إسلام ويب

الروض المربع - كتاب الطهارة [32]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب على المسلم أن يتسم بسمة الطهارة الحسية والمعنوية، وقد شرعت له وسائل تساعده على ذلك، منها أن النجاسة يمكن أن تطهر بالشمس والريح والتراب وغير ذلك من المنظفات. والخمرة إذا تخللت بنفسها طهرت، وإن تخللت بفعل صاحبها فالراجح أنها طاهرة، غير أنه يحرم على صاحبها استعمالها؛ معاملة له بنقيض قصده، وتحل لغيره.

    1.   

    تطهير النجاسة بالشمس والريح

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس ولو أرضًا بشمس. ولا ريح ولا دلك، ولو أسفل خف أو حذاء أو ذيل امرأة، ولا صقيل بمسح، ولا يطهر متنجس باستحالة، فرماد النجاسة ودخانها وغبارها].

    مذهب الحنابلة والشافعية أن المتنجس لا يطهر بشمس ولا ريح؛ لأنه لا بد فيه من الماء، كما مر معنا، وهذا تفريع على قولهم: بسبع غسلات بماء، وقلنا: إن الراجح في هذه المسألة: أن النجاسة عين خبيثة، متى ما زالت زال أثرها، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جوز إزالة النجاسة بغير الماء، مع إمكان الماء ووجوده، فدل ذلك على عدم خصوصية الماء، كما في حديث أبي سعيد ، وحديث أبي هريرة ، والحديث الذي رواه أبو داود ، وإن كان في سنده بعض الكلام: ( أن امرأةً من بني عبد الأشهل قالت: يا رسول الله! إن لنا طريقًا في المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: أوليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه )، والله أعلم، ومر معنا ذكر هذه المسألة.

    والراجح: هو اختيار ابن تيمية رحمه الله: أن النجاسة تطهر بالشمس؛ لقول ابن عمر كما عند البخاري : كانت الكلاب تقبل وتدبر، زاد أبو داود وتبول، هم يقولون: إن رواية (وتبول) عند البخاري ، والأقرب أنها خطأ من بعض النساخ، وإلا فإن الأظهر أن رواية البخاري : كانت الكلاب تقبل وتدبر، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك، لفظ أبي داود : وتبول، وهو المراد عند البخاري ، والله أعلم.

    وهذا يدل -يعني: حديث ابن عمر - على أن النجاسة تطهر بالشمس.

    وأما قوله: (ريح)، الريح إذا سفت النجاسة اليابسة، ثم سلط عليها الشمس، فلم يبق لها أجزاء ولا لون ولا طعم، نظرت فإن وجدت طبقة أزيلت وما حولها كما مر، ثم يطهر والله تبارك وتعالى أعلم.

    وأما قوله: (ولو أسفل خف)، هذا مخالف لحديث أبي سعيد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فلينظر هل فيهما من أذى، فإن التراب لهما طهور )، لكنهم يقولون: هذا الأذى لا يلزم منه النجاسة، ولكنا نقول: إن هذا لفظ عام، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مما يدل على عموميته.

    كذلك قوله: (ذيل امرأة)، الأقرب أن ذيل المرأة يطهر، وإن كان الحديث الذي استدللنا به: ( أليس ما بعده طريق أطيب منه؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه ) حديث رواه أبو داود وفي سنده ضعف، كذلك حديث أبي هريرة : ( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور ) فيه كلام، لكن له طريقان يشد بعضهما بعضًا.

    1.   

    المراد بالأجسام الصقيلة وكيفية تطهيرها

    وقوله: (صقيل)، الصقيل كالسيف والسكين، والحنابلة يقولون: إن سكين القصاب إذا ذبح وسفك الدم النجس -الذي هو المسفوح- فإنه إذا أراد أن يذبح به البهيمة الأخرى لا بد أن يغسل هذه السكين، و أبو العباس بن تيمية رحمه الله يرى أن سكين القصاب التي يذبح بها ويسلخ لا تحتاج إلى غسل، فإن غسل السكاكين كما قال: ابن تيمية بدعة، وإنما كان السلف يمسحون ذلك مسحًا، وهذا هو الراجح والله أعلم.

    وعلى هذا: فالأجسام الصقيلة؛ كالسيوف والسكاكين والزجاج إذا أصابتها نجاسة ثم مسحت وزالت النجاسة طهرت. والله أعلم.

    1.   

    تطهير النجاسة بالاستحالة

    قال المؤلف رحمه الله: (ولا يطهر متنجس باستحالة).

    الحنابلة يرون أن النجاسة عين خبيثة، فلو انتقلت من عين إلى دخان، فإن هذا الدخان ليس بطاهر، ولهذا يقولون: إن الزيت المتنجس لا يصح وضعه في المساجد؛ لأنه إذا تبخر يلصق هذا الدخان الأسود بالجدران، فينجس المسجد. هذا مذهب الحنابلة.

    والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وهو مذهب أهل الظاهر، وأحد الروايتين عن أحمد، واختارها أبو العباس بن تيمية: على أن النجاسة إذا انتقلت إلى شيء آخر فإنه طاهر، ولا نقول: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، يقول ابن تيمية رحمه الله: ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر، بل استحال، فماذا نقول؟ لا نقول: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، ولكننا نقول: إن النجاسة إذا انتقلت إلى شيء آخر فإن هذا الشيء الآخر طاهر، وإلا فإن النجاسة عين خبيثة.

    وعلى هذا: فالكلب لو سقط في ملح واستحال ملحًا فإنه يطهر، كذلك الصراصير والدود الذي يخرج من العذرة، أو من جيفة البهيمة فإنه على مذهب الحنابلة نجس، وعلى القول الآخر طاهر، واستدل الذين يقولون بالنجاسة، بأنها عين خبيثة، فيخبث كل ما تفرع منها، والذين قالوا بالجواز استدلوا بالقياس على الخمر، قالوا: فكما أن الخمر إذا تخللت فهي طاهرة، مع أن الأئمة الأربعة يرون أنها نجسة وهي أشد، فدل ذلك على أن غيره أولى.

    والجمهور يقولون: لا، الخمر تختلف، لماذا؟ قالوا: لأن الخمر أصلًا استحالت من مباح إلى حرام؛ لأنه عنب، فإذا استحالت إلى خمر جاز أن تستحيل إلى خمر؛ فتطهر. هذا مذهب الجمهور؛ يقولون: إن الخمر تستثنى، لماذا؟ قالوا: لأن الخمر نجست باستحالتها إلى خمر من عنب، فالعنب طاهر استحال إلى خمر فتنجس، وما نجس بالاستحالة فإنه يطهر بالاستحالة.

    ولكنا نقول: الراجح أن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة، فالعذرة استحالت من الأكل والشرب، والدم استحال من المطعوم؛ لأنه استحال من أعيان طاهرة، وغير ذلك، فليس ثمة فرق، فإن اللبن مستحال مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66].

    وعلى هذا فالراجح أن النجاسة إذا استحالت فإن المستحال يكون طاهرًا، الدليل هو الخمر، وكذلك نقول: إن هذه الأعيان بعد الاستحالة لم يتناولها نصوص التحريم، لا لفظًا ولا معنى، فليست هي محرمة، وليست هي في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها إذًا.

    أول شيء الخمر، والثاني هذا، الثالث: أننا نقول: كما أن الله أباح لنا الطيبات؛ لما قام بها من وصف الطيب، فإنه حرم الخبائث؛ لما قام بها من وصف الخبث، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

    ومن المعلوم أن الشيء إذا استحال ولم تظهر منه رائحة النجاسة ولا غيرها فإنه يطهر، مثل مياه المجاري فإنها إذا عولجت بحيث لم يظهر لها طعم ولا رائحة ولا شيء فإنها تطهر، هذا هو الراجح، والله أعلم.

    حكم المتولد من النجاسة كالدخان والبخار ونحوهما

    قال المؤلف رحمه الله: [ فرماد النجاسة، ودخانها، وغبارها، وبخارها، ودود جرح، وصراصر كنف، وكلب وقع في ملاحة صار ملحًا، ونحو ذلك نجس غير الخمرة ].

    نجس على مذهب الجمهور، كالشافعية، والحنابلة، وأحد القولين عن مالك ، والرواية الأخرى طاهر، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد ، وإحدى القولين عن مالك ، وهو مذهب أهل الظاهر.

    (غير الخمرة)، الخمر إذا انقلبت بنفسها وصارت خلًا طهرت بالإجماع، لكن لو حبسها المرء فطهرت فالمعروف أن جمهور أهل العلم يقولون: إنها لا تطهر إذا حبست؛ سدًا للذريعة، واختيار أبي العباس احتمالاً أنها تطهر؛ لأننا وإن منعنا الفعل إلا أننا لا نمنع التغير، وإن حرمنا فعل العبد بالإمساك؛ لأن الله يقول: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، لكن لا يعني بالضرورة إذا استحالت ألا تحرم، ولهذا فالذي يظهر والله أعلم: أن الخمر إذا حبست وطهرت فإنها تطهر، ولكن حابسها يحرم عليه استعمالها، لا لنجاستها ولكن معاملة له بنقيض قصده، وهذا أمر معروف في الشريعة، فنعامله بمعاملة نقيض قصده، ولكن لو استعملها شخص آخر فإنه يجوز. والله أعلم.

    حكم الخل المنقلب من الخمر

    قال المؤلف رحمه الله: [ غير الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلًا أو بنقل لا لقصد تخليل ودنها مثلها ].

    الدن: هو الوعاء الذي يحمل الخمر، فإذا انقلب طهر.

    قال المؤلف رحمه الله: [ لأن نجاستها لشدتها المسكرة وقد زالت، كالماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه، والعلقة إذا صارت حيوانًا طاهرًا ].

    يعني أنهم يقولون: إن علة النجاسة شدتها المسكرة، وقد زالت، والراجح والله أعلم أن نجاستها لشدتها المسكرة على القول بأنها نجسة، وإلا فإن مذهب ربيعة الرأي و الليث بن سعد والإمام المزني وبعض أهل الحديث يرون أن الخمر ليست نجسة، وأن الرجس الوارد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، قالوا: إن هذا الرجس رجس معنوي، وإلا فإن الخمرة طاهرة لأمور:

    أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين، وهو الذي يتخلى في طريق الناس )، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرم الخمر؛ أريقت في زقاق المدينة، ولم ينكر ذلك، فلو كانت نجسة؛ لما جاز إراقتها في طريق الناس أو في ظلهم، وأرى أن هذا الدليل قوي.

    ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى حكم في هذه الآية بقوله: (رجس)، (فاجتنبوه)، فهذا الرجس معنوي، بدليل: أن الميسر ليست نجاسته نجاسة عينية، والأنصاب والأزلام والسهام والقدور لو مسها الإنسان ليست بنجسة، فإذا كانت الأصناف الثلاثة التي مع الخمر إذا مسها الإنسان واستعملها ليست بنجسة بعينها، دل على أن الخمر مثلها، إلا أن يرد دليل آخر.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90]، أربعة، الأنصاب والأزلام والميسر إذا مسها الإنسان لا يتنجس، فإذا كان أكثر معاني الآية ليست نجاسة عينية؛ فإن الخمر مثلها، لما يقول علماء الأصول: بدلالة الاقتران، فدلالة الاقتران ليست حجة خلافًا لـأبي يوسف ، ولكن نقول: هي ليست من باب دلالة الاقتران هنا، ولكنها من باب التفسير بالقران، وفرق بين الأمرين، نحن نقول: إن الرجس هنا رجس معنوي؛ لأن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجاسة عينية، فكذلك الخمر نجاستها معنوية، وليست عينية والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ والعلقة إذا صارت حيواناً طاهراً ].

    هذا دليل عندهم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ فإن خللت، أو نقلت لقصد التخليل لم تطهر ].

    الراجح أنها إذا حبست بقصد التخليل تطهر، ولكن يحرم استعمالها من قبل حابسها؛ معاملة له بنقيض قصده، فكما أنها إذا انقلبت بفعل الله طهرت، فكذلك إذا حبسها العبد طهرت، لأن الخلاف بين الأمرين هو الحبس من عدمه، ولهذا لو كان عنده خمر ثم بحث عنه فلم يجده، ثم وجده بعد ذلك وقد تخلل، فإنه يطهر، فهذا مثله.

    نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وجزاكم الله خيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953271