الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها أي: من شروط الصلاة استقبال القبلة أي: الكعبة أو جهتها لمن بعد، سميت قبلة لإقبال الناس عليها, قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144], فلا تصح الصلاة بدونه أي: بدون استقبال إلا لعاجز كالمربوط لغير القبلة والمصلوب وعند اشتداد الحرب، وإلا لمتنفل راكب سائر لا نازل في سفر مباح طويل أو قصير إذا كان يقصد جهة معينة، فله أن يتطوع على راحلته من حيثما توجهت به, ويلزمه افتتاح الصلاة بالإحرام إن أمكنه إليها، أي: إلى القبلة بدابة أو بنفسه، ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة, وإلا فإلى جهة سيره، ويومىء بهما ويجعل سجوده أخفض, وراكب المحفة الواسعة والسفينة والراحلة الواقفة يلزمه الاستقبال في كل صلاته].
ذكر المؤلف أن من شروط الصلاة استقبال القبلة, وأشار (بالقبلة - أي: الكعبة - أو جهتها) بأنه سوف يفصل هل يجب على المصلي استقبال عين الكعبة أم جهتها؟ وهذا له حالتان: الحالة الأولى: إن كان قريباً. والحالة الثانية: إن كان بعيداً كما سوف يأتي تفصيله.
واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة, أجمعت عليه الأمة؛ لقول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، فأمر الله سبحانه وتعالى بتولية القبلة، وتولية القبلة لا يكون إلا باستقبالها والتوجه إليها.
وقد قال ابن عمر رضي الله عنه كما روى البخاري وغيره في قصة تحول الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يصلون في قباء حينما بلغهم أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة, قال: ( بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة )، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء صلاته: ( ارجع فصل فإنك لم تصل, فلما أعاد ثلاثاً قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر ).
وقال المعلق على الزاد: (سميت قبلة لإقبال الناس عليها)؛ لأن الناس يتوجهون إليها، ويقابلونها بوجوههم, فهذا سبب تسميتها قبلة؛ ولهذا قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:150].
وعلى هذا فلا يجوز أن يستقبل الإنسان غير الكعبة أو غير جهتها إلا لعاجز، قال المؤلف: (إلا لعاجز كالمربوط لغير القبلة)؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وهو بين أمرين، بين ألا يصلي البتة, وبين أن يصلي إلى غير الكعبة، وصلاته في الوقت إلى غير الكعبة أولى من عدم صلاته وهذا معروف؛ لأن غاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإمكان.
وقد قال العلماء: لا محرم مع الاضطرار، ولا واجب مع العجز، فالمربوط لغير القبلة والمصلوب يصليان كيفما اتفق وكذلك عند اشتداد الحرب، وقد روى نافع عن ابن عمر كما عند البخاري أنه قال: ( فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها )، وهذا في حال اشتداد الحرب، فإن الحرب إذا اشتدت سقط وجوب استقبال القبلة؛ لقوله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، يعني: صلوا وأنتم مترجلين وإلا وأنتم راكبين.
ومن المعلوم أن الإنسان وقت الحرب سواء كان راكباً أو ماشياً إما أن تكون القبلة قبل وجهه أو لا تكون وقد أمر أن يصلي, فدل ذلك على أن العاجز عن استقبال القبلة يسقط عنه هذا الحكم.
يعني: هب أنني أنا الآن من أهل الرياض وسافرت إلى جدة وأنا في طريقي إلى قضاء حاجتي في جدة وقفت في إشارة السيارة أريد أن أصلي تطوعاً، هل يجوز لي أن أصلي وأنا مسافر ولكن لم يجد بي السير، قولان عند أهل العلم, وهما روايتان عن أحمد .
القول الأول: وهو مذهب جمهور الفقهاء، كما نقله أبو العباس بن تيمية رحمه الله أنه لا يصح التطوع راكباً في المصر ولو كان في حالة سفر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو في معنى المنقول؛ لأن الذي جد به السير لو لم يجز له التطوع لأفضى إلى ترك التطوع، وأما الذي في المصر فليس ثمة حاجة إلى ذلك, وليس هذا أيضاً في معنى ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد , وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يصنع ذلك في المصر.
والذي يظهر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أشد حرصاً على أداء التطوعات والمستحبات، وقد كان ابن عمر لا يصنع ذلك إلا إذا جد به السير، وما نقل عن أنس تفرد به الجارود بن أبي سبرة عن أنس , وهو وإن كان صدوقاً، إلا أنه لا يحتمل تفرده كما سوف يأتي تفصيله أيضاً.
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عند الإمام أحمد و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله جميعاً إلى أن السفر متى ما وجد جازت رخصه؛ لأن رخص السفر متعلقة به لا بالمعصية، وهذا القول أظهر من حيث الدليل والله أعلم، وقد مر معنا في المسح على الخفين.
ولهذا لو كان ثمة بحث للفرق بين السفر القصير والسفر الطويل عند الجمهور في الأحكام لكان حسناً، وهذا من الأمثلة التي لا يفرق فيها بين السفر الطويل والسفر القصير.
فالحنابلة رحمهم الله اشترطوا ذلك مع الإمكان؛ واستدلوا على ذلك بما رواه الجارود بن أبي سبرة عن أنس رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه ). والحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيرهما، وحسنه الحافظ في البلوغ وابن الملقن في البدر المنير و عبد الحق الإشبيلي في كتاب الأحكام، والذي يظهر والله أعلم أن هذا الحديث شاذ؛ لأمور:
أولاً: لأن الأحاديث الصحيحة وهي أصح من حديث أنس كحديث ربيعة بن عامر وحديث ابن عمر وحديث جابر وهذه الأحاديث في المتفق عليه لم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستقبل القبلة حال تكبيرة الإحرام، هذه العلة الأولى.
ثانياً: أن الجارود بن أبي سبرة وإن كان صدوقاً لكنه لا يحتمل تفرده؛ ولهذا روى البخاري و مسلم عن أنس: ( أنه كان يتطوع على راحلته ولم يذكرا أنه كان يستقبل القبلة حال تكبيرة الإحرام )، والقاعدة عند المتقدمين أن رواية الراوي على خلاف فعله أو قوله يدل على أن الرواية المرفوعة ضعيفة.
أما طريقة علماء الأصول وبعض العلماء المتأخرين من أهل الحديث فإنهم يقولون: العبرة بما روى لا بما رأى, وهذا ليس بصحيح؛ فإن الأئمة يضعفون الأحاديث بهذه الطريقة، فالإمام البخاري ضعف حديث أبي هريرة الذي يرويه عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقى عمداً فليقض ) قال: صح عن أبي هريرة خلاف ذلك, فضعف هذا الحديث سبب ذلك، ومثله الإمام أحمد .
وكذلك ضعف الإمام أحمد حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي في مسلم في الرجل الذي وقصته ناقته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه )، في رواية في مسلم : ( ووجهه )، قال الإمام أحمد صح عن ابن عباس من حديث أبي حسان عن ابن عباس أنه قال: ( يغطي المحرم وجهه ) فضعف الرواية المرفوعة: والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً.
وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أنه لا يلزم استقبال القبلة خلافاً للحنابلة ولأجل هذه الرواية نقول: يستحب أن يستقبل ولكن لا يجب, والله أعلم.
ويفيد قول المؤلف: (ويركع ويسجد إن أمكنه ذلك) أنه واجب، وإن لم يمكنه إلا بمشقة فليس بواجب, والراجح والله أعلم أنه لا يجب ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (وإلا فإلى جهة سيره، ويومئ بهما ويجعل سجوده أخفض) في بعض النسخ: أخفض من ركوعه؛ لما روى الإمام أحمد و الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق, والسجود أخفض من الركوع ) وهذا الحديث قال عنه الترمذي : حسن صحيح.
الحنابلة يرون سقوط استقبال القبلة لعاجز أو لمتنفل راكب أو لمتنفل ماش قياساً على الراكب، قالوا: لكن يلزم المتنفل الماشي أن يستفتح ويركع ويسجد إلى القبلة؛ لأن ذلك أيسر له من حال الركوب، ودليلهم على الجواز قياساً على الراكب, وهل هذا القياس مستقيم؟
الذي يظهر والله أعلم أن القول الثاني هو الراجح وهو عدم صحة التطوع من المسافر الماشي؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وليس هو أيضاً في معنى المنقول؛ لأن الراكب حركته في الصلاة قليلة، وأما الماشي فحركته في الصلاة كثيرة، وحركته تمنع من الصلاة, وإنما جاز أن يصلي ماشياً حال الخوف؛ لأجل تعارض الوقت، فلولا الوقت لما جاز أن يصلي ماشياً حال الخوف، فإن كان الخوف أشد صلوا قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها كما يقول ابن عمر عند البخاري ؛ ولأن ذلك لم ينقل عن واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والله أعلم.
أي: داس النجاسة وهو ماش بطلت صلاته؛ لأن الحنابلة والشافعية يرون أن طهارة المكان وطهارة الثوب شرط لصحة الصلاة، فلو داسها وهو عالم فإن صلاته باطلة؛ لكنه لو داسها ثم خلع نعليه صحت الصلاة عندهم؛ لأنه أمكنه إزالتها، وأما إن وطئها متعمداً فصلاته باطلة، ولو داستها دابته فتصح صلاته؛ لأنه لم يتصل بالنجاسة، فإذا جاز أن يصلي على دابة نجسة كالحمار؛ لما روى مسلم و أبو داود ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمار ) وهو نجس فلأن يطأ الحمار النجاسة الحسية أولى بالجواز؛ لأن نجاسة الحمار نجاسة عينية لا تطهر؛ ولهذا يفرقون بين النجس والمتنجس، وعلى هذا فالصلاة صحيحة إذا وطئت الدابة نجاسة، والله أعلم.
فيقولون: لم يعذر من عدلت به دابته إلى غير جهته وإلى غير القبلة، فمن عدلت به دابته أو عدل هو إلى غير القبلة وإلى غير جهته -أي: جهة سيره- مع علمه بذلك بطلت صلاته، فلو كان متجهاً جهة الشمال لأن سيره إلى ذلك فقال له شخص: أريدك أن تذهب إلى الوادي الذي من جهة الشرق، فذهب وهو يصلي فإن الصلاة حينئذٍ باطلة.
قال المؤلف رحمه الله: [أو عذر وطال عدوله عرفاً بطلت]، يعني: إن كان معذوراً بأن التفتت الدابة إلى جهة المشرق فإن كان قادراً على تحويلها إلى جهة سيره أو إلى جهة القبلة ولم يفعل بطلت صلاته, وإن كان غير قادر نظر, فإن طال الفصل بطلت, وإن لم يطل صحت, هذا هو مذهب الحنابلة.
وأما قولهم: إن اتجه إلى غير جهة سيره، قالوا: لأنه ترك قبلته عمداً، فقبلته إما استقبال الكعبة وإما استقبال وجهة سفره، فإذا عدل عنهما فكأنه استقبل غير القبلة, والله أعلم.
والوجه الآخر عند الحنابلة أن الصلاة صحيحة؛ لأنه كالعاجز عن استقبال القبلة، فتصح صلاته, وهذا القول أقعد؛ فإذا جوزنا له أن يتنفل راكباً وذهبت الدابة جهة المشرق, وعجز عن ردها, قلنا: حكمه كحكم العاجز عن استقبال القبلة كالمصلوب، وعند اشتداد الخوف، والعاجز ونحو ذلك، هذا أظهر والله تبارك وتعالى أعلم.
لعلنا نقف عند هذا, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر