الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فنسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد في القول والعمل.
حينما تحدث المؤلف على أن اجتناب النجاسة واجب، وأن فعل ذلك مخالف للشريعة، فرع على ذلك أن حملها ومباشرتها في حكم البقعة.
هنا ذكر مسألة جديدة وهو أن من ارتبط بشيء نجس لا يمكن أن ينفك عنه هل يأخذ حكم حملها بالمعفو أو حملها بغير المعفو؟ مثل من جُبر عظمه بنجس، كأن ينكسر ساقه فيجبر بساق كلب مثلاً، وإن كان هذا في الغالب لا يتأتى، لكن يمكن أن يقاس عليها بعض الجلاتينيات التي توضع في جسد الإنسان وتكون نجسة؛ لأنه ثبت طبياً أن جلاتين الخنزير أكثر تفاعلاً وإبطاءً من غيره، ثم يأتي بعده جلاتين البقر، فوضع الجلاتين في جسد الإنسان خاصةً إذا كان كثيراً، كبعض العمليات الجراحية التي تستخدم فيها مادة الجلاتين، وقد تكون أحياناً نجسة وتوضع بعد الحروق في عمليات التجميل جلاتين الخنزير أو غيره فيأخذ حكم العظم النجس، فيقول المؤلف: (ومن جُبر عظمه بعظم نجس أو خيط جرحه بخيط نجس وشُفي)، يعني: ننظر إذا صح وشُفي فإن لم يمكن إزالة هذا النجس بأن صار مثل الجسد خاصة إذا غطاه اللحم بحيث لا يُرى، فهذا يقول عنه المؤلف: ( لم يجب قلعه مع الضرر )؛ لأن قلعه ضرر عليه، والأصل أن بدن الإنسان مرعي، يعني: مُحافظ عليه وهو من الضروريات الخمس، فلا يجب قلعه مع الضرر إما خوف بدن أو زوال نفس أو عضو ونحو ذلك أو زيادة مرض، هذا إن خشي الضرر.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (إن غطاه اللحم) بحيث لا يُرى هذا النجس، مثل إذا جُبر عظمه بعظم، ثم غطاه اللحم، قال: (لا يتيمم له)، كيف التيمم له؟ سبق أن ذكرنا في باب التيمم أن الحنابلة يجوزون التيمم في غير محل السبيلين، فإذا وجدت نجاسة في غير السبيلين أمر الحنابلة التيمم لها، وقلنا: إن الراجح والله أعلم أن التيمم لا يكون إلا في محل السبيلين، فلو وجدت نجاسة لا ينفك عنها الإنسان فإنها تكون معفوة ولا يتيمم لها؛ لأن التيمم حكم شرعي لم يثبت إلا في موضع واحد وهو السبيلين، فعلى هذا فسواء غطاه اللحم أم لم يغطه اللحم فإنه لا يُتيمم له خلافاً للحنابلة، حيث أنهم قالوا: إن الغسل واجب، وغسله مع أن نجاسته عينية لا تنفعه فيتيمم لهذا العضو، والراجح كما قلنا: إن التيمم لا يكون إلا في محل ثبت في الشرع جواز التيمم له؛ لأن التيمم بدل عن الماء، فإذا أمكن استعمال الماء جاز، وكون العظم نجس مع جبره يكون كحكم عضو الإنسان.
أما إن لم يخف ضرراً، فحينئذ يجب عليه إزالته، ولهذا نقول في العمليات التجميلية: إنه يحرم استعمال مادة جلاتين الخنزير إذا أمكن الاعتياض عنه بجلاتين البقر، وأما إذا كانت النجاسة العينية مغمورة في الدواء أو مغمورة في بدن الإنسان بحيث لا تُذكر فهذا جائر؛ لأن الغمر لا يكون له حكم كما قال الفقهاء: ولو قطر قطرة من خمر في إناء كبير بحيث لم تظهر في الإناء لم يحرم استعماله؛ لأنه ليس بخمر ولا أثر للخمر فيه.
أما أبو حنيفة رحمه الله وبعض السلف كـمحمد بن سيرين و إبراهيم النخعي والإمام الزهري وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، فقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن العظام والسن مما لا تحله الحياة وأنه ليس بنجس، وقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن محمد بن شهاب الزهري : أنه سئل عن عظام الموتى كالفيل؟ فقال: أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها لا يرون فيها بأساً، يعني العاج من سن الفيل، وقال الإمام البخاري وقال محمد بن سيرين و إبراهيم النخعي: لا بأس في تجارة العاج، يعني: لا بأس بتجارة سن الفيل، وهذا هو قول أبي حنيفة واختيار ابن تيمية رحمه الله، وذكرنا أن السن حياته حياة نباتية فلا تحله الحياة، وما يكبر ويصغر فإنما نماؤه كنماء النبات، وأما العظام فالعظام في الغالب يكون فيها الدم ولو كان قليلاً، فالاحتياط هو ما ذكرته، أما العظام فإن فيها الدم، والاحتياط تركه والله أعلم.
وأما عن تسميته السن بعظم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين السن والعظم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة )، يعني: فسكين الحبشة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما السن فعظم)، اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فهل النهي بأنه من طعام الجن أو غير ذلك على بحث معروف عندهم، لكن الذي يظهر والله أعلم أن من العظام ما يكون فيه الدم ومن العظام ما لا يكون فيه الدم، فالحكم معلق بوجود الدم، والله أعلم.
والعلماء رحمهم الله ذكروا أن وصل المرأة شعرها بشيء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: وصل المرأة شعرها بشعر آدمي أو قريباً منه بأن يكون شعراً غير آدمي مصنوع لكنه قريب من شعر الآدمي، فهذا محرم، أما وصله بشعر آدمي فهذا متفق على تحريمه، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك كما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة )، وجاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود ، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر ، وهذا ثابت وهو من كبائر الذنوب، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذات الزور يعني الباروكة، ومثل ذلك ما تصنعه بعض النساء مما يوجد في الأسواق يسمونه العوام بلهجتهم المعروفة كُنكة توضع آخر الشعر، تجمع المرأة شعرها ثم تلفه بشيء وهو الذي نسميه الأعقصة تعقصه بشعر مثله بحيث لو رآه أحد ظن أن هذا شعر المرأة، فهذا محرم، سواء جمعت شعرها فوضعته في لفائف، أو وصلت شعرها بأن لبست الباروكة، تجمع ضفائرها وتوصلها بشعر آدمي أو قريباً من شعر الآدمي كل ذلك محرم.
والقول الثاني في المسألة: أن ذلك محرم أن تصل المرأة شعرها بأي شيء، والعجب أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر أن هذا القول هو مذهب الجمهور وينبغي أن يُتحقق من ذلك.
والراجح والله أعلم أن وصل المرأة شعرها بشيء ليس من الشعر ولا قريباً منه ليس بحرام؛ أما المحرم فهو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : ( ذات الزور )، ومن المعلوم أن الزور هو التحسين وإظهار الشيء على خلافه، ووصل الشعر بشيء ليس من الشعر لا يكون زوراً، والله أعلم.
الرموش الصناعية تحتوي في الغالب على مادة لزجة توضع على الرموش، وهذه المادة اللزجة تضر بالعين، وقد ثبت طبياً أنها تؤثر في حساسية العين، فهي تُمنع من هذا الوجه، لكن هل يكون ذلك وصلاً؟
الذي يظهر أن عموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى أن تصل المرأة شعرها بشيء )، يشمل كل شعر والله أعلم.
الحنابلة ومع تجويزهم بأن تصل المرأة شعرها بشيء من غير الشعر قالوا: وتركها لهذا الشيء أفضل؛ لأنهم يرون أن ذلك خروج من الخلاف، والخروج من الخلاف فيما كان الخلاف له حظ من النظر عندهم مستحب؛ لأن الخروج من عهدة الطلب مطلب، فالخلاف إذا كان له حظ من النظر فيستحب العلماء رحمهم الله الخروج منه بالترك.
والمقبرة اسم لما يُدفن فيه من الآدميين، وذهب أبو محمد ابن قدامة إلى أن المقبرة لا تسمى مقبرة إلا بأن يُدفن فيها ثلاثة فصاعداً، وأما إذا دفن فيها واحد أو اثنان فلا تسمى مقبرةً، يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يوجب منع الصلاة عند قبر من القبور.
واستدل العلماء على هذا القول وهو الراجح أن النهي إنما هو عام سواء كان في قبر واحد أو قبرين أو أكثر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تتخذوا القبور مساجد )، فالقاعدة في لغة العرب أن مقابلة الجمع للجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد، كقوله: ( لا تتخذوا القبور مساجد )، القبور جمع، والمساجد جمع، فيكون كل فرد من هذا الجمع مقابل كل فرد من الجمع الآخر المقابل له فيكون لا يتخذ قبراً من القبور مسجداً من المساجد، وعلى هذا فالنهي هنا عام في قبر أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وعلى هذا فتفريع بعض الحنابلة المتأخرين بقولهم: (ولا يضر قبران)، ليس بصحيح.
أما عن حكم الصلاة في مسجد فيه قبر فيقول المؤلف: (ولا تصح الصلاة في مقبرة) سواء كانت هذه المقبرة في بيت خلافاً للحنابلة، أو قبراً واحداً، فكل ذلك يكون مقبرةً، وقد اتفق الفقهاء على أن بناء مسجد على قبر محرم ولا يجوز، واتفقوا أيضاً على أنه لا يجوز دفن ميت في مسجد باتفاق الأئمة الأربعة، إذا ثبت هذا فهل تصح الصلاة في مسجد فيه قبر؟
من المعلوم ابتداءً أن القبر إذا كان قد وضع في مسجد فكان المسجد هو الأول وجب نبش القبر؛ حرمة للمسجد، لأن المعتدي لا حرمة له، فيكون هذا القبر معتدياً فيجب إزالته، وأما إن كان القبر وضع أولاً فبُني عليه مسجد فيجب هدم المسجد أو تسوية القبر بحيث لا يظهر، بدليل؟ ما جاء في الصحيحين عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال فيه أنس : ( فكان فيه ما أقول، كان فيه نخل وقبور، فأما القبور فنُبشت وسويت )، فإذا سوي بالأرض بحيث لا يظهر منه شيء ذهب حكمه، يعني إن أمكن نبشه وتسوية الأرض فهذا هو الأصل، وإذا لم يمكن فلا تجوز الصلاة فيه، أما من حيث صحة الصلاة فالمسألة على أقسام:
القسم الأول: أن يصلي إلى القبر كأن يكون القبر وضع في القبلة فهذا لا تصح الصلاة فيه؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ).
القسم الثاني: أن يصلي في مسجد وبعد انتهاء الصلاة علم أن فيه قبراً سواء كان إلى القبلة أو خارج المسجد، فالحنابلة لا يصححون، والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة؛ لأن النهي هنا عائد على على أمر خارج، وهذا هو اختيار ابن سعدي رحمه الله؛ لأن البقعة طاهرة.
القسم الثالث: أن يصلي في مسجد والقبر ليس في القبلة ولكنه في فناء المسجد، وقد حُوط، فهذا تصح الصلاة فيه؛ لأن المسجد هنا ليس مقبرة؛ لأن المقبرة -كما قلنا- لها فناء ولها حريم، وهذا ليس منها، وإن كان الأولى والواجب هو إزالة هذا القبر، والصلاة في غير هذا المسجد، إلا أن الصلاة تصح، فإذا لم يوجد مسجد في بلاد عربية إلا مثل هذه المساجد التي لها قبور في الفناء وحضرت صلاة الجمعة فلا بأس أن يصلي المسلم، إذا كان القبر خلف المسجد أو في فنائه دون المبنى الذي فيه المحراب، لأنكم لو تذهبون إلى بعض المساجد تجدون القبور في الأفنية التي نحن نسميها باحة المسجد من الخلف، وأحياناً يكون حديقة ملاصقة للمسجد ليست في قبلة المسجد، فهذا يجب على المسلمين، ويجب على التجار أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يبنوا مساجد ليس فيها قبور، وقد ذهبنا إلى بعض البلاد العربية مع الأسف الشديد لم نجد مساجد إلا أقل القليل، وأما المسافر فإن صلاته مع جماعته أولى من صلاته في مثل هذا، والله أعلم.
أولاً: أن الآدمي طاهر في الحياة.
والثاني: لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أرضه قبور ( فأما القبور فنُبشت )، ومن المعلوم أن القبر لو نُبش فإنه يبقى فيه بعض بقايا العظام، ولو كانت العلة النجاسة لما بنى صلى الله عليه وسلم مسجده عليها.
وقال بعضهم: إنما كان النهي لأجل الخوف من عبادتها، أو التعلق بها، وهذا القول أظهر وأصح والله تبارك وتعالى أعلم.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل العبادة في كل ما يوجد فيها من مخالفة للشرع، حينما سأله رجل قال: ( يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال: هل فيها وثن من أوثانهم يُعبد؟ قال: لا )، ومن المعلوم أن القبر الذي يوضع في المسجد ولو كان في الفناء فإنه يُنهى عن الصلاة فيه وإن كانت الصلاة صحيحة؛ لأن ذلك نوع من تعظيم هذا القبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد )، فجعل القبر نوعاً من الوثن إذا توجهت القلوب والنفوس بالسجود له، نسأل الله العافية والسلامة.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر