قال المؤلف رحمه الله: (ثم تغتسل بعدها وتصلي، وإن نسيتها)، هذه الحالة الثالثة: نسيت عادتها ولكن لها تمييز صالح، عملت بالتمييز الصالح، ما هو التمييز الصالح؟ هو ألا ينقص الدم الأسود ونحوه من صفات دم الحيض -أسود، ثخين، له رائحة كريهة، ونحو ذلك- عن يوم وليلة، ولم يزد عن خمسة عشر يوماً، ولو تنقل، ومعنى ولو تنقل يعني: ولو كان مرةً يأتي في أول الشهر، ومرةً يأتي في وسط الشهر، ومرةً يأتي في آخر الشهر، المهم أن لها تمييزاً، فإنها تعتبر وتعتد بتمييزها.
ما دليل التمييز؟ الدليل هو إجماع أهل العلم على أن من لا عادة لها فإنها تعمل بالتمييز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء)، في حديث حمنة بنت جحش ، ومن المعلوم أن دم الحيض عند النساء معروف ومميز، ويختلف عن دم الاستحاضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق )؛ لأن دم الاستحاضة ينزل من أدنى الرحم، ودم الحيض ينزل من قعر الرحم، وهذا أمر معروف.
واستدل بعض العلماء على دم التمييز والاعتماد عليه -وهو مذهب ابن حزم والمالكية والشافعية؛ لأنهم صححوا هذا الحديث- بما رواه عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف)، فهذا الحديث صححه ابن حزم وغيره.
والصحيح: أن هذا الحديث حديث ضعيف لعلتين:
العلة الأولى: أن المحفوظ كما في الصحيحين عن عائشة عن فاطمة ، فـعروة لم يسمع من فاطمة ، فيكون فيه انقطاع.
العلة الثانية: أن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما أنه أرجعها إلى العادة ولم يرجعها إلى التمييز، هذا هو الراجح كما مر.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يكن لها تمييز صالح)، هذه الحالة الرابعة، وهي التي نسميها: المتحيرة، وهذه المتحيرة لها ثلاث أحوال.
شرع المؤلف في بيان الحالة الأولى فقال: (فإن لم يكن لها تمييز صالح ونسيت عدده ووقته) هذه الحالة الأولى من المستحاضة المتحيرة، وحكمها أنها تجلس غالب الحيض، مر معك رعاك ربي أن غالب الحيض ست أو سبع أو ثمانٍ كما تحيض النساء، هل هذا الأمر بالتشهي أم بالاجتهاد؟
بالاجتهاد، ومعنى الاجتهاد: هو أن تنظر إلى قريباتها، خالاتها، وعماتها، فإذا قلن: إننا نحيض سبعة أيام تجلس سبعاً، وإذا قلن: إننا نحيض أربعاً تجلس أربعة أيام، وعلى هذا فقس.
الآن علمنا العدد وهو غالب الحيض من زميلاتها وقريباتها، وزميلاتها اللاتي في مثل سنها.
وأما الوقت يقول المؤلف: (تجلسه من أول كل مدة علم الحيض فيها)، مثل أن تقول: أنا نسيت العدد، نقول: اجلسي غالب الحيض، فإذا قالت: ونسيت الوقت، قلنا: أتذكرين؟ فإذا قالت: والله! إني أذكر إنه يأتيني في أول الشهر، لكن ما أدري أأوله أو وسطه؟ نقول: ما هو اليقين؟ فإذا قالت: إنه في اليوم الخامس يقين، نقول: اعملي باليوم الخامس، واحسبي غالب الحيض سبعة أيام أو ستة أيام أو ثمانية، وهو ما أشار إليه المؤلف بقوله: (تجلسه من أول كل مدة علم الحيض فيها وضاع موضعه).
وهذه المسألة أخذ بها الحنابلة بغلبة الظن؛ أي: بالتحري، وتركوا قاعدتهم، وهي الأخذ باليقين، فهنا مسألة اليقين أحياناً لا نعلمها، فربما علمنا بغلبة الظن ولم نعلم باليقين، وهذه من المسائل التي تبين لك الرواية الأخرى عند الحنابلة خلاف المشهور عندهم، وهي اختيار ابن تيمية ؛ أن العمل بغلبة الظن أولى من العمل باليقين، والمسألة بحاجة إلى بيان أكثر.
هذه المرأة قالت: أنا أعلم أنه يأتيني في اليوم الخامس أو السادس أو السابع أو الثامن، نقول: تعمل بهذا الأمر، فإن لم تعلم شيئاً كأن قالت: أنا ما أدري، أنا أذكر أنه يأتيني قبل خمسة عشر، نقول: اجلسي من أول الشهر، يعني: من واحد، فإذا قالت الثانية: أنا ما أدري، أنا الذي أعلمه أنه يأتيني من آخر الشهر؛ لأني أذكر أنني في العشر الأواخر أكون غير طاهرة، لكن ما أدري أول العشر أو آخر العشر، نقول: عليك أن تعتدي بالعشر الأخيرة.
فإذا قالت امرأة: أما أنا لا أدري ألبتة، قلنا: بقول المؤلف: (وإلا فمن أول كل هلال)، يعني: إذا كنت لا تعرفين شيئاً فإنك تعتدين بأول كل شهر هلالي، هذا -إن كنت لا تعلمين الموضع ألبتة، ولا تدركين هل هو من أول أو من وسطه أو من آخره، فهذه التي لا تعلم لها ثلاثة أحوال:
الأولى: تقول: أنا أذكر أنه في اليوم الخامس أكون حائضاً، فنقول: اعملي باليوم الخامس.
الثانية: تقول: أنا ما أدري، لكن أذكر أنه يأتيني في الخمسة عشر الأولى، نقول: اعتدي في أول الخمسة عشر الأولى، أو تقول: أنا أذكر أنه يأتيني في العشر الأواخر، نقول: اعتدي في أول العشر الأواخر. هذه الحالة الثانية.
الثالثة: أن تقول: لا أدري، نقول: هل تذكرين أول حيض علم؟ فإذا قالت: لا، قلنا: أتذكرين أنه في أول الشهر أو وسطه أو آخره؟ فإذا قالت: لا، قلنا: اعتدي في أول كل هلالي، هذه الحالة الأولى من المتحيرة التي نسيت العدد والوقت.
الحالة الثانية: قال المؤلف رحمه الله: (كالعادة بموضعه) وفي حاشية الروض مكتوب (كالعالمة) وفي طبعة الشيخ المشيقيح دار الوطن مكتوب (كالعادة بموضعه) والمعنى واحد؛ لأن قوله: (كالعادة بموضعه)، (وكالعالمة بموضعه)، الناسية لعدده، يريد أن يبين لك أن الحالة الثانية من الحالة الرابعة، وهي التي نسيت العدد دون الموضع، تقول: أنا لا أدري كم عدد الأيام، لكن الموضع أدركه تماماً، وهو أن اليوم الخامس من الشهر يأتيني دم، لكن لا أدري كم عدده، فنسألها: هل تميزين؟ فإذا قالت: لا أعلم، قلنا: تجلس في أول الموضع الذي علمته غالب الحيض، إذاً اعتبرنا لها أن تجلس حينما علمت الموضع، وحينما لم تعلم العدد تجلس غالب الحيض؛ كما تحيض النساء.
الحالة الثالثة: وهي أن تنسى موضعه دون عدده؛ تعلم العدد لكن لا تعلم الموضع، وعدم علمها بالموضع يكون لها ثلاث حالات فتجلس متى علمت الحيض فيه، وإلا ففي أول هلالين كما مر.
قال المؤلف في بيان الحالات الثلاث في الموضع: (وإن علمت المستحاضة عدده)، أي: عدد أيام حيضها، (ونسيت موضعه من الشهر، ولو كان موضعه من الشهر في نصفه جلستها، أي: جلست أيام عادتها من أوله)، من أول النصف، أي: أول الوقت الذي كان الحيض يأتيها فيه، يعني: أول النصف الأول، أو أول النصف الثاني، أو أول النصف الثالث، النصف الأول من واحد إلى عشرة، والنصف الوسط من عشرة إلى عشرين، والنصف الثالث من عشرين إلى ثلاثين.
يقول المؤلف: (كمن لا عادة لها ولا تمييز)، أي: كمبتدئة لا عادة لها ولا تمييز، فتجلس من أول وقت ابتدائها على ما تقدم، حينما ذكرنا المستحاضة المبتدئة، وقلنا في حقها مثل ما قلنا هنا، تجلس موضعه، لكن في المبتدئة قلنا: لا بد أن يتكرر، أما هنا فلم نقله.