بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد: فقد قال المؤلف رحمه الله: [وتسن تسوية الصف بالمناكب والأكعب، فليلتفت عن يمينه فيقول: استووا يرحمكم الله، وعن يساره كذلك، ويكمل الأول فالأول، ويتراصون عن يمينه، والصف الأول للرجال أفضل، وله ثوابه وثواب من وراءه ما اتصلت الصفوف].
حكم تسوية الصفوف
قول المؤلف رحمه الله: (ويسن تسوية الصف)، تسوية الصفوف تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تسويتها بمعنى: التراص في الجملة، والاعتدال، وعدم التقدم الشديد، فهذا الذي يظهر والله أعلم أنه واجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يصلي فوجد أحد الصحابة قد تقدم فقال: ( عباد الله! لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم )، وهذا لا يتأتى في ترك سنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة حينما خرج على أصحابه فرآهم بهذه الطريقة، قال: ( ما لي أراكم عزين )، يعني: الإمام يصلي وبعض الناس جالسون؛ ثلاثة عن اليمين وأربعة عن اليسار وعشرة في الوسط ومتفرقون، هنا يجب التراص في الجملة.
القسم الثاني: تسوية الصفوف بالمناكب والأكعب، كما كان النبي صلى الله عليه سلم يصنع، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم )، فهذا سنة، وهو قول عامة أهل العلم، وهو المقصود بتسوية الصف في كلام الفقهاء، وقد جاء في الصحيحين من حديث النعمان أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا كما يسوي القداح )، فهذه السنة يمكن تسويتها بأن يتقدم الإمام ويسوي الصفوف.
إلا أننا نلاحظ أن كثيراً من الأئمة هداهم الله يكتفي بأن يلتفت عن يمينه فيقول: استووا وعن يساره فيقول: استووا، فيكبر وهناك بعض الناس في الصف الثاني لم يتموا الصف الأول!
فأقول: يتقي الله الأئمة في عدم إنقاص الصلاة بسبب تصرفات بعض الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة )، فهي تمام لنا جميعاً، وليس لواحد، فلا بد أن يهتم بهذا الأمر، لا يبالغ، لكن لا ينبغي أن تهدر هذه السنة.
كذلك يوجد من المصلين من يصف صفاً ثانياً وثالثاً ورابعاً ولم يكتمل الصف الأول بعد، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري : ( تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من خلفكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، وهذا يدل على أنه لو ترك الصف الذي أمامه قبل اكتماله فإنه مكروه، وهذا المذهب، وهو قول صاحب الإنصاف، وهذا الأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تقدموا )، وأقل الأمر الاستحباب: (وائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، وينبغي للإنسان أن يستحضر النية حينما يصف، خاصةً خلف الإمام؛ لأن الناس خلفك ربما يتابعون فعلك، فاستحضر الأجر المترتب على متابعة الآخرين لفعلك فتؤجر على ذلك، واستحضار النية واحتساب الأجر في الأشياء أعظم أجراً ممن لم يستشعرها، فأنت إذا خرجت من المنزل لم تخط خطوة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة، فإذا استحضرت ذلك فهذا أجر لك، ولهذا يقول العلماء: النية تجارة العلماء؛ لأن العلماء يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً باستحضارهم النية، والله أعلم.
ما يقوله الإمام عند تعديل الصفوف للصلاة
المقصود بالتراص عند تسوية الصفوف للصلاة
قال المؤلف رحمه الله: (ويتراصون)، التراص قبل الصلاة يكون بالمناكب والأكعب، وأثناء الصلاة يكون بالمناكب، ولا يقصد المبالغة بحيث يكون غالب وقت الإنسان منشغلاً بأن يضع رجله مماسة لرجل صاحبه، ويكون هذا شأنه وديدنه، فليس هذا بمقصود، وأما قول
أنس : (
فلقد رأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعب صاحبه)، فمن المعلوم أن إلصاق الكعب بالكعب لا يتأتى إلا قبل الصلاة وإلا للزم في ذلك تكلف واضح.
على هذا: لا ينبغي المبالغة في مثل هذا، والمهم في هذا: ألا يكون هناك فرج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تذروا فرجات للشيطان )، والغريب أنكم إذا وجدتم جماعة لا يأتمون بهذه الصفوف، تجدون عندهم عدم الخشوع في الصلاة، سبحان الله! والسبب هو دخول الشيطان على هذا الصف، وأما الصف المكتمل فإن الشيطان بعيد عن قلوب هذه الجماعة في الجملة، والله أعلم.
ولهذا كان الصحابة يهتمون بتراص الصفوف، حتى أن جبير بن نفير قال: يوشك أن تدخل هذا المسجد فلا تكاد تجد فيه خاشعاً، يعني: كان فيه خشوع، الآن لا تكاد تجد فيه خاشعاً، هكذا يقول الراوي رضي الله عنه.
خير صفوف الرجال والنساء في الصلاة
فضل الوقوف عن يمين الإمام في الصف
فضل القرب من الإمام في الصلاة
أفضلية الصف الأخير للنساء عند الصلاة مع الرجال
قال المؤلف رحمه الله: [والصف الأخير للنساء أفضل].
لحديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، وقلنا: إن بعض أهل العلم يقول: يكون هذا إذا كان النساء ليس لهن مصلى مستقل، والمسألة محتملة حقيقة، لكن الذي يجب أن نعلمه: أن وجود المرأة تصلي أمام الرجل، أو مماسة له، أن ذلك مكروه إذا كانت تصلي، وأما إذا كانت لا تصلي فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي و عائشة بينه وبين القبلة على السرير، وهذا يدل على الكراهة في قول أكثر أهل العلم، خلافاً لـأبي حنيفة فإنه رأى أن الصلاة تبطل، والصحيح أن الصلاة لا تبطل، وأن المرأة تكون خلف الصف، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقول قائماً في فرض مع القدرة: الله أكبر، فلا تنعقد إلا بها نطقا؛ لحديث (
تحريمها التكبير ) رواه
أحمد وغيره، فلا تصح إن نكسه أو قال: الله أكبر أو الجليل ونحوه، أو مد همزة الله أكبر، أو قال: أكبار، وإن مططه كره مع بقاء المعنى، فإن أتى بالتحريمة أو ابتدأها أو أتمها غير قائم صحت نفلاً إن اتسع الوقت].
قول المؤلف رحمه الله: (ويقول قائماً في فرض مع القدرة)، يعني: يجب على المصلي حال أداء الفرض أن يقول: الله أكبر وهو قائم؛ لأنه إذا قال ذلك وهو جالس فقد ترك ركنية القيام، ولهذا أشار إلى أنه إذا لم يقلها صارت نفلاً، لأنه يجوز للإنسان أن يصلي وهو قاعد، وهذا في حق من كان قادراً على القيام، كما سوف يأتي بيان ذلك في أركان الصلاة.
والمؤلف يقول: يجب أن يقول: الله أكبر، كما هو مذهب الحنابلة والمالكية، لأن هذا لفظ داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه عليه الصلاة والسلام في فرض ولا نفل، والمداومة في العبادة في الفرض والنفل يدل على الوجوب، والله أعلم.
إلا أنه يجوز تخفيف الهمزة بأن يقول: الله وكبر؛ لأن هذا جائز في اللغة، لأنهم قالوا: إن الهمزة المفتوحة إذا سبقها مضموم خففت وقلبت واواً، فإذا قلت: الله وكبر فهذا جائز في اللغة، فهو مثل قولك: الله أكبر.
قوله: (فلا تنعقد إلا بها نطقاً)، وهذا في حق من كان قادراً عليها، وأما من كان غير قادر فيجب أن يتعلمها، فإن ضاق وقت الصلاة قالها كيفما اتفق.
قال المؤلف رحمه الله: (لحديث ( تحريمها التكبير ) ) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وغيره من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية يعني: ابن علي بن أبي طالب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )، وهذا الحديث في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل وصحح الإمام البخاري و مسلم أحاديث في سندها عبد الله بن محمد بن عقيل وقال البخاري في عبد الله هذا: مقارب الحديث، وهو حسن إن شاء الله.
وعلى هذا إذا قلنا: إن اللفظ الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر، (فإن نكسه بأن قال: أكبر الله لم يجزئ)، أو قال: الله الأكبر، فإن الشافعي يقول: إن قال: الله الأكبر جاز، وأما الحنابلة فلا يجوزوه، والقول بالجواز يقويه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير )، فإنك إذا قلت: الله الأكبر، فإنك لم تخرج من النص، إلا أن المداومة دليل على الأفضلية، والله أعلم.
أما أن تقول: الله الجليل، أو الله العظيم، فإنك لم تكبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير )، فإن قلت: الله أو أكبر لم يجزئ؛ لأنك لم تكمل، وإن قلت: أكبار فالمؤلف قال: لا يصح، قالوا: لأن الصلاة لم تنعقد؛ لأن أكبار جمع كَبرَ، وهو بفتحتين الطبل، (وإن مططه كره مع بقاء المعنى)، مثل أن يقول: الاااااه أكبر، هذا تمطيط، ويكره، كما كره عمر بن عبد العزيز الأذان حينما كان رجل يطرب في أذانه فقال: إما أن تؤذن أذاناً سمحاً سهلاً وإلا فاعتزلنا.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن أتى بالتحريمة أو ابتدأها أو أتمها)، يعني: أتى بها وهو غير قائم، أو ابتدأها ثم قام، فكأن جزءاً من اللفظ لم يقم به، أو أتمها بأن قال: الله أكبر، وهو غير قائم ثم قام، كل ذلك يجعل الصلاة تنقلب من فرض إلى نفل؛ لأنه يجوز القعود في صلاة النفل ولا يجوز في الفرض، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل قاعداً على النصف من صلاة الرجل ).
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله.