد يقول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به )، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ليبين للصحابة أن العمرة في أشهر الحج جائزة، ولهذا قالوا: ( كيف يا رسول الله! نقلبها عمرة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما آمركم به )، فصبر الصحابة، ظانين أن سيأتيهم نسخ، مثل ما حصل في بعض المواطن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي لبينت لكم أن العمرة في أشهر الحج جائزة )، هذا هو الأقرب، وهذا هو اختيار ابن تيمية والإمام أحمد رحمهم الله جميعاً.
الجواب: المحاذاة أن تكون المسافة من المكان المحاذي للميقات إلى مكة، نفس المسافة من الميقات إلى مكة، بمعنى أن كل المسافات إلى مكة مسافةً واحدة، وهذا هو معنى المحاذاة والله أعلم.
الجواب: نقول له: استعن بالله وطبق هذه السنة، واجعل من هذه العمرة بداية لتطبيق السنن، وكلما توضأت صليت ركعتين، وهذا هو الأفضل.
الجواب: هذه مسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أنه لا يجوز له أن يرمي الجمرة قبل الزوال في اليوم الحادي عشر، وخالف في ذلك طاوس ونقل عن عطاء ، هذا في اليوم الحادي عشر، أما في اليوم الثاني عشر فقد اختلف العلماء، فذهب أبو حنيفة و إسحاق بن راهويه والإمام أحمد في رواية، وقد صح عن ابن عباس و عبد الله بن الزبير إلى أن لهم أن يرموا في اليوم الثاني عشر قبل الزوال، بشرط ألا يخرجوا ولا ينفروا إلا بعد الزوال؛ لأن الله يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203]، فلو خرج قبل الزوال؛ فقد تعجل في أقل من يومين، هذا القول أعني به الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر صح عن ابن عباس ، فقد روى ابن أبي شيبة و عبد الرزاق من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: رمقت ابن عباس رمى الجمرة في يوم النفر الأول ضحى ثم نفر، وهذا إسناد صحيح كالشمس، وأيضاً فقد روى الفاكهي في أخبار مكة من طريق ابن أبي عدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أقبلت أقول هل رمى أبو عبد الرحمن ، يعني بذلك ابن عمر هل رمى أبو عبد الرحمن ؟ قالوا: لا، ولكن هذا أمير المؤمنين أمير الحج عبد الله بن الزبير قد رمى قبل الزوال، قال: فأتيت إلى ابن عمر في فسطاطه، فلما زالت الشمس خرج فرمى فرميت معه، وهذا يدل على أن المسألة مما يسع فيها الخلاف.
وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة في المشهور عنهم: إلى أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري من طريق وبرة عن ابن عمر ( أن رجلاً أتاه فقال: متى أرمي الجمار؟ قال: كنا نتحين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس؛ رمينا الجمار )، وهذا الحديث دليل على أن الأفضل أن يرمي الجمار بعد الزوال، وليس دليلاً على أنه لا يجوز قبل الزوال.
وقد روى مالك في موطئه من حديث عاصم بن عدي (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا يوم العيد، ثم اليوم الحادي عشر والثاني عشر في أحدهما ثم يوم النفر الآخر )، وهذا الحديث إسناده صحيح، كما ذكر ذلك الترمذي و يحيى بن سعيد .
ولا ينبغي أن يتشدد في هذه المسألة؛ لأن هذا مما يسع فيه الخلاف، والحمد لله ليس في المسألة حكم قاطع في هذا الباب، وإن كان الأولى والأحوط أن يخرج الإنسان من عهدة الطلب، وألا يرمي إلا بعد الزوال، وإن رخص، فينبغي أن يرخص للشيخ الكبير، والمرأة، والذي عنده ضرر أو حاجة، أما الشاب أو الذي يقدم طائرته مبكراً، فنقول له: الأولى أن تخرج من عهدة الطلب، وألا تتعجل في ذلك.
وأما تجويز ذلك من غير دليل إلا الزحام، فنقول: مسألة الزحام لا تنتهي، فلو جوزنا قبل الزوال؛ فسوف يزدحمون قبل الزوال ويموتون، ولو جوزنا بعد الفجر؛ فسوف يزدحمون بعد الفجر ويموتون، وليس الزحام بحد ذاته دليلاً، وينبغي أن تكون المسألة مناطة بالأدلة التي كان عليها أهل العلم في طريقة الاستدلال.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين! وأن يمنحنا وإياكم رضاه، والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
المقدم: أحسن الله إليكم! الشكر موصول بعد شكر الله تعالى لشيخنا الشيخ عبد الله السلمي على هذه الإطلالة المباركة، وعلى هذا العرض الشيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر