بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وآكدها كسوف، ثم استسقاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه ترك صلاة الكسوف عند وجود سببها، بخلاف الاستسقاء فإنه كان يستسقي تارة ويترك أخرى، ثم تراويح؛ لأنها تسن لها الجماعة ].
صلاة الكسوف فضلها ومنزلتها
الحنابلة رحمهم الله يرون أفضل الطاعات من الصلاة ما كانت بأمرين: بأن تشرع لها الجماعة، وبأن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولا يحفظ عنه تخلفه عنها، ولأجل ذلك كانت صلاة الكسوف لها الأفضلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يجتمعوا لها فقال: (
الصلاة جامعة)، فهي يشرع لها الجماعة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث
أبي موسى ، وفي الصحيحين من حديث
أسماء ، ومن حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وصلوا وتصدقوا )، وفي رواية: (
فافزعوا إلى الصلاة )، فهذا أمر بالصلاة.
وقد اختلف العلماء في وجوب صلاة الكسوف، والذي يظهر والله أعلم أنها إلى الكفائي أقرب، أي فرض كفاية، فلا بد من الدعاء أو الصدقة، أو الصلاة، ولكن النبي حث على الصلاة بقوله: ( فافزعوا إلى الصلاة ).
وذهب بعضهم إلى أن آكدها ما اختلفوا في وجوبه، وعلى حسب قوة الخلاف، والذي يظهر والله أعلم هو على حسب قوة الأمر، واجتماع الناس لها، فإن صلاة الجمعة أعظم من إحدى الصلوات المفروضات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود و أبي هريرة : ( من ترك ثلاث جمع طبع على قلبه )، الحديث.
فضل صلاة الاستسقاء ومنزلتها
قال المؤلف رحمه الله: (ثم استسقاء)، قدم المؤلف الكسوف على الاستسقاء قال المؤلف رحمه الله: (لأنه لم ينقل عنه أنه ترك صلاة الكسوف عند وجود سببها) يفهم من عبارة المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف أكثر من مرة، وذلك بناءً على اختلاف الأحاديث الواردة في صفة صلاة الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف والله أعلم أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف إلا مرة واحدة، ولم تكسف الشمس في عهده صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وقد ذكر المحقق
أحمد شاكر رحمه الله في تعليقاته على المحلى لـ
ابن حزم أن بمعرفة الحساب أنه كسفت الشمس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين، كما أن أهل الحساب يعرفون بالمستقبل إمكانية وقوع الكسوف، فإنهم يعرفون في الماضي، ولكن المعروف عند أهل العلم كـ
أبي العباس بن تيمية وأكثر المحققين أنها لم تكسف في عهده إلا مرة واحدة، وقد يقال: إنها كسفت الشمس في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يعلم بها يعني: لم يرها، وأنتم تعلمون أنه أحياناً تكسف الشمس أو يخسف القمر ولكن لا نراه، فربما يكون في بلد آخر، لكن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل إلا مرة واحدة، وأن جميع الأحاديث الواردة في غير حديث
عائشة وما تدل عليه إلى الضعف أقرب.
(ثم استسقاء) قدمها المؤلف على غيرها؛ لأنه يشرع لها الجماعة، ومن المعلوم أنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء ابتداءً إلا بعد ما شكى الناس، فقد جاء عند أبي داود وغيره من حديث ابن عباس ( أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جدب ديارهم، فأمرهم يوماً يخرجون فيه )، فهذا وجه الدلالة فأمرهم أن يخرجوا في يوم فخرج الناس، فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن شكى الناس جدب ديارهم، وهذا يدل على أنه لم يأمر بها ابتداءً عليه الصلاة والسلام، وكان يستسقي بالدعاء تارة، وعلى منبر الجمعة تارة، ويصلي بالناس تارة، وهذا يدل على أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم وحث عليه، وما كان مأموراً أو واجباً في حقه، ربما يكون آكد كالوتر، ولعل هذا هو الأقرب أن الوتر أقوى من الاستسقاء، فيكون الترتيب الكسوف، ثم الوتر، وبعضهم قدم الوتر للاختلاف في وجوبه، ولكن لعله الكسوف ثم الوتر، ثم استسقاء.
فضل صلاة التراويح ومنزلتها
قال المؤلف رحمه الله: (ثم تراويح)، المؤلف ذكر التراويح ثم الوتر؛ لأن التراويح يشرع لها الجماعة، ومن المعلوم أن التراويح مبنية على أن الصلاة مع الناس في المساجد في رمضان أفضل من أن يصلي وحده، وقد اختلف العلماء في ذلك، أيهما أفضل أن يصلي الإنسان وحده أم يصلي مع الناس؟
وللعلماء كلام كثير، وقد قال عمر ، عندما خرج على الناس وهم يصلون التراويح، قال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها، يعني: أن صلاتهم بالليل أفضل من أن يصلوا وحدهم، والذي يظهر والله أعلم في صلاة التراويح أن إقامتها بالمساجد مأمور بها، فإذا أقيمت في المساجد فالإنسان على حسب حاله، فإن كان يرى إقبالاً مع الناس صلى مع الناس، وإن كان يرى إقبالاً وحده من كثرة تهجد وابتهال وإطالة صلاة، وكثرة خشوع وإطالة قيام كان ذلك في حقه أفضل، ولعل هذا الجمع جيد، والله أعلم.
ومن فضل صلاة التراويح جماعة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثوبان : ( من صلى مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )، هذا صحيح، لكن لو أن شخصاً قام وأكثر من الصلاة فإن طول القنوت أفضل، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت ) أما أن تكون صلاته كصلاة الإمام في التراويح فصلاته مع الإمام أفضل بلا شك، والله أعلم.
فضل صلاة الوتر ومنزلته
قال المؤلف رحمه الله: [ وهو سنة مؤكدة روي عن الإمام: من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، وليس بواجب ].
حكم الوتر
توجيه كلام الإمام أحمد في حق تارك الوتر: رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة
وقول الإمام
أحمد : (رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة) حقيقة هذه مشكلة، إذا كان الوتر سنة فكيف لا تقبل شهادة من تركه؟ ولعل هذا يحمل على معان:
المعنى الأول: أن ذلك في حق العالم الذي يعلم فضل هذه العبادة، ويتركها تهاوناً وكسلاً، فإنه يؤمر بها فإن من المعلوم أن من كان قوي الإيمان يؤمر بما لا يؤمر به غيره، فكأن الإمام أحمد كان يخاطب أهل العلم، وطلاب العلم، فإن مثل هؤلاء لا ينبغي لهم أن يتركوا الوتر، فقال: هذا رجل سوء لا تقبل له شهادة؛ لأن مثل هذا التفريط يؤدي إلى تفريط آخر.
المعنى الثاني: أن الإمام أحمد إنما قصد الترك المطلق، لا مطلق الترك، بمعنى: أنه لا يصليها البتة، وهذا يدل على أن الوتر سنة من حيث آحاده، واجب من حيث كليته، يعني: أنه لا بد أن يفعله الإنسان ولو أحياناً، فقال هذا الأمر، وهذا أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: أنه قد يطلق على الشيء أنه سنة، لكن كثرة ترك السنة يؤدي إلى الحرمة، وكثرة فعل المكروه يؤدي إلى الحرمة، فهذا من حيث الترك المطلق، ولهذا ذكر الإمام الشاطبي : أن ترك المستحبات مطلقاً مخالف للشرع، كما أن كثرة فعل المنهيات ولو على غير سبيل الإلزام يؤدي إلى وقوع الإنسان بالمحرم، لعل هذا الجمع أولى والله أعلم.
بداية وقت الوتر ونهايته