الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان المصلي في ثلاثية كمغرب، أو رباعية كظهر، نهض مكبراً بعد التشهد الأول، ولا يرفع يديه ].
أي: إذا كان الإنسان في التشهد الأول، ويريد أن يقوم إلى ثلاثية المغرب، أو إلى الركعة الثالثة من الأربع، فإنه ينهض مكبراً بعد التشهد الأول، وقلنا: إن السنة هنا أن يعتمد على الأرض أول الأمر، ثم يعتمد بعد ذلك على صدور قدميه؛ لحديث ابن مسعود : ( كان يعتمد على صدور قدميه ) وحديث وائل بن حجر لا يصح؛ لأن فيه انقطاعاً فـعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه كما مر معنا، والذي يظهر أنه يعتمد على الأرض ابتداءً، ثم يعتمد على صدور قدميه جمعاً بين أثر ابن مسعود وبين حديث مالك بن الحويرث : ( واعتمد على الأرض ) كما عند البخاري ، وإذا قام واستتم قائماً فإن المؤلف يقول: ولا يرفع يديه؛ لأن العلماء اختلفوا في رفع اليدين إذا قام من الثنتين هل يرفع أم لا؟
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يرفع؛ لأن أكثر الروايات عن ابن عمر في عدم الرفع.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول لـمالك وقول للشافعي ، ورواية عند الإمام أحمد اختارها ابن تيمية رحمه الله أنه يرفع يديه، وقد مر معنا هذا الأثر، وقلنا: إن الصحيح أنه يرفع يديه أربع مرات في الصلاة، وأن الرواية الرابعة تفرد بها عبيد الله بن عمر العمري المصغر عن نافع عن ابن عمر ، و عبيد الله ثقة ثبت، ثم إن ابن عمر لم يتفرد بهذه الرواية، فقد روي عن علي رضي الله عنه كما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي وصححه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من السجدتين رفع يديه وكبر )، وكذلك في حديث أبي حميد الساعدي .
قول المؤلف رحمه الله: (بالحمد) أي: بالفاتحة فقط، يعني: فلا يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد مر معنا الخلاف في ذلك، وقلنا: أنه يستحب في كل ركعة، وهو قول الشافعي واختيار ابن تيمية بل بالغ ابن حزم فقال بوجوب التعوذ في كل ركعة، فالسنة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، وأما ما ورد من قول بعضهم: فلم أسمع أحداً منهم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإنما المقصود به الجهر بها.
قال المؤلف رحمه الله (فقط) يعني: أنه لا يزيد في الركعة الثالثة والرابعة عن الفاتحة، وهو مذهب جمهور الفقهاء، قالوا: السنة ألا يزيد عن الفاتحة، واستدلوا بما جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب فقط ).
قالوا: وأما ما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه كما رواه البيهقي أنه كان يقرأ في الركعة الرابعة: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8] فقد أشار الطحاوي في شرح معاني الآثار إلى أن أبا بكر إنما قال ذلك في حرب المرتدين، فكأنه دعاء وقنوت، وليس ذكراً على أنه بعد الركعة الثالثة، فكأنه قنوت بينه وبين نفسه.
والقول الثاني في المسألة: أنه يستحب للمرء أن يفعل ذلك أحياناً؛ لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك )، يعني: خمس عشرة آية، ومن المعلوم أن آي الفاتحة سبع، والزائد ثمان، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أحياناً.
ومما يدل على أنه أحياناً رواية أبي قتادة أنه يقرأ بفاتحة الكتاب فقط، وكان يقرأ ذلك أحياناً، دليل على أنه يفعل هذا مرة، وهذا مرة.
وذهب ابن حزم إلى أنه يفعل ذلك في الظهر فحسب، لحديث أبي سعيد ؛ ( ويقرأ في الركعتين الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية، وفي الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك )، وهي سبع الفاتحة، قال ابن حزم : ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، وهذا القول وجيه، لكنه مبني على الوقوف عند النص وعدم القياس مع نفي الفارق، والسنة هو أن يفعل ذلك أحياناً، ويترك أحياناً، وإن كان الأكثر هو الترك، والله أعلم.
وقد ذكر المؤلف صفة التورك قال: بأن (يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى) وفرش اليسرى أن يجعل ظهر قدمه على الأرض، وقد ذكر العلماء صفة ذلك، والمحفوظ أنها لا تخرج عن ثلاث صفات:
الصفة الأولى: هي التي ذكرها المؤلف بأن يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويجلس على إليته اليسرى، وهي الصفة المعروفة.
الصفة الثانية: أن يفرش رجله اليسرى، ويفرش رجله اليمنى من غير نصب، يعني: تكون أصابعه مستقبلاً بها القبلة بل يفرشها.
الصفة الثالثة: أن يجعل رجله اليسرى بين عضلة ساقه وعضلة فخذه، ويفرش اليمنى، وهذا ورد في صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن الزبير .
وقد ذكر شراح الحديث صفة رابعة كما ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار: وهي أن يفرش اليسرى، ويجعل رجله اليمنى مفروشة مستقبلاً بها اليسرى، يعني: لا ينصبها، ولا يفرشها، بل يجعلها على جنبه، ولكن الذي يظهر والله أعلم، أن الصفة، صفتان: نصب اليمنى، والجلوس على إليته اليسرى، وفرش اليسرى، أو أن يجعل الرجل اليسرى بين عضلة ساقه وفخذه.
وأما رواية يفرش اليمنى أو ينصبها، فهذه مبنية على تفسير ما معنى النصب والافتراش والله أعلم.
ولو قيل: بأن اليمنى تنصب أحياناً وتفرش أحياناً بأن تجعل ظهر القدم اليمنى على الأرض لم يكن ببعيد.
أما الصفة الرابعة فبعيدة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويخرجهما عن يمينه، ويجعل إليتيه على الأرض، ثم يتشهد، ويسلم ].
الحنابلة يرون أن التورك إنما يفعل إذا كان في الصلاة تشهدان، فيفعل التورك في التشهد الثاني، وأما إذا لم يكن في الصلاة إلا تشهد واحد فإنه لا يتورك.
وذهب الشافعية إلى أنه يتورك في كل تشهد يعقبه سلام؛ لحديث أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حتى إذا كان في الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى، وجلس على شقه متوركاً ثم سلم )، والشاهد قوله: (حتى إذا كان في الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر)، قال: فهذا يدل على أنه يتورك في التشهد الأول في صلاة الفجر، والتشهد الثاني في الظهر والعصر والعشاء، يعني: في الركعة التي تنقضي بها صلاته.
وذهب مالك إلى أنه يتورك في كل تشهد، فيتورك في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الثاني؛ لأثر ابن عمر رضي الله عنه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجلس على اليسرى وينصب اليمنى، كما في الجلسة بين السجدتين، ولا يرى التورك، فهذه أقوال أربعة.
والذي يظهر والله أعلم هو مذهب الحنابلة؛ للجمع بين الأحاديث؛ لقول عائشة : ( في كل ركعتين التحية، وكان إذا جلس بعد الركعتين يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى )، هذا الذي يظهر، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا كان في الركعة التي تنقضي فيها صلاته) فسرتها رواية البخاري : (وإذا جلس في الركعة الآخرة)، ومعنى (الآخرة) يعني: الثانية، هذا الذي يظهر، والمسألة محتملة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: إن المرأة مثل الرجل فإذا أرادت أن تكبر رفعت يديها، وإذا أرادت أن تركع رفعت يديها، وهصرت ظهرها، لما في حديث أبي حميد ، ولا تصوب رأسها، ولا تشخصه.
وذهب إبراهيم النخعي وهو قول الإمام البخاري ، وقول أم الدرداء إلى أن المرأة تفعل مثل ما يفعل الرجل، وهو تبويب البخاري ، وقد ذكر البخاري أثر أم الدرداء وقال: وكانت تجافي في صلاتها، قال البخاري : وكانت فقيهة، و أم الدرداء ليست هي الصحابية المعروفة، ولكنها التابعية، وكانت امرأة فقيهة والله أعلم.
وعلى هذا، فقول المؤلف: تضم نفسها مرجوح، والراجح أنها مثل الرجل، إلا إذا كانت أمام رجال، وتخشى على نفسها أن تبرز مفاتنها فلها ذلك؛ لأن هذه حالة استثنائية.
قولان عند أهل العلم، والذي يظهر أن لها أن تجهر، وهو اختيار ابن تيمية ، فإذا صلت بالنساء المغرب، أو الفجر، أو العشاء، فإن الذي يظهر والله أعلم أنها تجهر خلافاً للرواية الأخرى عند الحنابلة، لكن إن سمع أجنبي، فالراجح والله أعلم أن صوت المرأة ليس بعورة، فلا حرج إذا كانت تصلي بالنساء أن تجهر.
قال المؤلف رحمه الله: (وخنثى كأنثى) لأنه لا يعلم هل هي رجل أم لا، فيغلب جانب الأنثوية.
ويسن له أن يقول ما ورد في حديث عبد الله بن الزبير : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )، وكان الرسول صلى الله عليه سلم يهلل بها دبر كل صلاة.
وعلى هذا فيقول: أستغفر الله ثلاثاً، ثم يقول بما في حديث عبد الله بن الزبير : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )، ثم يقول بما في حديث المغيرة : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).
الصفة الثانية: أن يقول: ( سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً )، وهذا إسناده جيد رواه الإمام أحمد .
الصفة الثالثة: أن يقول: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين.
الصفة الرابعة: أن يقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه الروايات المعروفة عند أهل العلم.
وقد ذكر أبو العباس بن تيمية في الاختيارات صفة خامسة، هي أن يقول ثلاثاً وثلاثين سبحان الله، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين فقط، والذي يظهر أن هذه مختصرة من الرواة، فهو إما أن يقول تمام المائة: لا إله إلا الله، أو يقول تمام المائة: الله أكبر.
استحب طائفة من الحنابلة، وطائفة من الحنفية أن يدعو المصلي بعد الفريضة، والذي يظهر والله أعلم أن الدعاء الجماعي لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا شك أن الالتزام بهذا بدعة؛ لأن العبادة مبناها على التوقيف، ولكن المسلم إذا كان في بلد يصنع ذلك فإنه ينبغي له أن يتحبب إليهم، ويبين لهم السنة مرة تلو المرة حتى يألفوها، ولا ينفر نفوسهم وقلوبهم عنها.
وقد منع أبو العباس بن تيمية أن يدعو المصلي دبر كل صلاة، وقال: لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا، وقال: كل الأحاديث الواردة في ذلك فإنما هي قبل السلام.
ويشكل على هذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث البراء قال: ( كنا نحب أن نكون عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سلم في صلاته استقبلنا تلقاء وجهه، وقال: اللهم قني عذابك يوم تبعث -أو تجمع- عبادك )، والحديث نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد السلام، ولكن أكثر الرواة يرون أن هذه الزيادة تفرد بها بعض الرواة، ولهذا رواه النسائي في الكبرى بغير هذه اللفظة، والذي يظهر أن هذا مما انتقد على مسلم روايته، والذي يظهر أنه ليس فيه: ( رب قني عذابك يوم تبعث -أو تجمع- عبادك ).
ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر