الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
فقد وصلنا إلى قول المؤلف: (وإن قنت قبله بعد القراءة جاز)، وذكر الحديث، وذكرنا أن السنة من فعله عليه الصلاة والسلام هي القنوت بعد الركوع، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، أو قنت بعد الركوع في النازلة )، ولا يثبت في القنوت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، وثبت أنه من فعل عمر .
قال المؤلف رحمه الله: [ فيرفع يديه إلى صدره ويبسطهما وبطونهما نحو السماء، ولو كان مأموماً ].
قول المؤلف رحمه الله: (فيرفع يديه)، في هذا دلالة على استحباب رفع اليدين حال القنوت، وقد قلنا: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر، وإنما ثبت في قنوت النازلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وكذلك ثبت عن عمر أنه رفع يديه، كما روى ابن عباس رضي الله عنه عن عمر أنه كان يقرأ بسورتي أبي التي هي: اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نطلب رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، وهذه سورتي أبي، كان أبي بن كعب يضعهما في مصحفه. وقد روى عبد الرحمن بن أبزى أن عمر كان يقرأ، في ذلك ما رواه البيهقي بسند صحيح، فكان عمر يرفع يديه، وكان الناس يرفعون أيديهم، ويؤمنون من خلفه، قال ابن عباس : فكان عمر يدعو والناس يؤمنون.
وكذلك ثبت ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو والناس يؤمنون )، وعلى هذا فيستحب رفع اليدين من حين شروع الإمام بالدعاء، سواء كان الدعاء دعاء مسألة، أم كان الدعاء دعاء ثناء على الله سبحانه وتعالى، فإنه يشرع رفع اليدين، فلم يفصل الصحابة الذين رووا عن عمر أنه كان يرفع يديه ومن خلفه يرفعون في الثناء دون الطلب، فإن عمر أثنى على الله وطلب فقال: اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نطلب رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب الكفرة الذين يقاتلون أولياءك، أو يعذبون أولياءك، فهذا طلب، فكان عمر يرفع يديه.
ومن هنا تعلم أن ما يفعله بعض الفضلاء من عدم رفع اليدين إلا حال الطلب غير صحيح، فإذا قال الإمام في القنوت: سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذا الجلال والإكرام، سبحان ذا الإنعام والإفضال، وغير ذلك من الثناء، فتجدهم لا يرفعون أيديهم، فإذا قال: اللهم اهدنا فيمن هديت رفع يديه، ظاناً أن الدعاء إنما هو في وقت الطلب وأن هذا ثناء، والصحيح أن الثناء والدعاء كله دعاء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، فسمى هذا الثناء دعاءً، فيستحب رفع اليدين.
ومما يدل على استحباب رفع اليدين في الثناء أمور منها:
أولاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في يوم عرفة )، وأكثر دعائه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ثانياً: أن الدعاء يطلق على الثناء والطلب، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله ).
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه فيما كان فيه ثناء، وفيه دعاء، فإنه ثبت في صحيح مسلم ، وكذلك عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجه إذا استقبل الصفا قال: ( أبدأ بما بدأ الله به، حتى إذا صعد إلى الصفا استقبل القبلة، فرفع يديه وقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم قال: الله أكبر ثلاثاً، لا إله إلا الله مرتين، ثم ينحدر إلى المروة )، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الثناء يرفع يديه.
رابعاً: كما قلنا في أول شيء: إن عمر رضي الله عنه كان يثني على الله بما هو أهله، فكان يرفع يديه، والناس يرفعون أيديهم؛ لعموم حديث ابن عباس : ( فكان يرفع يديه والناس يؤمنون )، فهذه أربعة أدلة تفيد استحباب رفع اليدين حال الثناء.
هذه السنة في الدعاء، أن الإنسان يرفع يديه إلى صدره، لما روى ابن عباس وإن كان في سنده ضعف مرفوعاً، والصحيح وقفه على ابن عباس أنه قال: ( إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما )، وقد جاء عند أبي داود من قول ابن عباس أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله: (ويبسطهما وبطونهما نحو السماء).
يعني: لا يضعها تحت رقبته، ولكنه يبسطهما، وبطونهما إلى السماء، ولا يفرق مثلما يفعله بعض الإخوة فإنه يجعل يديه حذو منكبيه ويبسطهما وهذا ليس من السنة فليس من السنة أن يبسط يديه ويجعلهما محاذية لمنكبيه كأنه يسجد بدل أن يضع بطون كفيه إلى الأرض يرفعهما إلى السماء هذا ليس من السنة، أو يرفع يديه إلى أعلى، حتى يرى بياض إبطيه، فهذا إنما يفعل حال الابتهال، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين الاستسقاء، يقول أنس : ( حتى رأيت بياض إبطيه ). وقال ابن عباس : وأما الابتهال فيجعل كفيه إلى السماء ماداً يديه.
اختلف العلماء في هذه الصورة، فقال بعضهم: هو أن يجعلها ممدودة إلى السماء جاعلاً كفيه إلى السماء، وليس بطون الكفين، وقال بعضهم: إنه يجعل بطونهما إلى الأرض، وظهورهما إلى السماء بعد أن يرفع يديه وهو باسط يديه ضامهما، بحيث تكون أصابع يديه إلى خلفه، وليس أصابع يديه أمامه، بل أصابع يديه خلفه. هاتان صورتان ذكرهما بعض أهل العلم لشدة رفعه عليه الصلاة والسلام، فيرفع حتى تكون أصابع يديه إلى خلفه، وعلى أي فعل جاز، لكن لا يفعل إلا حال الابتهال كالاستسقاء ونحوه.
قال المؤلف رحمه الله: (ولو كان مأموماً). يعني: أن المأموم يفعل مثل فعل الإمام، وذلك لأدلة:
الدليل الأول: لعموم قوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح من حديث أبي موسى وغيره: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ).
الدليل الثاني: أن الصحابة الذين كانوا يؤمنون خلفه عليه الصلاة والسلام في قنوت النازلة كانوا يرفعون أيديهم ويؤمنون، ولهذا قال ابن عباس كما في الصحيح: ( فيدعو على رعل وذكوان، وعصي الحديث ) قال: ( ويؤمن من خلفه )، هذا يدل على أن المأمومين كانوا يصنعون مثل صنيعه عليه الصلاة والسلام.
الدليل الثالث: ما رواه ابن عباس عن عمر أنه كان يدعو والناس خلفه يرفعون أيديهم ويؤمنون، أما كلمة (يرفعون أيديهم) فما أدري أنها موجودة في الحديث، لكنهم يؤمنون، وما يفعله الإمام يفعله المأموم، هذه ثلاثة أدلة تدل على أن المأموم حاله كحال الإمام، والله أعلم.
ومما يدل على هذا أيضاً أن ابن مسعود كان يرفع يديه حال القنوت إلى ثندوتيه، يعني: إلى صدره، هذا فعل ابن مسعود وكان يؤمن.
وفي آخره وصلى الله على محمد (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك) إظهاراً للعجز والانقطاع (لا نحصي) أي: لا نطيق ولا نبلغ ولا نثني (ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) اعترافاً بالعجز عن الثناء ورداً إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلاً. رواه الخمسة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في آخر وتره، ورواته ثقات (اللهم صل على محمد) لحديث الحسن السابق، ولما روى الترمذي عن عمر الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك، وزاد في التبصرة (وعلى آل محمد)، واقتصر الأكثرون على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، (ويمسح وجهه بيديه) إذا فرغ من دعائه هنا وخارج الصلاة لقول عمر : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ) رواه الترمذي ، ويقول الإمام: اللهم اهدنا .. إلخ، ويؤمن مأموم إن سمعه (ويكره قنوته في غير الوتر) ].
وكذلك عن عمر أنه قرأ سورتي أبي كما قلنا: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، ثم قال: اللهم إنا نستعينك ونستهديك، فهذا يدل على أن الإمام يرفع صوته بالدعاء، وقد حفظ الصحابة ذلك عن عمر وعن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وأما المنفرد، فإذا أراد المنفرد أن يقنت فكذلك على القاعدة أن المنفرد يسمع نفسه، ولا يجهر بصلاته، ولا يخافت بها، ولكن بين ذلك سبيلاً، فإن جهر المنفرد في الصلاة الجهرية مباح وهذا مثله، وأما المأموم فإنه يؤمن. والله أعلم.
هذا إشارة إلى حديث رواه أبو الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاءً يدعو به فيقول: اللهم اهدني فيمن هديت )، هذا هو الصحيح في لفظ الحديث: ( دعاءً يدعو به )، وأما رواية (في القنوت) فالصحيح أنها منكرة، كما ضعفها ابن خزيمة وغيره، وأن الراوي عن أبي الحوراء زادها، ولهذا كان الصحيح أن زيادة (في القنوت) منكرة.
ومن المعلوم أن مثل هذا الدعاء يظهر فيه مشكاة النبوة، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الحسن بن علي ، ولم يقل له أن تقول في القنوت، وإنما هذه زيادة زادها بعض الرواة.
وأما زيادة: ( ولا يعز من عاديت )، فإن أكثر الرواة لم يذكروها، إلا ما جاء عند البيهقي ، وإذا قلنا: إن الصواب أن للإنسان أن يدعو بما شاء فلا حرج أن يزيد؛ لأنه ليس حتماً لازماً ألا يزيد ولا ينقص، وقد جاء في بعض الروايات كما عند النسائي : ( وصلى الله على محمد )، وهذه الرواية ضعيفة، حيث إن فيها انقطاعاً، فإن الحسن بن علي زين العابدين لم يسمع من جده، ولكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في القنوت، وقد قال عمر : الدعاء موقوف بين السماء والأرض ما لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث يرويه سعيد بن المسيب عن عمر ، ومن المعلوم أن رواية سعيد عن عمر مقبولة، وإن كان سعيد لم يسمع من عمر ، لكنه مرسل صحيح كما يقول أبو حاتم ، لكن الراوي عن سعيد مجهول، فمن قبل المجاهيل قوى هذا.
ومما يدل على ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه ذكر، كما عند ابن خزيمة وغيره، أن الأئمة الذين كانوا يصلون بالناس قيام الليل على عهد عمر ، كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وعافني فيمن عافيت).
المعافاة تختلف عن المغفرة، فالمغفرة هي الستر عن الذنب كما تقول: المغفر، فالله سبحانه وتعالى يستر ذنبك، فلا يفضحك أمام الخلق في يوم القيامة ولا في الدنيا، لكنه ربما لا يعفو عنك، ولهذا مغفرة الله حتى مع الكفار، فتجد أن الكافر والمنافق يستره الله سبحانه وتعالى، لكن ما يعفو عنه، وأما العفو فهو زيادة مع الستر، التوبة والقبول والعفو عن الذنب، ولهذا قال ابن تيمية : تأملت أفضل الدعاء فوجدته العفو والعافية، فالإكثار من العفو والعافية مطلب، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وتولني فيمن توليت).
الولاية أصلها المحبة، والله إذا تولى عبده أحبه، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قولوا له، قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم )، إن الله يحبنا ولا يحبكم، ويتولانا ولا يتولاكم.
قال المؤلف رحمه الله: (وبارك لنا فيما أعطيت).
يعني: الله سبحانه وتعالى ينعم على عبده بكثير من الإنعام، منها نعمة الإيمان، ونعمة الصلاح، ونعمة العلم، ونعمة المال، ونعمة الزوجة، ونعمة الولد، ونعمة الصحة، فكل هذه النعم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك له فيها، بأن يبارك له في ولده، فيكون قرة عين له، ويبارك له في زوجه، ومنه قول الأئمة المهديين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] وهذا من البركة.
كذلك بركة العلم، فإن العبد قد يحظى بالعلم، لكن ليس له بركة في نفسه، ولا مع الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بركة هذا العلم في حق الناس، وقسمهم إلى ثلاث كما في الصحيحين من حديث أبي موسى : ( إن مثلما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل أرض أصابت الماء، فأنبتت منه الكلأ والعشب الكثير )، الحديث.
قال المؤلف رحمه الله: (وقني شر ما قضيت).
القضاء قضاءان: قضاء هو فعله، وهذا يجب الإيمان به والرضا به، وأن كل شيء مقدر، وقضاء هو مقضيه، وهو مفعوله في العبد، فإن كان شرعياً مأموراً به فيجب الرضا به والإيمان به، وإن كان يضر الإنسان فيجب الصبر والإيمان بأنه من عند الله.
وهل يجب الرضا؟ الصحيح أن الرضا والشكر مستحب، فلو وقع على الإنسان مصيبة، فهذا مقضي الله على عبده، فلا يلزم منه أن يرضى، بأن يفرح أو أن يشكر، لكنه يجب عليه أن يصبر، ويجب عليه أن يؤمن بأنه من عند الله ولا يقنط، فإن رضي فهذا كمال من كمال الصالحين، وإن أثنى على الله قبل هذا الدعاء فلا حرج، والله أعلم.
وأما الصلاة على النبي فقد قلنا: إن فيها نكارة، وإن فيها انقطاعاً، حيث أن الحسن بن علي زين العابدين لم يسمع من جده، -والله أعلم- وكذلك عبد الله بن علي بن الحسين لم يسمع من الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره )، كما رواه أبو داود و الترمذي و النسائي والإمام أحمد ، والحديث أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، و البخاري إذا روى الحديث في التاريخ الكبير، فالغالب أنه إلى الضعف أقرب، إلا أن يشير إلى ما يخالف ذلك، فـالبخاري يذكر منكراته، أو أن يذكر أنه ليس له إلا حديث واحد ويصححه، فهذا لا إشكال، ولكن الذي يظهر أن هذا الحديث لو صح فهو لا يقول في القنوت، فلم يرد أن النبي قاله في القنوت، كما أشار المؤلف، ولكن لو دعا به فلا حرج، لكن يقول في آخر وتره، وآخر وتره ربما يكون في السجود، أو في التشهد الأخير، لكنه لو ذكره في القنوت فلا حرج. ولكن المؤلف أشار هنا إلى أنه سنة، وقد قلت: إن أكثر الذين يذكرون ذلك إنما يذكرون حديث علي ، وقلت: إن هذا لم يرد فيه أن النبي كان يفعله في القنوت، إنما كان يفعله في آخر الوتر، والوتر شيء والقنوت شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله: (ولما روى الترمذي عن عمر : الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء؛ حتى تصلي على نبيك).
سبق أن قلنا: إنه صح عن عروة بن الزبير كما عند ابن خزيمة : أن الأئمة الذين كانوا يصلون بالناس في قيام رمضان على عهد عمر كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد لا بأس به.
قال المؤلف رحمه الله: (وزاد في التبصرة: وعلى آل محمد، واقتصر الأكثرون على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم) كل ذلك جائز، أن يصلي على النبي الصلاة الإبراهيمية، أو يقول: اللهم صل على محمد فقط.
أما مسح الوجه بعد الدعاء، فهذا ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: خارج الصلاة، والقسم الثاني: داخل الصلاة.
فأما خارج الصلاة، فقد وردت أحاديث منها: حديث عمر ، وحديث ابن عباس . حديث عمر أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ) رواه الترمذي ، وكذلك جاء عن ابن عباس أنه قال: ( إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك )، وغير ذلك من الأحاديث، وقد قال الحافظ ابن حجر في البلوغ: وبمجموع طرقهما يدل على أن له أصلاً، فاستحب بعض العلماء رحمهم الله المسح لأجل مجموع هذه الطرق وهو المذهب، والرواية الثانية أنه لا يشرع المسح.
قال أبو داود : لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله، فهذا يدل على أنه يضعف جميع الأحاديث الواردة في ذلك، وهذا هو قول مالك بن أنس ، فإنه سئل عن ذلك فقال: ما علمت، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية ، بل قال: إن هذه الأحاديث ضعيفة، وإنها بدعة.
هذا خارج الصلاة، والصحيح أنه لا يشرع، فقد تواتر رفع اليدين في الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم السيوطي في تدريب الراوي حيث قال: إن رفع اليدين في الدعاء من المتواتر المعنوي، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يثبت أنه كان يمسح وجهه، وقد فعله بعض السلف، فيدل على عدم بدعيته، ولكن السنة عدم المسح، فيقال: لا يستحب مسح الوجه، هذا في خارج الصلاة.
وأما داخل الصلاة في القنوت فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في حديث صحيح ولا في حديث حسن ولا في حديث ضعيف أنه كان يمسح وجهه، ولم يثبت عن واحد من الصحابة، ولا واحد من التابعين، ولهذا قال الإمام البيهقي كما في السنن الكبرى عندما ذكر الحديث: فأما مسح الوجه باليدين عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح، ولا أثر ولا قياس، فالأولى ألا يفعله الإنسان، ويقتصر على ما فعله السلف من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة.
وهذا هو الراجح أنه لا يشرع مسح الوجه في الصلاة، وكل الأحاديث الواردة منكرة، والله أعلم.
هذه المسألة هل المأموم يؤمن بمجرد ما يدعو الإمام، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء ثناء، أو أنه لا يؤمن إلا في حال الدعاء، أم أنه إذا كان ثناء يقول مثل قوله، فإذا قال الإمام: اللهم إنا نستعينك ونستهديك قال المأموم: اللهم إنا نستعينك ونستهديك، وإذا قال الإمام: سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، قال المأموم: سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، يقول مثل قوله، إذا كان حال الثناء.
أو إذا مر بتسبيح لله سبح، وبحمد حمد، على عموم حديث حذيفة عند البخاري : ( لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا بآية عذاب إلا تعوذ )؟ كل هذا محتمل، وهي أوجه عند الحنابلة، وخلاصتها في أربعة أقوال: إما أن يؤمن مطلقاً؛ فإذا جاء ثناء أو دعاء يؤمن المأموم، فإذا قال: سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، قال: آمين، وهذا محتمل؛ لأن قول آمين اللهم استجب دعاءنا فيك، يعني: ثناءنا عليك، فهذا محتمل، ويؤيده أن قول آمين بمثابة الدعاء، ولهذا لما كان موسى يدعو على قومه، وكان هارون يؤمن قال الله: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، ومن المعلوم أن الذي دعا واحد وهو موسى، وكان هارون يؤمن، فإذا قال المأموم: آمين في الثناء، فكأنه أثنى على الله مثله، وهذا أمر محتمل وقوي.
ومما يدل عليه أيضاً أن ابن عباس كان يذكر أن عمر كان يثني على الله بما هو أهله، وكان يقول: ويؤمن من خلفه.
ويحتمل القول الثاني: أن يسكت، قالوا: لأن ثناء الإمام إنما هو تهيئة للطلب، كما جاء في الحديث: ( إذا دعا أحدكم فليثن على الله بما هو أهله، ثم يصل على النبي، ثم ليدع )، فقالوا: إن هذا تهيئة لدعاء الطلب.
القول الثالث: إذا أثنى الإمام على الله فسبحه يسبح المأموم، وإذا حمده حمده المأموم؛ لعموم حديث حذيفة رضي الله عنه كما عند البخاري أنه قال: ( لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا بآية عذاب إلا تعوذ ).
الرابع: أن يقول مثله. وأقوى هذه الأقوال قولان: أن يؤمن أو أن يسبح ويحمده، أما قول بعض إخواننا: إذا قال الإمام: اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، قال: أشهد، فهذا لفظ لا أدري أنه محفوظ، وكذلك أحد وغير ذلك، كل هذا لم يثبت، والله أعلم، (ويؤمن مأموم إن سمعه)، هذا على عمومه، قلنا: في مسألة الثناء.
مسألة القنوت في غير الوتر، القنوت في غير الوتر له حالان:
حال وجود النازلة، فهذا مشروع، كما سوف يأتي تفصيله، فيستحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن يقنت على الذين آذوا المسلمين، والسنة فيما أعلمه ولم أجده منصوصاً عن أحد ألا يزيد على شهر، والسنة ألا يزيد على شهر؛ لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله )، وإنما قلت شهراً؛ لأن الرسول قنت شهراً، وما زال رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله يؤذون المؤمنين، فدل على أن المقصود من ذلك طلب الدعاء، وإلا للزم في مثل زماننا هذا أن نستمر في دعاء النوازل.
النوع الثاني: القنوت في غير النازلة، وفي غير قنوت الوتر، فهذا استحبه الشافعي في الفجر، واستدل بحديث أنس : ( لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك غير مشروع، وقد روى أهل السنن من حديث طارق الأشجعي أنه ابنه سأله: صليت خلف أبي بكر و عمر و عثمان ، فهل كانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني محدث، وهذا إسناده صحيح، وكذلك ما رواه الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: (أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: القنوت في صلاة الفجر بدعة)، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني ، لكن مشكلته أن في سنده عبد الله بن ميسرة الحارثي وهو ضعيف.
ولهذا فإن قول أنس : ( لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، يعني: يطيل القيام بعد الرفع من الركوع، ولهذا قال أنس : ( إنكم تصنعون شيئاً لم أكن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه، قال
نكتفي بهذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر