الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
وصلنا إلى هنا ولم نذكر مسألة حكم الصلاة في الثوب النجس؛ لأن العلماء يفرقون بين الصلاة بالثوب النجس وستر العورة، والصلاة في المكان النجس، أما الصلاة في الثوب النجس ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الصلاة في الثوب النجس لا تصح؛ لأن طهارة الثوب من شروط الصلاة، وذهب مالك رحمه الله -وهو اختيار الشوكاني - إلى أن طهارة الثوب في الصلاة واجب وليس بشرط، قالوا: لأن الأدلة الصحيحة دلت على وجوب طهارة الثوب في الصلاة، ولم تأت أدلة تفيد أن من صلى في الثوب النجس لا تصح صلاته، بخلاف الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، قالوا: فهذا دليل على شرطية الطهارة، لكنه لم يأت دليل يفيد عدم صحة الصلاة في الثوب النجس، بل جاء ما يفيد أن الصلاة صحيحة، كما روى أهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً، فخلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم قال: ما شأنكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما أذى، فإذا جاء أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد فيهما أذى فليمررهما في التراب؛ فإن التراب لهما طهور )، فهذا يدل على أن الصلاة في الثوب النجس مثل الصلاة في النعلين النجسين، وهذا القول في الواقع قول قوي.
وعلى هذا فمن صلى بالثوب النجس جاهلاً أو ناسياً فإن صلاته صحيحة.
قول المؤلف: (أو صلى في ثوب نجس أعاد، ولو لعدم غيره)، يعني: أن من صلى في ثوب نجس أعاد، سواء كان جاهلاً أم ناسياً أم عالماً، وسواء وجد غيره أم لم يجد، فإن وجد غيره فإن الإعادة ظاهرة عند الحنابلة؛ لمخالفته الشرط، وأما إن كان لم يجد غيره قالوا: فإنه يصلي في الثوب النجس؛ لأن الصلاة في الثوب النجس آكد من الصلاة عرياناً، ويؤمر أيضاً بالإعادة إن وجد غيره؛ وعللوا ذلك قالوا: استدراكاً للخلل الحاصل بترك هذا الشرط، وهذه قاعدة عند الحنابلة: أن كل من أخل بشرط ولم يجد غيره فإنه يفعله، فإذا أمكن وجوده بعد ذلك أعاد.
والراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- أننا إن قلنا: إنه يصلي في هذا الثوب النجس حيث لم يمكنه غيره فلا يؤمر بالإعادة؛ لأن الله إذا أمر عبداً بعبادة فلا يؤمر أن يعيدها مرةً أخرى؛ لما جاء عند أهل السنن من حديث ابن عمر : ( إن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين )، وإذا فعل العبد ما أمر به فقد برئت ذمته.
فإن كانت رطبة فإنه يومئ في السجود ما أمكنه قبل أن يصل إلى النجاسة؛ لئلا يسجد على مكان نجس رطب فيتأذى ويصيب البدن، فيجمع بين نجاسة البدن ونجاسة الأرض، هذا هو مذهب الحنابلة.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ، وهي اختيار ابن قدامة رحمه الله: أنه لا يلزمه أن يسجد سواء كانت النجاسة رطبة أم يابسة؛ لئلا يباشر النجاسة، ولكنه يومئ إيماءً؛ لأنه فعل بعض الواجب؛ فإن إيماءه هنا بمثابة من عجز عن القيام فصلى قاعداً، فإيماؤه هنا بمثابة البدل عن السجود.
والراجح أنه إن حبس في مكان نجس صحت صلاته ويومئ في سجوده، أما الركوع فيركع؛ لأنه لا إشكال فيه، لكن في سجوده يومئ؛ لئلا يباشر النجاسة؛ ولأن إيماءه هنا بمثابة البدل عن السجود، فيكون كأنه سجد.
إذاً المحبوس في مكان نجس عند الحنابلة عليه أن يسجد على المكان النجس إذا كانت النجاسة يابسة، لكن الراجح أنه لا يسجد؛ لأنه لو سجد باشر النجاسة، سواء كانت يابسة أو رطبة، وإيماؤه هنا بمثابة البدل عن السجود، فهو كأنه سجد، فكما أن من عجز عن القيام جلس، فيكون الجلوس بمثابة البدل عن القيام، فيكون كأنه قام، فيقال هنا: إن إيماءه بمثابة البدل عن السجود فيكون كأنه سجد.
قال المؤلف رحمه الله: (ويجلس على قدميه)، يعني: لا يضع بدنه وإليته على الأرض تقليلاً من مباشرة النجاسة، ولكنه يجلس جلوس المتحفز الذي يجلس على رجليه فقط، ولا يلصق بإليته الأرض، بل يضع رجليه على الأرض، ثم يضع عضلة الفخذ بعضلة الساق، ولا يجلس على إليته، فهذا يسمى جلوساً، ولكنه ليس جلوساً كاملاً؛ والغرض منه ألا يباشر النجاسة، وهذا القول قوي. والله أعلم.
والراجح صحة الصلاة في الثوب المغصوب، وإذا لم يجد غيره فهذا مما يبذل ولو من غير إذن؛ لأن العارية إن احتاج إليها المسلم وجب على غيره بذله له؛ لقوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] ، وهو كل مالٍ يحتاجه الإنسان أن يعيره إلى صاحبه إن احتاج إليه.
إذاً على مذهب الحنابلة الصلاة في الثوب المغصوب لا تصح، لكن الذي يظهر والله أعلم صحة الصلاة.
وأما أمره بالإعادة بعد ذلك فليس له وجه؛ لأنكم أمرتموه بأن يصلي عرياناً، فإذا صلى بما أمر العبد به فلا يؤمر أن يعيدها مرةً ثانية، والله أعلم.
وهنا فائدة أن الحنابلة فرقوا بين الصلاة في الثوب المغصوب والصلاة في الثوب الحرير، فقالوا: وأما الصلاة في الثوب الحرير فإن لم يجد غيره صلى في الثوب الحرير، ولا إعادة عليه، وعللوا ذلك قالوا: لأن الثوب الحرير يجوز لبسه للحاجة، فيكون مأذوناً له في بعض الأحوال، فإذا جاز لبسه في بعض الأحوال فهذا منها، فالحرير أذن الشارع بلبسه في حق الرجال لمن به حكة، بخلاف المغصوب فلم يأذن الشارع به؛ لأنه ملك غيره، والله أعلم.
العبد الآبق هو: الذي هرب من سيده، فهذا لا يصح نفله، والمقصود بالنفل هنا غير السنن الرواتب عند الحنابلة؛ لأن الفرض وما يستتبعه -يعني من السنن الرواتب- مستثنىً شرعاً فلم يغصبه، ولم يكن في حكم وقت السيد، فإذا كان وقت العبد كله لسيده فإن ما استثناه الشرع وما يستتبعه مستثنى، وعلى هذا فالمقصود به النوافل المطلقة.
وأما الفرض فتبرأ ذمته ولكنه لا يؤجر على ذلك، بل قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وعدم قبول فرضه قوي. والذي يظهر والله أعلم صحة صلاته من حيث إبراء الذمة، ولكنه لا يؤجر عليها؛ لحديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أبق العبد من سيده لم تقبل له صلاة ).
وهنا فائدة فقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن من استأجر نفسه إجارةً خاصة حكمه كحكم العبد الآبق، بمعنى: أنه ليس له أن يتطوع التطوع المطلق إلا بإذن المؤجر، فالذي يتعاقد مع شركة مثلاً أو دائرة حكومية على أنه أجير خاص، فإنه إذا ذهب للصلاة فله أن يصلي السنن الرواتب أو ينتظر الإمام حتى تقام الصلاة؛ لأنه أذن له أن يخرج، لكنه إذا سلم الإمام فله أن يصلي السنن الراتبة، ولا يأخذ بسنن التطوعات المطلقة؛ لأن وقته ملك للمؤجر. إذاً بعض الحنابلة قالوا: إن الأجير الخاص في الحكم في منع التطوعات المطلقة كالعبد الآبق، ونحن نقول: الأقرب أنه مما يتسامح فيه، إلا إذا نصت الشركة بالمنع، وإلا فمثل هذه التطوعات التي لا يقصد بها ذهاب الوقت، أو ذهاب العمل، فإنه يخفف فيها؛ لأن هذا مما يعفو فيه المؤجرون.
قال المؤلف رحمه الله: (وإلا يجد ما يسترها كلها بل بعضها فليستر الفرجين لأنهما أفحش) يعني: ما عنده شيء يسترها أصلاً بل بعضها.
فالحالات حالتان:
الحال الأول: الشخص الذي ما عنده إلا سروال يستر ما بين السرة إلى الركبة، وهذه كفاية عورته، فيستتر وجوباً.
الحال الثانية: ما عنده إلا ما يستر السوأتين، وهو السروال القصير الذي تظهر منه أجزاء من الفخذ، فهنا يجب عليه أن يستر هذه العورة المغلظة، ويصلي قائماً وراكعاً وساجداً؛ لأن وجوب ستر السوءتين واجب حال النظر، وحال الصلاة؛ ولأنه أفحش، يعني: أغلظ.
وذهب ابن قدامة رحمه الله إلى أنه يستر عورته ويصلي قائماً؛ لأن ستر العورة واجب اتفاقاً، وستر المنكب مختلف فيه، ولأن أداء الواجب في ماهية الصلاة أولى من أداء الواجب وهو خارج الصلاة، فالذي داخل الماهية القيام والركوع والسجود، والذي خارج الماهية: ستر العورة، فإذا كان كذلك فإنه يستر عورته ثم يصلي.
والذي أراه والله أعلم في مسألة: إن وجد ما يكفي أحدهما أن الأولى أن يستر قبله دون الدبر؛ لأن العبد إذا ستر قبله فإنه لا يكاد يرى عورته؛ لأن إحدى العورتين سوف تظهر لا محالة، فستر عورته الأمامية تجعله لا ينظر إلى العورة، بخلاف ما لو غطى الدبر فإن ستر القبل غير ممكن، وحينئذٍ يصلي وهو يراه فينشغل، ولهذا نرى أن الأولى أن يغطي القبل ويصلي قائماً.
يعني: يلزم العريان إذا وجد شخصاً يبيع ثياباً، وعنده مال أن يشتري ما يستر عورته، ولو زادت عن ثمن المثل، بما لا يتضرر به صاحبه، يعني: لو زادت القيمة ما زادت إذا كان ذلك لا يضره، هذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن أعير سترةً لزمه قبولها؛ لأنه قادر حينئذ على ستر عورته بما لا ضرر فيه).
بمعنى: أن العريان إذا أعير ما يستر عورته، فإنه يجب عليه أن يقبل العارية؛ لأن الإعارة ليس فيها منة.
قال المؤلف رحمه الله: [بخلاف الهبة للمنة] يعني: لو وهبه شخص هبة فلا يقبلها؛ لأن العارية سوف ترجع إلى صاحبها، وأما الهبة فكأنها تمليك، فلا يقبلها؛ لأن فيها منة، والأصل أن العبد لا يقبل ما فيه منة، والراجح -والله أعلم- أنه إن وهبها له شخص فيقبل؛ لأن هذا من باب قبول الهدية، وقد (كان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها)، فنحن نقول: اقبل؛ لأن الضرر الحاصل بكشف العورة أشد من المنة الحاصلة الظنية، بل يأخذها ويثيب عليها بعد ذلك إن أمكن، ثم إن دعوى المنة ليست في كل الأحوال، فبعض الأحوال يكون المنة للواهب دون الموهوب، وعلى هذا فالأقرب أنه يلزمه بما لا يتضرر بذلك لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يلزمه استعارتها]، والصحيح أنه يلزمه استعارتها إن أمكن؛ لأن هذا من باب الدخول في عموم قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر