الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وآكدها كسوف، ثم استسقاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه ترك صلاة الكسوف عند وجود سببها، بخلاف الاستسقاء فإنه كان يستسقي تارة ويترك أخرى، ثم تراويح؛ لأنها تسن لها الجماعة ].
وقد اختلف العلماء في وجوب صلاة الكسوف، والذي يظهر والله أعلم أنها إلى الكفائي أقرب، أي فرض كفاية، فلا بد من الدعاء أو الصدقة، أو الصلاة، ولكن النبي حث على الصلاة بقوله: ( فافزعوا إلى الصلاة ).
وذهب بعضهم إلى أن آكدها ما اختلفوا في وجوبه، وعلى حسب قوة الخلاف، والذي يظهر والله أعلم هو على حسب قوة الأمر، واجتماع الناس لها، فإن صلاة الجمعة أعظم من إحدى الصلوات المفروضات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود و أبي هريرة : ( من ترك ثلاث جمع طبع على قلبه )، الحديث.
(ثم استسقاء) قدمها المؤلف على غيرها؛ لأنه يشرع لها الجماعة، ومن المعلوم أنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء ابتداءً إلا بعد ما شكى الناس، فقد جاء عند أبي داود وغيره من حديث ابن عباس ( أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جدب ديارهم، فأمرهم يوماً يخرجون فيه )، فهذا وجه الدلالة فأمرهم أن يخرجوا في يوم فخرج الناس، فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن شكى الناس جدب ديارهم، وهذا يدل على أنه لم يأمر بها ابتداءً عليه الصلاة والسلام، وكان يستسقي بالدعاء تارة، وعلى منبر الجمعة تارة، ويصلي بالناس تارة، وهذا يدل على أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم وحث عليه، وما كان مأموراً أو واجباً في حقه، ربما يكون آكد كالوتر، ولعل هذا هو الأقرب أن الوتر أقوى من الاستسقاء، فيكون الترتيب الكسوف، ثم الوتر، وبعضهم قدم الوتر للاختلاف في وجوبه، ولكن لعله الكسوف ثم الوتر، ثم استسقاء.
وللعلماء كلام كثير، وقد قال عمر ، عندما خرج على الناس وهم يصلون التراويح، قال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها، يعني: أن صلاتهم بالليل أفضل من أن يصلوا وحدهم، والذي يظهر والله أعلم في صلاة التراويح أن إقامتها بالمساجد مأمور بها، فإذا أقيمت في المساجد فالإنسان على حسب حاله، فإن كان يرى إقبالاً مع الناس صلى مع الناس، وإن كان يرى إقبالاً وحده من كثرة تهجد وابتهال وإطالة صلاة، وكثرة خشوع وإطالة قيام كان ذلك في حقه أفضل، ولعل هذا الجمع جيد، والله أعلم.
ومن فضل صلاة التراويح جماعة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثوبان : ( من صلى مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )، هذا صحيح، لكن لو أن شخصاً قام وأكثر من الصلاة فإن طول القنوت أفضل، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت ) أما أن تكون صلاته كصلاة الإمام في التراويح فصلاته مع الإمام أفضل بلا شك، والله أعلم.
ومن المعلوم أن الوتر شيء، وقيام الليل شيء آخر، يعني: قد يكون الوتر من قيام الليل، لكن المقصود بقيام الليل الذي هو طول القيام، أما الوتر فإنه يدخل من قيام الليل خاصة إذا كان قد أطال القيام بأن صلى ثلاثاً وأطالها، أو خمساً أو سبعاً، أو تسعاً، كما سوف يأتي بيانه.
المعنى الأول: أن ذلك في حق العالم الذي يعلم فضل هذه العبادة، ويتركها تهاوناً وكسلاً، فإنه يؤمر بها فإن من المعلوم أن من كان قوي الإيمان يؤمر بما لا يؤمر به غيره، فكأن الإمام أحمد كان يخاطب أهل العلم، وطلاب العلم، فإن مثل هؤلاء لا ينبغي لهم أن يتركوا الوتر، فقال: هذا رجل سوء لا تقبل له شهادة؛ لأن مثل هذا التفريط يؤدي إلى تفريط آخر.
المعنى الثاني: أن الإمام أحمد إنما قصد الترك المطلق، لا مطلق الترك، بمعنى: أنه لا يصليها البتة، وهذا يدل على أن الوتر سنة من حيث آحاده، واجب من حيث كليته، يعني: أنه لا بد أن يفعله الإنسان ولو أحياناً، فقال هذا الأمر، وهذا أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: أنه قد يطلق على الشيء أنه سنة، لكن كثرة ترك السنة يؤدي إلى الحرمة، وكثرة فعل المكروه يؤدي إلى الحرمة، فهذا من حيث الترك المطلق، ولهذا ذكر الإمام الشاطبي : أن ترك المستحبات مطلقاً مخالف للشرع، كما أن كثرة فعل المنهيات ولو على غير سبيل الإلزام يؤدي إلى وقوع الإنسان بالمحرم، لعل هذا الجمع أولى والله أعلم.
هذا هو الأقرب والله أعلم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، على أن صلاة الوتر تفعل من بعد صلاة العشاء، خلافاً لـأبي حنيفة ، ويروى عن مالك ؛ لقول عائشة : ( كان صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة )، وهذا يفيد على أنه لو جمعت صلاة العشاء مع المغرب في وقت المغرب فإن صلاة الليل تبدأ.
وذهب أبو حنيفة و مالك إلى أنها تبدأ من بعد دخول صلاة العشاء، والذي يظهر أن ذلك إنما يكون بعد صلاة العشاء، ولهذا سئل مالك عن رجل صلى العشاء على غير طهارة، ثم أوتر على طهارة، فقال: يعيد العشاء والوتر، فهذا يفيد على أن مالك إنما يرى مذهب الجمهور، كما في المدونة، (1/127) أشار إلى أنه يعيد العشاء ويعيد الوتر، وكأن هذا ظاهر من مالك أنه متى ما صلى العشاء أوتر، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (إلى طلوع الفجر) ذهب الجمهور إلى أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، وقد جاء ذلك في أحاديث، منها حديث خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله أمدكم بصلاة الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر )، وهذا الحديث رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه وصححه الألباني ، والحديث في سنده عبد الله بن أبي مرة ، والحديث رواه عبد الله بن راشد الزوفي عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بن حذافة ولا يعرف سماع بعضهم عن بعض، فضعفه الإمام البخاري ، وكذلك ابن حبان فإنه قال: إسناده منقطع، ومتنه باطل، وضعفه الترمذي ، وأحسن شيء في الباب ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد : ( أوتروا قبل أن تصبحوا )، وصح عن ابن عمر أنه قال: فإذا طلع الفجر فقد ذهب عامة صلاة الليل والوتر.
وذهب الإمام مالك رحمه الله، وصح عن ابن مسعود إلى أن صلاة الوتر تنتهي بصلاة الفجر، فلو طلع الفجر وهو لم يوتر استحب له أن يوتر قبل صلاة الفجر، فإذا صلى الفجر فقد ذهب وقت صلاة الليل، ولأجل ذلك ذهب مالك إلى أنه إن نام فلم يقم إلا قبيل طلوع الشمس وهو لم يوتر، قال مالك : أحب له أن يوتر ثم يصلي الفجر، فهو آكد عند مالك من صلاة سنة الفجر، وهذه ينبغي أن تبين للناس، فأكثر الناس يقوم من الفجر وهو لم يوتر تعباً وإرهاقاً، هذا في حق من كان اعتاد أن يصلي، فإن الأفضل أن يوتر ثم يصلي سنة الفجر، ثم صلاة الفجر، هذا على مذهب مالك ، ولهذا قال ابن مسعود : ما أبالي أصلى الإمام الفجر وأنا أصلي الوتر، يعني: أنه الحق عليه.
والذي يظهر والله أعلم أنه إن طلع الفجر، فإن صلاة الليل والوتر جائزة، وليست بسنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى )، فإن صلى الوتر فقط، وهو ركعة أو ثلاث ركعات بعد الفجر، مثل أن يكون قد نام وأرهق، أو وهو يصلي من الليل فسمع المؤذن وهو يؤذن فأوتر، فلا حرج كما أشار إلى ذلك ابن تيمية وقال: وقد فعله السلف، والأفضل أن يصلي من النهار ما بين طلوع الشمس وارتفاعها قدر رمح إلى قبيل الزوال، لما جاء عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند مسلم : ( من نام عن حزبه فقرأه ما بين الفجر إلى الظهر، فكأنما قرأه من الليل )، وهذا يشمل الحزب في الصلاة وغير الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم كما عند ابن حبان من حديث أبي سعيد : ( من نام عن وتره فليقضه )، والقضاء يحتمل أن يقضيه كهيئته إحدى عشرة أو تسع أو سبع وتراً أو أن يقضيه شفعاً، وهذا هو الراجح لما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( وكان إذا غلبه نوم أو نعاس من صلاة الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، وهذا قضاء للوتر، ولكنه على هيئة شفع، لعل هذا أفضل، وهو أن صلاة الليل تنتهي بالفجر، ولكن إن كان يصلي والإمام أذن، فلا حرج أن يصلي ركعة واحدة توتر له ما قد صلى، وإن كان قد قام من الليل، أو قام من النوم في أول أذان الفجر وهو لم يوتر، فلا حرج أن يوتر، لكن الأفضل أن يقضيه بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وآخر الليل لمن يثق بنفسه أفضل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر : ( من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل )؛ وذلك لأن العبد يدرك نزول الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: ..). الحديث.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر