الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب صلاة التطوع وأوقات النهي. والتطوع لغة: فعل الطاعة، وشرعاً: طاعة غير واجبة، وأفضل ما يتطوع به الجهاد، ثم التفقه فيه، ثم العلم تعلمه وتعليمه من حديث وفقه وتفسير ثم الصلاة ].
قول المؤلف: (باب صلاة التطوع) من باب إضافة الشيء إلى نوعه، فالصلاة جنس ذوات أنواع، فمن أنواعها صلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر وغير ذلك مما ذكره المؤلف، والتطوع كما ذكره المؤلف (لغة: فعل الطاعة، وشرعاً: طاعة غير واجبة) وهي طاعة أمر الشارع بها لا على وجه الإلزام.
وقد جاءت أحاديث في فضل كثرة الطاعة من الصلاة ونحوها، كما جاء عند الإمام أحمد وغيره من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصلاة خير موضوع، فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقل )، وهذا الحديث حسنه الألباني ، وهو قد جاء من طريقين:
من طريق أبي أمامة ، وفي سنده علي بن يزيد الألهاني الذي يرويه عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة ، وهذه السلسلة أنكرها كثير من الأئمة كـيحيى بن معين وغيره.
وكذلك جاء من طريق أبي ذر ، وفي سنده أبو عمرو الدمشقي وفيه ضعف، وجاء من وجه آخر من حديث أبي ذر ، ولا يصح الحديث.
ومن المعلوم أن الصلاة هي أول ما يحاسب عليه الناس يوم القيامة، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة قال الله: انظروا لعبدي هل له من تطوع فتكمل به فريضته؟ وكذلك سائر الأعمال ) وفي رواية: ( وكذلك الزكاة وفي سائر الأعمال )، يعني: أن سائر الأعمال المفروضة من صلاة وصيام وزكاة وحج إذا كانت عبادته الفرض قد نقصت، فإن عبادته التطوعية تكمل بها الفرض، وأنا ذكرت هذا الحديث بهذا الإسناد؛ لأنه أحسن شيء في هذا الباب، وإلا فقد جاءت طرق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أكثر الإمام النسائي في المجتبى من رواية هذا الحديث مما يدل على صحته، والله تبارك وتعالى أعلم.
وذهب أحمد رحمه الله في رواية أخرى إلى أن أفضل العبادات بعد الفرائض العلم لمن صحت نيته، قالوا: يا أبا عبد الله ! فكيف تصحيح النية؟ قال: يقصد به التواضع ورفع الجهل عن نفسه وعن الناس، أو كما قال، وهذا هو قول مالك و أبي حنيفة : أن أفضل التطوعات بعد الفرائض هو العلم.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن أفضل التطوعات بعد الفرائض هي الصلاة، وكأن هذا الخلاف مبني على تصور كل إمام للأحاديث الواردة في ذلك، فأنتم تعلمون أن الصلاة هي أول ما يحاسب به الناس، وهي التي تستكمل بها الفرائض، فدل ذلك على أهميتها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به )، ولكن هذا الحديث دليل على أن النوافل لفظ عام يشمل سائر التطوعات، ولأجل هذا كان لـأحمد رواية اختارها أبو العباس بن تيمية قال: وهو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن ذلك على حسب الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، فربما جاء شخص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: ( أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الصلاة لوقتها، قال: ثم أي؟ قال: أن تعتق رقبة وغير ذلك )، وجاءه آخر، فقال: ( عليك بالجهاد )، وجاءه آخر فقال: ( عليك بالصوم فإنه لا مثل له )، كما عند النسائي من حديث أبي أمامة ، وجاءه آخر، فقال: ( لا تغضب )، وجاءه آخر، فقال: ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى ).
فأنتم ترون أن هذه الأحاديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه الطاعة على حسب الزمان، فإنه في وقت أهمية الجهاد ودحر الأعداء، ونشر الإسلام يحثه عليه الصلاة والسلام على الجهاد، وفي حال انتشار الإسلام أو ضعفه يحث على كثرة الصلاة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]، وفي بعض الأزمنة، فإنه عليه الصلاة والسلام يحث على كثرة الذكر والطاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من أيام العمل الصالح فيها (أيام العشر) خير وأحب إلى الله في مثل هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله ) ففضل الطاعة اللازمة من صلاة وصيام على الجهاد في سبيل الله، فدل ذلك على أن هذا يختلف على حسب الأحوال والأشخاص، ويختلف على حسب الإنسان نفسه.
ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: وإن الله قد وزع وقسم الأرزاق كما قسم العبادات، ففتح لأناس الصلاة، وفتح لأناس العلم، ولا أراني -يعني: بذلك الذي كتب له، وهو عبد الله بن عمر المكبر - ولا أراني الذي أنت فيه بأفضل من الذي أنا فيه وهو العلم؛ لأنه عاتبه باهتمام مالك بالعلم، وقلة الطاعة عنده؛ لأن مالكاً لم يكن من العباد الذين قد عرفهم عبد الله بن عمر المكبر ، فكان مالك رحمه الله كثير البزة، كثير الهندام، وكان يهتم بنفسه، حتى قيل كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتاب الانتقاء: كان مالك ينفق على نفسه ثلاثمائة درهم. يعني: ثلاثمائة شيء كثير، حتى إنه كان ليس بيده شيء، فكان الليث بن سعد يعطيه كل سنة مائة ألف درهم، فكان ينفق ثلثها على خاصة نفسه، فكأن بعض العباد أنكر ذلك على الإمام مالك ، كما نقل عن عبد الله بن عمر المكبر ، فكتب لـمالك رسالة في ذلك، فقال مالك : ما أنا بالذي أنا فيه بأقل من الذي أنت فيه، وأرانا يا أخي كلانا على خير. وهذا يدل على أن الإنسان على حسب حاله، وقد جاء في الأثر، وإن كان في سنده ضعف: ( إن من عباد الله من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لكفر -يعني: كفر بنعمة الله- وإن من عباد الله من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقرته لكفر )، وهذا يدل على أن الناس بحسب الأحوال.
والشيء الأعم هو كثرة التقوى، كما أشار إلى ذلك ابن حزم و أبو العباس بن تيمية رحمه الله لكن المذهب اختار (الجهاد، ثم النفقة فيه) لأمرين:
الأمر الأول: لأن الله سبحانه وتعالى قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس إلا في آية واحدة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، وإلا فكل القرآن الذي ذكر الله فيه الجهاد بدأ فيه: يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [التوبة:44].
الأمر الثاني: لأن النفقة سبب لوجود الجهاد، فما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب، وهذه قاعدة أصولية، لكن كيف نفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية؟
القاعدة الفقهية: هي التي تثبت بنصوص شرعية، كالأمور بمقاصدها، والعادة محكمة.
وأما القاعدة الأصولية: فهي معرفة الأحكام بأدلتها الإجمالية، فهي أخذت بمفهوم أدلة النص الشرعي، وهي عبارة عن دليل عام يشمل فروعاً معينة، أو متنوعة.
وكذلك المقصود بالعلم الذي يكون خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن أعظم مزلة هي مزلة التفاخر والتباهي بالعلم، وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث سليمان قال له: ناتل أهل الشام عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، فجثا
وهذه مسألة مهمة ليس العلم بأن تلقب بالدكتور.
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يقال لكم عند
فلا ينبغي للإنسان أن يقف على مستوى من العلم بأن يحظى بلقب دنيوي، ولكن ليكن همه رفع الجهل عن نفسه، وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى حينما يجبن الناس عن بيان الحكم الشرعي، كما قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، وهذا يدل على خطورة هذا الأمر.
ومن المعلوم أن من أسدى الله له نعمة فيجب عليه أن يزكيها، فمن حباه الله مالاً فإن زكاته أعظم ممن لم يعطه ذلك، ومن حباه الله علماً فلا بد أن ينفق على الناس بالعلم، بأن يكثر من مجالس العلم، ويفتي الناس بذلك، ويكون مبسوط السريرة منشرح البال، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما قال عبد الله بن مسعود ، وذكره أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ويا ليت لو وضعنا واجباً منزلياً، بأن نقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله، كل واحد يقرأه لوحده، وكأن هذا الكتاب رثاءً لك ولعملك، ودينك، اقرأ هذا الكتاب، وكأنه يخاطبك أنت، فتجد اهتمام السلف وتورعهم رضي الله تعالى عنهم، وليس المراد حينما تقرأ بعض آثار السلف أن تحجم عن تعلم العلم وعن تعليمه، وعن التصدر، فإن مثل ذلك إنما هو بقصد النية، وليس المقصود أن يظهر الإنسان على الناس، ولكن المقصود أن يعلم الناس العلم.
الآن كم عندنا من دكتور؟ كم عندنا من حاصل للشهادات العليا؟ لكن كم عدد طلاب العلم الذين يجلسون في المجالس وفي المدارس، وفي المساجد؟
الغريب أنك إذا طلبت من أحدهم أن يجلس في المسجد، قال: المشكلة أن طلاب العلم قليل، فهو يريد أن يكثر الناس، وبالمقابل هذا الذي يريد أن يكثر الناس إذا ذهب إلى قاعة الجامعة فوجد الناس كثير، قال: مشكلة كثير، كيف يتعلمون العلم؟ المفترض أن يكون الفصل لا يزيد عن عشرة، أو ثلاثين، أو خمسة وعشرين، طيب! لماذا يطلب القلة في الجامعة، ويطلب الكثرة في المساجد!! أنا أتعجب حقيقة، إلا أنه ينبغي لنا أن نراجع أنفسنا، ونراجع قلوبنا، فالمسألة خطيرة ومزلة قدم، فينبغي للإنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يكون قصده تعليم الناس العلم، والحث على ذلك، وأعظم شيء أن يعبد الله سبحانه وتعالى بالفقه في الدين.
ولا شك أن شرف العلم بشرف المعلوم، ولأجل ذلك كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يهتمون بتأويل القرآن أعني تفسيره، ولأجل ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس ، فقال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه القرآن )، وفي رواية: ( وعلمه التأويل )، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، يقول ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، حتى نقل عطاء و طاوس قال: خطبنا ابن عباس يوم عرفة، ففسر لنا البقرة آية آية، والله لو سمعها الترك وأبناء الترك لأسلموا.
يا ليت عندهم مسجلات حتى نسمع التسجيل! فهذا يدل على أن علم الصحابة أفضل من علم من جاء بعدهم، فليس العلم بكثرة الكلام؛ ولأجل هذا ذكر الإمام ابن رجب في فضل علم السلف على الخلف أن ابن عباس مع كثرة ما ينقل عنه من فتاوى ليس بأعلم من أبي بكر و عمر ، فـأبو بكر أحاديثه تعد بالأصابع، ولكنه أفضل الناس وأعلم الناس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن عبداً خيره الله بما عنده، أو بالدنيا فاختار ما عنده، فبكى
ولا بد أن يكون الإنسان (طالب العلم) واثقاً من نفسه وثوق المعرفة، وليس وثوق الإعجاب، فإن بعض الناس ربما يتمسك بقوله ورأيه فقط، من غير رؤية علمية، ونظرة ثاقبة، لا، نحن نريد من طالب العلم أن يكون واثقاً من علمه، يعني: إذا سئل إنما يجيب وكأن العلم بين عينيه يراجع معلوماته، ولأجل ذلك فضل الإمام أحمد مراجعة العلم على قيام ليلة، وهذا نقله عنه غير واحد أن أحمد كان يرى مذاكرة العلم خير من إحياء ليلة مما يدل على أهمية المذاكرة والمراجعة بينه وبين نفسه، بينه وبين إخوانه.
وكان الأئمة يراجعون محفوظاتهم، يقول: ماذا تحفظ في أحاديث الوتر؟ فيقول: أحفظ حديث كذا، وحديث كذا، وحديث كذا، وحديث كذا، يقول: ما ترى في حديث أبي أيوب يقول: حديث أبي أيوب الصواب وقفه، فقد رواه فلان وفلان، وخالفوه في فلان، يذكرون بالرموز، يعني: بالأشياء التي يعرفونها. ما تعرف في فضل الجهاد؟ يقول: أحفظ حديث كذا وحديث كذا وحديث كذا، كم تحفظه؟ قال: أحفظه من أربعة طرق، أحفظه من ستة طرق، فهذه المذاكرة.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر