يقول المؤلف: (فإن فعل بأن أولج قبل انقطاعه)، المشهور عند الحنابلة أن الرجل إن وطئ بعد انقطاع الدم وقبل أن تغتسل، فهذا محرم ولكن ليس فيه كفارة، أما أن يطأ في وقت وجود الدم وقبل أن ينقطع، ففيه الكفارة.
إذاً: عندنا ثلاثة أحوال: أن يطأها بعد الاغتسال فجائز.
الثاني: أن يطأها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فمحرم عند جماهير أهل العلم من الشافعية والحنابلة، ولكن ليس فيه كفارة عند أحد في المشهور عند الحنابلة، وإن كانت الرواية الأخرى نعم، لكن هذا هو المشهور عند أحمد .
الثالث: أن يطأها في الحيض، أي: وقت وجود الدم، فهذا عند الحنابلة عليه الكفارة، وهي (دينار أو نصفه على التخيير)، يعني إن شاء أن يدفع ديناراً، وإن شاء أن يدفع نصف دينار، ولا فرق عندهم -أي الحنابلة- أن يطأها جاهلاً بالحكم أو مكرهاً أو مكرهةً، أو ناسياً أو ناسيةً، فإنهم يجعلون الحكم على الرجل وعلى المرأة، مثل الوطء في نهار رمضان، ويقولون: لا يتصور في الغالب نسيان أو إكراه أو جهل حال الوطء، سواء كان في الصيام أو في الحج، أو في وقت الحيض، هذه قاعدة الحنابلة، وإن كان الراجح أنه يفرق بين حال الإكراه وحال الجهل وحال النسيان.
وهذه المسألة -مسألة الكفارة- من مفردات الحنابلة خلافاً للجمهور، وقد استدل الحنابلة بما ذهبوا إليه بحديث يرويه
مقسم مولى ابن عباس و
عكرمة ، كلاهما يرويانه عن
ابن عباس ، واختلف عليهما، فرواه الأكثر عنهما عن
ابن عباس موقوفاً عليه، وهذه الروايات صحيحة، ورواه
عبد الرحيم بن عبد الرحمن كما عند الإمام
أحمد، عن
مقسم عن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الرواية مرفوعة، واختلف العلماء هل هي أصح أم رواية الوقف؟
فذهب الإمام أحمد و الحاكم و ابن الملقن إلى أن رواية الرفع صحيحة، بل حاول ابن القطان الفاسي صاحب كتاب بيان الوهم والإيهام في أحاديث كتاب الأحكام لـعبد الحق الإشبيلي ، حاول جاهداً أن يقوي رواية الرفع، وذهب الأكثر كالإمام الشافعي وكذا أبو عمر بن عبد البر ، بل بالغ النووي فقال: اتفق المحدثون على ضعف رواية الرفع، وهذه مبالغة، كيف اتفق المحدثون و أحمد ليس معهم؟!
وقال ابن المنذر رحمه الله -بالمناسبة أنا أنصح طلاب العلم أن ينظروا إلى كتاب الأوسط لـابن المنذر ، ففيه درر، ويعطيك القواعد، ويصلح هذا الإمام أن يكون له مذهب، وإن كانت أصوله على مذهب الشافعي و أحمد في الغالب- يقول: الكفارة لا يجوز إيجابها إلا أن يوجبها الله سبحانه، أو تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجبها، ولم يثبت إلى هذا الوقت حجة توجب ذلك.
ومما يدل على أن رواية الرفع ليست صحيحة أن بعض أصحاب ابن عباس كـعطاء رضي الله عنه كما روى عبد الرزاق أنه قال: لم أسمع فيه بكفارة معلومة، فليستغفر الله. فلو كانت الرواية المرفوعة عن ابن عباس صحيحة، لم تكن تخفى على عطاء ، فدل ذلك على أنه لم يصح الرفع، وهذا الأقوى والله أعلم.
ولهذا ذهب أبو حنيفة و الشافعي في الجديد إلى أن الكفارة مستحبة لأمور:
أولاً: لأنه قول صحابي.
ثانياً: لأن العبد قد فعل معصية، والقاعدة فيمن فعل معصية أن يتصدق بدينار أو نصف دينار، أما أن نوجب ذلك فلا.
وذهب مالك إلى التوبة من غير كفارة، ولكن الأقرب هو مذهب أبي حنيفة و الشافعي .
الآن المؤلف سوف يشرع في بيان المراد بالدينار.
قال المؤلف رحمه الله: [والمراد بالدينار: مثقال من الذهب مضروباً أو غيره، أو قيمته من الفضة فقط، ويجزئ لواحد، وتسقط بعجزه، وامرأة مطاوعة كرجل].
يقول: (والمراد بالدينار مثقال من الذهب مضروباً) أو غير مضروب، المضروب هو الذي يكون قد صك، يعني صار يباع ويشترى فيه، وغير مضروب وزناً، ابن تيمية يقول: لا، لابد أن يكون مضروباً، وإذا قلنا: إن المقصود هو الكفارة، وأن يخرج الإنسان من ماله شيئاً يتصدق به، فهل صار النقد مقصوداً؟
لا، إذا كان القصد التصدق، وإبراء الذمة، وإطفاء غضب الرب؛ فإن ( الصدقة تطفئ غضب الرب )، علمنا أنه ليس المقصود النقد، ولم يثبت إيجابها بدليل، فدل ذلك على أن له أن يتصدق سواءً كان بدينار أو غير دينار، مضروباً أو غير مضروب، طعاماً أو غير طعام، كل ذلك جائز، والدينار بالجرام أو المثقال يساوي أربعة فاصل خمسة وعشرين، أي: أربعة وربع، وعلى هذا لو سألتم الآن أسواق الذهب، بكم سعر الجرام الواحد من الذهب، ما هي قيمته اليوم؟ يقولون: إنه وصل مائة وخمسة الآن، اضرب مائة في أربعة فاصلة خمسة وعشرين، كم؟ أربعمائة وخمس وعشرين، يعني الذي يطأ امرأةً حائضاً، فإنه يتصدق بأربعمائة وخمس وعشرين، أو نصفها مائتين واثني عشر ونصف تقريباً، فكلام المؤلف يدل على هذا، وإذا كان الجرام ينزل سعره فبحسبه، والله تبارك وتعالى أعلم.
يقول المؤلف: (أو قيمته من الفضة)؛ لأن الفضة نقد مثل الدينار، فليس خروجاً عن القيمة عند الحنابلة رحمهم الله، ولهذا قالوا: فلا يجزئ إخراج غيرها كسائر الكفارات، يعني الكفارات أحياناً تكون من الطعام فلا يجوز من النقد، وكذلك من النقد لا يجوز عن غيرها من الكفارات، لكن الراجح أن القصد من ذلك هو الصدقة.
يقول المؤلف: (ويجزئ لواحد)، يعني: يجوز أن يعطي هذا الدينار فقيراً، ولا يلزم أن يعطيه مائة فقير، فإذا وجد فقيراً ومائة مسكين، فإنه يوزعها على أقسام مصارف الزكاة الثمانية، وقال بعضهم: بل لا تجزئ إلا الفقير والمسكين، وهذا مثل خلافهم في زكاة الفطر، والذي يظهر والله أعلم أن غالب الصدقات والكفارات غير الزكاة إنما تعطى للفقراء والمساكين.
يقول المؤلف: (وامرأة مطاوعة كرجل)، يعني المرأة المطاوعة كرجل، والمطاوعة هنا لها معنيان: أن تطاوعه قبل الوطء، الثانية: أن تمانع حتى إذا أراد أن يأتيها طاوعته، أي استلذت بذلك، هنا تكون في حكم المطاوعة، وأما الإكراه فإنها تمانع حتى ينتهي مثل المغتصبة.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجوز أن يستمتع منها، أي من الحائض بما دونه، أي دون الفرج من القبلة، واللمس، والوطء دون الفرج؛ لأن المحيض اسم لمكان الحيض، قال
ابن عباس : فاعتزلوا نكاح فروجهن، ويسن ستر فرجها عند مباشر غيره ].
قلنا: إن الرجل يجوز أن يستمتع من زوجته بكل شيء إلا الوطء في حال الحيض، والوطء في الدبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء، أو أكثر أهل العلم، كما حكى ذلك ابن كثير في تفسيره، وأما من قال: لا يجوز أن يستمتع إلا بما فوق السرة وتحت الركبة، فهذا قول لم يجمع جميع الروايات في هذا.
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أراد وطأها فادعت حيضاً ممكناً قبل].
يعني لا يلزم أن يقول لها: أنت كاذبة، إذا كانت المرأة أحياناً لا تحب الرجل أو تكره المعاشرة، فادعت أنها حائض وكان ممكناً، قبل، يعني لا يلزمه أن يمنعها من ذلك، ولكن هذا في وقت المخالفة والإكراه.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.