من نعم المولى سبحانه على عباده أن سن لهم أعمالاً تطوعية يكمل بها ما نقص من فرائضهم وواجباتهم، وآكد هذه التطوعات الجهاد في سبيل الله، ثم الإنفاق فيه، ثم طلب العلم ثم الصلاة، على أن الأولى أن يقال: إن أفضل التطوعات تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص.
تعريف التطوع وفضله
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب صلاة التطوع وأوقات النهي. والتطوع لغة: فعل الطاعة، وشرعاً: طاعة غير واجبة، وأفضل ما يتطوع به الجهاد، ثم التفقه فيه، ثم العلم تعلمه وتعليمه من حديث وفقه وتفسير ثم الصلاة ].
قول المؤلف: (باب صلاة التطوع) من باب إضافة الشيء إلى نوعه، فالصلاة جنس ذوات أنواع، فمن أنواعها صلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر وغير ذلك مما ذكره المؤلف، والتطوع كما ذكره المؤلف (لغة: فعل الطاعة، وشرعاً: طاعة غير واجبة) وهي طاعة أمر الشارع بها لا على وجه الإلزام.
وذهب أحمد رحمه الله في رواية أخرى إلى أن أفضل العبادات بعد الفرائض العلم لمن صحت نيته، قالوا: يا أبا عبد الله ! فكيف تصحيح النية؟ قال: يقصد به التواضع ورفع الجهل عن نفسه وعن الناس، أو كما قال، وهذا هو قول مالك و أبي حنيفة : أن أفضل التطوعات بعد الفرائض هو العلم.
ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: وإن الله قد وزع وقسم الأرزاق كما قسم العبادات، ففتح لأناس الصلاة، وفتح لأناس العلم، ولا أراني -يعني: بذلك الذي كتب له، وهو عبد الله بن عمر المكبر - ولا أراني الذي أنت فيه بأفضل من الذي أنا فيه وهو العلم؛ لأنه عاتبه باهتمام مالك بالعلم، وقلة الطاعة عنده؛ لأن مالكاً لم يكن من العباد الذين قد عرفهم عبد الله بن عمر المكبر ، فكان مالك رحمه الله كثير البزة، كثير الهندام، وكان يهتم بنفسه، حتى قيل كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتاب الانتقاء: كان مالك ينفق على نفسه ثلاثمائة درهم. يعني: ثلاثمائة شيء كثير، حتى إنه كان ليس بيده شيء، فكان الليث بن سعد يعطيه كل سنة مائة ألف درهم، فكان ينفق ثلثها على خاصة نفسه، فكأن بعض العباد أنكر ذلك على الإمام مالك ، كما نقل عن عبد الله بن عمر المكبر ، فكتب لـمالك رسالة في ذلك، فقال مالك : ما أنا بالذي أنا فيه بأقل من الذي أنت فيه، وأرانا يا أخي كلانا على خير. وهذا يدل على أن الإنسان على حسب حاله، وقد جاء في الأثر، وإن كان في سنده ضعف: ( إن من عباد الله من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لكفر -يعني: كفر بنعمة الله- وإن من عباد الله من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقرته لكفر )، وهذا يدل على أن الناس بحسب الأحوال.
والشيء الأعم هو كثرة التقوى، كما أشار إلى ذلك ابن حزم و أبو العباس بن تيمية رحمه الله لكن المذهب اختار (الجهاد، ثم النفقة فيه) لأمرين:
الأمر الثاني: لأن النفقة سبب لوجود الجهاد، فما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب، وهذه قاعدة أصولية، لكن كيف نفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية؟
القاعدة الفقهية: هي التي تثبت بنصوص شرعية، كالأمور بمقاصدها، والعادة محكمة.
وأما القاعدة الأصولية: فهي معرفة الأحكام بأدلتها الإجمالية، فهي أخذت بمفهوم أدلة النص الشرعي، وهي عبارة عن دليل عام يشمل فروعاً معينة، أو متنوعة.
فضل العلم ومنزلته بين سائر التطوعات
قال المؤلف رحمه الله: (ثم العلم تعلمه وتعليمه من حديث وفقه وتفسير)، ولو تحدثنا عن فضل العلم لطال بنا المقام، ولكن العلم المقصود هو العلم الذي يقرب إلى الله تعالى، وليس كل علم، فالمقصود بفضل العلم إنما هو العلم الذي يقرب إلى الله وإن كان العلم الدنيوي الذي فيه فرض الكفاية، يؤجر عليه الإنسان، لكن أكثر النصوص إنما تتحدث عن العلم الذي هو علم الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: لا شيء أفضل من الحديث والفقه، وقال: فهم الحديث أحب إليّ من حفظه، وهذا يدل على أن علماء الحديث: هم الفقهاء الذين اعتمدوا على الكتاب والسنة، وليس أهل الحديث الذين اهتموا بعلم الرجال، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية في القواعد النورانية، ولكن أهل الحديث هم الذين اعتمدوا في عقائدهم وسلوكياتهم وأحكامهم على الكتاب والسنة، ولا شك أن العبد إذا أقبل على ذلك انتفع انتفاعاً عظيماً.
ومن المعلوم أن من أسدى الله له نعمة فيجب عليه أن يزكيها، فمن حباه الله مالاً فإن زكاته أعظم ممن لم يعطه ذلك، ومن حباه الله علماً فلا بد أن ينفق على الناس بالعلم، بأن يكثر من مجالس العلم، ويفتي الناس بذلك، ويكون مبسوط السريرة منشرح البال، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما قال عبد الله بن مسعود ، وذكره أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ويا ليت لو وضعنا واجباً منزلياً، بأن نقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله، كل واحد يقرأه لوحده، وكأن هذا الكتاب رثاءً لك ولعملك، ودينك، اقرأ هذا الكتاب، وكأنه يخاطبك أنت، فتجد اهتمام السلف وتورعهم رضي الله تعالى عنهم، وليس المراد حينما تقرأ بعض آثار السلف أن تحجم عن تعلم العلم وعن تعليمه، وعن التصدر، فإن مثل ذلك إنما هو بقصد النية، وليس المقصود أن يظهر الإنسان على الناس، ولكن المقصود أن يعلم الناس العلم.
الآن كم عندنا من دكتور؟ كم عندنا من حاصل للشهادات العليا؟ لكن كم عدد طلاب العلم الذين يجلسون في المجالس وفي المدارس، وفي المساجد؟
الغريب أنك إذا طلبت من أحدهم أن يجلس في المسجد، قال: المشكلة أن طلاب العلم قليل، فهو يريد أن يكثر الناس، وبالمقابل هذا الذي يريد أن يكثر الناس إذا ذهب إلى قاعة الجامعة فوجد الناس كثير، قال: مشكلة كثير، كيف يتعلمون العلم؟ المفترض أن يكون الفصل لا يزيد عن عشرة، أو ثلاثين، أو خمسة وعشرين، طيب! لماذا يطلب القلة في الجامعة، ويطلب الكثرة في المساجد!! أنا أتعجب حقيقة، إلا أنه ينبغي لنا أن نراجع أنفسنا، ونراجع قلوبنا، فالمسألة خطيرة ومزلة قدم، فينبغي للإنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يكون قصده تعليم الناس العلم، والحث على ذلك، وأعظم شيء أن يعبد الله سبحانه وتعالى بالفقه في الدين.
ولا بد أن يكون الإنسان (طالب العلم) واثقاً من نفسه وثوق المعرفة، وليس وثوق الإعجاب، فإن بعض الناس ربما يتمسك بقوله ورأيه فقط، من غير رؤية علمية، ونظرة ثاقبة، لا، نحن نريد من طالب العلم أن يكون واثقاً من علمه، يعني: إذا سئل إنما يجيب وكأن العلم بين عينيه يراجع معلوماته، ولأجل ذلك فضل الإمام أحمد مراجعة العلم على قيام ليلة، وهذا نقله عنه غير واحد أن أحمد كان يرى مذاكرة العلم خير من إحياء ليلة مما يدل على أهمية المذاكرة والمراجعة بينه وبين نفسه، بينه وبين إخوانه.
وكان الأئمة يراجعون محفوظاتهم، يقول: ماذا تحفظ في أحاديث الوتر؟ فيقول: أحفظ حديث كذا، وحديث كذا، وحديث كذا، وحديث كذا، يقول: ما ترى في حديث أبي أيوب يقول: حديث أبي أيوب الصواب وقفه، فقد رواه فلان وفلان، وخالفوه في فلان، يذكرون بالرموز، يعني: بالأشياء التي يعرفونها. ما تعرف في فضل الجهاد؟ يقول: أحفظ حديث كذا وحديث كذا وحديث كذا، كم تحفظه؟ قال: أحفظه من أربعة طرق، أحفظه من ستة طرق، فهذه المذاكرة.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.