قال المؤلف رحمه الله: [ إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة ].
النازلة هي: الصاعقة والواقعة والملمة التي تنزل بالمسلمين، وفي هذا دلالة على أن الأصل أن المسلمين كانوا في سلامة من أمرهم، فتنزل بهم هذه النازلة التي تضيق عليهم حياتهم، ويعيشون في خوف وعدم استقرار وأمن، فإذا نزلت بالمسلمين هذه النازلة وهذه الصاعقة يشرع لهم القنوت، فذهب المؤلف رحمه الله إلى أنه إنما يقنت إذا نزلت بهم شدائد الدهر دون الطاعون؛ لأن الطاعون إذا نزل بالأمة فهو مرض، والمرض لا يقنت به، وإنما استثنوا الطاعون؛ لأن الطاعون نزل في عهد عمر رضي الله عنه ولم يقنت، فإذا صار بالمسلمين وباء عام يفسد حياتهم وصحتهم فإن هذا لا يقنت له، مثل ما يسمى بانفلونزا الطيور، فإذا كان مثل هذا وباء عام، يموت فيه الناس، فإن الحنابلة لا يستحبون القنوت؛ لأن عمر رضي الله عنه حينما نزل الطاعون في عهده لم يقنت له، وذهب بعضهم إلى أن المرض العام الذي يموت به الناس مثله مثل العدو، ولكنهم فرقوا بين الأمراض التي ليس للإنسان فيها شأن، وبين ما كان للإنسان فيها فعل، فاستحبوا القنوت في شدائد الدهر فيما كان للإنسان فيه فعل، وأما ما ليس للإنسان فيه فعل كالطاعون والأمراض والأوبئة فهي من الله سبحانه وتعالى، وإذا قنت الناس فلا حرج إن شاء الله؛ لأن الناس إنما يقنتون لأمرين:
الأول: دعاء على الشخص الذي سبب ذلك.
والثاني: دعاء بأن يرفع الله عن المسلمين هذه المحنة.
وإذا كان هناك وباء عام ليس للإنسان فيه فعل فإنما يقنتون ليسألوا الله أن يرفع عنهم هذه المحنة، وعلى هذا فالذي يظهر أن ذلك لا بأس به، ولا يقال بالاستحباب، بل يقال بالجواز.
أقوال العلماء في من يقنت بالمسلمين عند النوازل
قال المؤلف رحمه الله: [ يقنت استحباباً الإمام الأعظم ].
اختلف العلماء في النازلة من الذي يقنت؟ فذهب الحنابلة إلى أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم، أو نائبه، يعني: إذا كان الإمام الأعظم لا يصلي بالناس فإنما يصلي نائبه، ونائبه الذي يعينه ولي أمر المسلمين، إما أن يعينه في المسجد الحرام، أو يعينه عن طريق المفتي، أو كيفما أراد ولي أمر المسلمين. هذا مذهب الحنابلة؛ على أن الذي يقنت هو الإمام أو نائبه.
وذهب بعض العلماء، وهو رواية عند الحنابلة أيضاً: إلى أن الذي يقنت هو كل إمام جماعة، يعني: مثلما نفعل نحن الآن، كل إمام مسجد له أن يقنت.
وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أن الذي يقنت كل مصل، سواء كانوا جماعة في مسجد، أو غير مسجد، فإنهم يقنتون يسألون الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنهم عدوهم، وأن يكشف عنهم ما بهم من ضر.
والذي يظهر والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والقاعدة أن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو سنة لأمته؛ لقول الله تعالى:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر:7]، وهذا هو الأصل، ولا نخرج منه إلا بدليل، فالأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو سنة الناس كلهم، وعلى هذا فالذي يظهر هو أنه يقنت كل مصل، إذا ثبت هذا فإني لم أجد كلاماً للمتقدمين في أنه لا يقنت إلا أن يستأذن الناس الإمام، وفرق بين أن يقنت الإمام أو نائبه، أو أن يستأذن الناس الإمام، فإن صلاة الجمعة ذهب الأئمة الأربعة إلى أنها لا تصلى في هذا المسجد إلا بإذن الإمام، وإذن الإمام شيء، والصلاة في كل مسجد للجمعة شيء آخر، فلا يقال: إن مذهب الحنابلة هو الاستئذان من الإمام؛ لأن الحنابلة لم يقولوا: الاستئذان من الإمام، إنما قالوا: يقنت الإمام أو نائبه، وعلى هذا فهذا القول لا يعرف عند الأئمة، وإنما المعروف: إما أن يقنت الإمام أو نائبه، وعلى هذا فلا يقنت الناس، وإما أن يقنت كل إمام جماعة، وإما أن يقنت كل مصلٍ، ولو كان وحده، وهذا القول الثالث لعله هو الأظهر، والله أعلم.
الصلوات التي يقنت فيها للنازلة
قال المؤلف رحمه الله: [ ومن ائتم بقانت في فجر تابع الإمام وأمن، ويقول بعد وتره: سبحان الملك القدوس ثلاثاً ويمد بها صوته في الثالثة ].
قول المؤلف رحمه الله: (ومن ائتم بقانت في فجر تابع الإمام وأمن) الحنابلة ذكروا أنه لا يشرع أن يقنت في الفجر في غير النازلة، إلا أنهم قالوا: لو ائتم بإمام يصنع ذلك فلا حرج؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن الإمام إذا فعل ما يسوغ الاجتهاد فيه فإن المأموم يتبعه قد ذكرنا هذه المسألة وفصلنا فيها.
فقلنا في مسألة متابعة المأموم إمامه فيما يسوغ له الاجتهاد، هل يصح أن يصلي خلف من يعتقد بطلان صلاته؟ فإن المأموم أحياناً يعتقد بطلان صلاة الإمام ويصلي خلفه، كما لو كان الإمام يرى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء، فإن المأموم يصلي معه، قال بعضهم: بلا نزاع، وقلنا: إن من صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أنه يلزم من صلاته مع الإمام بطلان صلاته في نفس الأمر، فحينئذٍ لا يصح الاقتداء، مثل ما لو كان الإمام يرى أن جهة القبلة شمالية، وهو يرى جنوبية، فلا يصح الاقتداء، لماذا؟ لأنه يلزم أن تبطل صلاته في نفس الأمر.
الحالة الثانية: إن صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته إلا أن صلاته كاملة في نفس الأمر، فإنه لا بأس بالاقتداء، هكذا فصلنا القول في هذه المسألة، وعلى هذا فإذا كان يرى أن فعل الإمام غير مشروع فلا حرج أن يؤمن، وقد قال الإمام أحمد في مثل هذا كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية أن أحمد قال: صل معه وأمن!