الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ فإن طال الفصل عرفاً بطلت لتعذر البناء إذاً، أو تكلم في هذه الحالة لغير مصلحتها، كقوله: يا غلام! اسقني بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) رواه مسلم ، وقال أبو داود فكان لا يصلح، لا يحل ككلامه في صلبها أي: في صلب الصلاة فتبطل به للحديث المذكور، سواء كان إماماً أو غيره، سواء كان الكلام عمداً أو سهواً أو جهلاً طائعاً أو مكروهاً؛ أو وجب لتحذير ضرير ونحوه، وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضاً أو نفلاً، وإن تكلم من سلم ناسياً لمصلحتها فإن كثر بطلت وإن كان يسيراً لم تبطل ].
ويستدل على جواز البناء إذا لم يطل الفصل بما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ركعات ثم سلم ثم دخل بيته، فأخبره الصحابة بأنه لم يكمل صلاته، فخرج يجر إزاره عليه الصلاة والسلام ثم قام فصلى )، يعني: أكمل بهم الصلاة، وهذا يدل على أنه لا بأس بالبناء إذا لم يطل الفصل، وإطالة الفصل بالعرف سواء دخل بيته أو لم يدخل بيته، أتى بمنافٍ للصلاة غير الحدث أو لم يأت، تكلم لمصلحة الصلاة أو لم يتكلم لمصلحة الصلاة، بل لأمور أخرى، كما سنذكره وهو خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله، لكن المؤلف هنا أشار إلى أنه إذا لم يطل الفصل عرفاً فإن له أن يبني.
يعني: أن الإنسان إذا سلم ولم يكمل صلاته، فهل يجوز له أن يبني على صلاته لو رجع؟
قال المؤلف: يجوز لكن بشروط:
أولاً: ألا يطول الفصل؛ لأنه إذا طال الفصل لم يصح البناء.
ثانياً: إذا تكلم في هذه الحال لغير مصلحة الصلاة، مثاله: لو أن شخصاً صلى إحدى صلاتي العشي، فسلم من ركعتين، فتحدث بعد ذلك لغير مصلحة الصلاة كقول المؤلف: (يا غلام! اسقني) أو: كيف حالك يا فلان؟ كيف حال مزرعتك؟ كيف حال سيارتك؟ كيف حال الأسهم؟ كل هذا كلام لغير مصلحة الصلاة، فإذا تكلم في غير مصلحة الصلاة، ولو كان مأموماً فإنه لا يجوز له أن يبني ويتم صلاته؛ لأن هذا مثله مثل لو تكلم متعمداً والإمام يصلي.
وقد ذكرنا سابقاً أن الإنسان إذا تكلم عامداً في الصلاة بطلت صلاته، ونقلنا في ذلك الإجماع، فقالوا: إن هذه الحالة الإجماعية مثلها مثلما لو تكلم الإنسان لغير مصلحة الصلاة، إذا سلم ولما ينه صلاته، هكذا قالوا رحمهم الله، وقد أشرنا إلى أن الرواية الثانية عند الإمام أحمد رحمه الله واختارها أبو العباس بن تيمية أنه لا بأس للإنسان أن يبني على صلاته ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة جاهلاً أو ساهياً، أما العامد فلا يصح.
ومما يدل على ذلك حديث ذي اليدين حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له ذو اليدين : ( يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس، ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت، فقال: أحق ما يقول
الشاهد في الحديث: ( فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة )، فهذا الكلام إخبار للناس، فكأنه خطاب للآدميين لغير مصلحة الصلاة، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر هؤلاء بأن يعيدوا الصلاة، ولا يحق لهم أن يبنوا كما بنى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن المعلوم أن من الصحابة من تحدث كعادة الناس أن يتحدثوا بعد السلام، فيسأل أحدهم عن شئون صاحبه وخاصته، ولو كان ثمة وجوب في هذا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذان دليلان يدلان على أنه لا بأس بأن يبني المرء على صلاته الأولى، ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة، ولو طال الكلام، وقد ذكرنا أنه ربما يطول الفصل ويقل الكلام، أو يطول الكلام ويقل الفصل.
فقلنا: إن طال الفصل وقل الكلام فالعبرة بإطالة الفصل.
وأما إن قصر الفصل وطال الكلام فإن الحنابلة يبطلونها إذا كان كثيراً ولو لمصلحتها، أو قليلاً لغير مصلحتها، والراجح أنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فلا حرج عليه في ذلك، وأن له أن يبني.
قال المؤلف رحمه الله: (بطلت صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) ) قلنا: الجواب على هذا: إن هذا في حق العامد العالم بالحال، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة معاوية بن عبد الحكم حينما تكلم غير عالم ولا عامد، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ككلامه في صلبها).
يعني: فكما أنه لو تكلم في صلب الصلاة لغير مصلحتها تبطل كذلك، والكلام الذي لمصلحة الصلاة مثل أن يفتح على الإمام.
قال المؤلف رحمه الله: (أي: في صلب الصلاة، فتبطل به للحديث المذكور).
هذا غريب، فإن معاوية بن عبد الحكم تكلم في غير مصلحة الصلاة: فإنه عندما عطس رجل من القوم، قال له: ( يرحمك الله، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، يقول
يعني: كان المتحدث لغير مصلحة الصلاة إماماً (أو غيره) يعني: منفرداً أو مأموماً.
(وسواء كان الكلام عمداً أو سهواً، أو جهلاً) هذا المذهب فيمن تحدث لغير مصلحة الصلاة، والرواية الأخرى عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية : أنه لا بأس أن يبني على صلاته؛ لحديث معاوية بن عبد الحكم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة؛ فإنه تكلم في غير مصلحة الصلاة، فكما أن من تكلم لغير مصلحة الصلاة جاهلاً أو ناسياً تصح صلاته فكذلك إذا تكلم بعد السلام، ولما يكمل صلاته لغير مصلحتها، فله أن يكمل صلاته، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (طائعاً أم مكرهاً).
المكره يعني: المتكلم بكلام لا إرادي، مثل: لو أن شخصاً يصلي فضربه شخص بقوة فتكلم، أو بكى أو قال: والله لأفعلن وهو لا يدري، فكل هذا فعله مكرهاً ولم يعلم بنفسه، أو خرج من غير إرادته، فمثل هذا الكلام تبطل به الصلاة على المذهب، وعلى الرواية الثانية: وهو الراجح أن صلاته صحيحة.
قال المؤلف رحمه الله: (أو وجب لتحذير ضرير ونحوه).
يعني: أو تكلم لما يجب أن يتكلم به، كما لو كان يصلي فرأى ضريراً يمشي فخشي أن يسقط في البركة مثلاً، فإنه يجب عليه أن يتكلم، ويقول له: قف! أمامك بركة أو مسبح، قالوا: ومع أننا نوجب على المصلي أن ينبه الضرير ونحوه، فإننا أيضاً نوجب عليه أن يقطع صلاته، وهنا تحدث لمصلحتها، أم لغير مصلحتها؟ لغير مصلحتها.
وهل يجب عليه أن يتحدث أم لا؟ يجب عليه أن يتحدث، فالذي يظهر أن العلماء -رحمهم الله- ذكروا هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنها تبطل صلاته وهو مذهب الحنابلة.
القول الثاني: أن صلاته صحيحة؛ لأن حديثه هنا واجب، وما كان واجباً عليه لم تبطل به صلاته، مثله مثل مخاطبة الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أحق ما يقول
أما لو خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يصلون فيجب عليهم أن يردوا عليه؛ لأن إجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، وهي أعظم من سكوتهم في الصلاة؛ لأن سكوتهم في الصلاة واجب، ووجوب مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم ولكن لم يأت دليل يبين أن صلاتهم صحيحة، ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدث مع أبي وهو يصلي لم يجبه، قال: ( ما منعك أن تجيبني وقد خاطبتك؟ قال: يا رسول الله! إني كنت في صلاة، قال: أو ما علمت أن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] ) ثم سأله: عن أعظم آية في القرآن؟
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجيبه، وهذا يدل على أنه إذا تعارض واجبان قدم أعظمهما.
وعلى هذا فالراجح أنه إن كان حديثه لغير مصلحة الصلاة عامداً بأمر واجب لا تبطل صلاته، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضاً أو نفلاً).
إن تكلم لمصلحة الصلاة بكلام كثير فإن الحنابلة يقولون: تبطل صلاته. سواء كانت فرضاً أم نفلاً، فجوزوا الكلام لمصلحة الصلاة إذا كان يسيراً، وأبطلوا الصلاة إذا كان الكلام لغير مصلحتها يسيراً أم كثيراً.
هنا صرح صاحب الزاد أن الحديث لمصلحة الصلاة إن كان كثيراً يبطلها، وإن كان قليلاً لا يبطلها، واستدل بحديث ذي اليدين : ( أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت، قال: أحق ما يقول
قالوا: فكانت مخاطبة الصحابة قليلة، فإن كثر بطلت الصلاة، فالحنابلة استدلوا بحديث ذي اليدين وهي واقعة عين، فقالوا: إنهم لم يتحدثوا إلا قليلاً، قلنا لهم: صحيح أنهم لم يتحدثوا إلا قليلاً لكن أنى لكم أنهم لو تحدثوا كثيراً لبطلت الصلاة؟ فليس ثمة دليل واضح على بطلان صلاة من تكلم لمصلحة الصلاة، ولو كثر، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني الذي يدل على أنه لا تبطل الصلاة بالكلام الكثير: حديث عمران بن حصين عند مسلم حينما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ولم يكمل الصلاة، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب حينما يدخل بيته يتحدث مع أهله، وتحدثه مع أهله لغير مصلحة الصلاة، ومن الغالب أن من الصحابة من تحدث وأكثر الكلام في ذلك، ولو كان ثمة فرق بين القليل والكثير لمصلحتها أو القليل لغير مصلحتها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدل ذلك -أي: حديث ذي اليدين ، وحديث عمران- على أن الإنسان إن تحدث لمصلحة الصلاة ولو كثيراً، أو تحدث لغير مصلحة الصلاة ولو كثيراً إذا لم يطل الفصل في الجميع أن الصلاة صحيحة، هذا القول الثاني في المسألة، وهو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال الموفق : هذا أولى، وصححه في الشرح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و ذا اليدين تكلموا وبنوا على صلاتهم، وقدم في التنقيح وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً ].
صاحب الزاد يرى إن كان العمل يسيراً لمصلحة الصلاة فإن الصلاة لا تبطل، وقال الموفق : (هذا أولى، وصححه في الشرح)، أي: في الشرح الكبير، وهو شرح المقنع ابن قدامة، ثم قال: (وقدم في التنقيح وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً).
يعني: على القاعدة أن العبرة بما في المنتهى، فإن المذهب خلاف ما اختاره صاحب الزاد، فإنه إن تكلم لغير مصلحة الصلاة، أو لمصلحة الصلاة تبطل، ولهذا قال: (وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً)، وقوله مطلقاً يعني: سواء تكلم لمصلحتها ولغير مصلحتها، يسيراً أو كثيراً، ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله تعالى عليه- كما في الدرر السنية: وغالب ما في الإقناع والمنتهى مخالف للراجح في مذهب الإمام أحمد ، وهذه العبارة أشكلت على كثير من طلاب العلم؛ لأن المعروف عند الحنابلة أن غالب ما في المنتهى هو المذهب عند الحنابلة، فنقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقصد من ذلك -والله أعلم- مخالف للراجح في الدليل لنصوص الإمام أحمد ، فإن الإمام أحمد له نصوص تؤيد القول الراجح بدليله، وإن كان صاحب المنتهى والإقناع لم يأخذا بها لنصوص أخرى والله أعلم.
يعني: أنك لو رأيت الإنسان يصلي فسلمت عليه فلا بأس بذلك؛ لأنه ورد عن الصحابة أنهم سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، كما في صحيح مسلم من حديث جابر ، وكما في حديث صهيب ، وكما عند أهل السنن من حديث ابن عمر ، وقالت طائفة: يكره ذلك، كما نقل عن عطاء ، و أبي مجلز ، و إسحاق ؛ لأن في الصلاة شغلاً، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: ( سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم حينما جئت من الحبشة، وقد كان إذا سلم عليه قبل ذلك يرد السلام، قال: فلما قدمت من الحبشة سلمت على الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليّ السلام، فوقع في قلبي ما شاء الله أن يقع، قال: فلما سلم قال: إن في الصلاة لشغلاً ) هذا دليل القول الثاني.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس بذلك، وبالغت طائفة فقالت: يستحب، والأقرب الجواز؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه أن يسلم بعضهم إذا جاء، وإنما كان ذلك فعلاً فعله الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، والإقرار على الشيء يدل على الجواز لا على الاستحباب.
وبعضهم يقول: إنها كانت بالإصبع، كما جاء عند الإمام أحمد و النسائي أن الصحابي قال: وأشار بأصبعه، فهي ثلاثة أحوال: إشارة باليد، وإشارة بالرأس، وإشارة بالإصبع، أو بالأصابع، لكن الإشارة بالإصبع فيها رجل يقال له: نائل تكلم فيه، والله أعلم.
والإشارة بالرأس أيضاً في حديث عبد الله بن مسعود تكلم فيها الحفاظ كـالبيهقي وغيره، وقال: إن أحد الرواة يقال له أبو يعلى محمد بن الصلت تفرد به، وهو يهم في بعض أحاديثه، والمعروف أن الراوي إذا كان يهم، أو له أوهام وتفرد بالرواية فلا تصح، ولهذا كان الأقرب أن السنة هي أن يشير بيده، فإن أشار برأسه فلا حرج؛ لأن المقصود من ذلك إخبار المسلم بأنني فقهت سلامك.
وهل إذا سلم يرد عليه السلام؟ الحنابلة يقولون: (وإن رده بالكلام بطلت، ويرده بعده استحباباً، لرده -صلى الله عليه وسلم- على ابن مسعود بعد السلام) الرسول صلى الله عليه وسلم رد على عبد الله بن مسعود بعد السلام، وهذا الحديث أخرجه أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه، وفي سنده عاصم بن بهدلة الذي يسمى عاصم بن أبي النجود ، صاحب القراءات، وهو ثقة في القراءات إلا أن حديثه في السنة إذا تفرد به ليس بذاك، وهذا الحديث مما تكلم فيه الحفاظ عليه؛ وذلك لأن الحديث أصله في الصحيحين، ولم يرد أنه سلم عليه، وقلنا: إن هذا نوع من التفرد، ولو صح فليس فيه ما يدل على أن من سلم على شخص وهو يصلي فإنه يرد عليه بعد السلام؛ لأن عبد الله بن مسعود لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، يعني: بعد ما جاء من الحبشة، فهذا السلام إنما لأجل رؤيته ولقياه، لا لأنه سلم عليه أولاً، ومن المعلوم أن عبد الله بن مسعود ربما يكون انصرف يميناً أو شمالاً، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حال بينه وبين الصحابة شجر أو شيء سلم مرة ثانية، فالسلام الثاني لم يكن لأجل رد السلام الأول الذي لم يكتمل، وإنما كان ذلك لأجل أنه قابله بعد ذلك، وعليه فلو جاء شخص وأحد الناس يصلي، فقال: السلام عليكم، فأشار بيده، ثم سلم، وبينه وبينه شخص أو شخصان، لو قلنا: يستحب أن يسلم عليه لكان السنة إذا سلم المصلي أن يتقصد السلام على صاحبه، لكنه إذا لم يكن ثمة أمر يحتاج إلى ذلك فإنه ليس ثمة السنة على الراجح، والله أعلم.
يعني: لو كنت أصلي، فجاء فسلم عليّ، فمددت يدي فسلمت عليه، لكني لم أخاطبه بلساني، فإن الصلاة لا تبطل، على المذهب وعلى غير المذهب، إذا كان السلام فقط بالمصافحة، لأننا قلنا: إن الحركة اليسيرة لغير مصلحة الصلاة تصح مطلقاً، ولكنها تكره كما ذكر الحنابلة رحمهم الله.
قول المؤلف: وقهقهة ككلام يعني: أنها تبطل الصلاة، وهو قول عامة أهل العلم واختيار ابن تيمية أيضاً، بل بالغ بعضهم فنقل الإجماع على ذلك، فقد نقل ابن المنذر أنهم أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة، والذي يظهر والله أعلم أنه ليس في المسألة إجماع، ولكنه من المعلوم أن القهقهة كما يقول ابن تيمية : تخالف الصلاة، وتنافي الخشوع، وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة.
وهم يقولون: إن خرج منه حرفان أو كلمتان مثل أن يقول: قه قه بطلت صلاته، أما لو قال: قه فقط، هه فقط، فإنه لا تبطل صلاته حتى يكرر.
قال المؤلف رحمه الله: (ذكره في المغني وقدمه الأكثر) يعني: قدم أكثر المصنفين في مذهب الحنابلة هذا الأمر، سواء كان عامداً أم لا، مثلاً: وهو يصلي ذكره شخص بنكته، فضحك، فإنها تبطل صلاته، بل بالغ الحنفية فقالوا: تبطل الصلاة، ويبطل الوضوء، وإنما ذكروا ذلك لما نقل عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود ، ولا يصح عنه رضي الله عنه.
وإذا خرجت، يعني: منه نهدة، أو قهة واحدة، وأمسك نفسه، فالقول بأن صلاته تبطل محل نظر مثل لو قال: أهه حينما ضحكه شخص، فهذا لو استأنف الصلاة فلا حرج، خاصة إذا لم يكن عن عمد، فإن بعض الناس يغلب عليه هذا الأمر، أما لو كثر، حتى خرج عن ماهية الصلاة، فهذا فيه نوع من الاستخفاف، ويذهب مقصود الصلاة، أما إذا كانت كلمة، أو مرة، فلا يظهر لي -والله أعلم- بطلان الصلاة خاصة أنه لم يرد حديث في هذا والله أعلم.
والقهقهة والضحك المقصود به الاستمرار هذا هو الغالب، أما أن يكون نهدة أو هواء يخرج، فإن الصلاة -إن شاء الله- صحيحة، وإن كان الأحوط أن يعيد.
وقال بعضهم: إن التبسم يفسد الصلاة، كما قال ابن سيرين في قول الله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19] قال: لا أعلم التبسم إلا ضحكاً. ولكن الراجح هو قول الأئمة الأربعة على أن التبسم لا يفسد الصلاة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر