اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ولا تكره إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب كغيره، وكره قصد مسجد للإعادة، ولا تكره إعادة جماعة في غير مسجدي مكة والمدينة].
المسألة الأولى: اتفق الفقهاء على أن المسجد إذا لم يكن له إمام راتب؛ فيجوز تكرار الجماعة فيه، والمقصود بتكرار الجماعة: هو أن تصلي جماعة، حتى إذا سلم الإمام، تأتي جماعة أخرى فتصلي، حتى إذا انتهى الإمام تأتي جماعة أخرى، وليس المقصود بتكرار الجماعة أن تكون هناك جماعة تصلي والأخرى تصلي وهم في وقت واحد أو قريباً من وقت واحد، فالمقصود بتكرار الجماعة أن تأتي جماعة حتى إذا سلم إمام هذه الجماعة، تأتي جماعة أخرى.
فأقول: اتفق الفقهاء على أنه إذا لم يكن للمسجد إمام راتب؛ فيجوز تكرار الجماعة، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم كـالنووي وغيره.
إذاً الحنابلة رحمهم الله يقولون: إن الجماعة لا تكره إذا جاءت عرضاً، فلو أن إمامنا سلم وجاء أناس يريدون أن يصلوا، فهل نقول لهم: يصلي كل واحد بمفرده أم يصلون جماعة؟ هنا هل قصدوا الجماعة أم قصدوا الصلاة؟ قصدوا الصلاة، فهنا الحنابلة يقولون: لا تكره إعادة الجماعة.
واستدلوا بأمور: الدليل الأول: بحديث رواه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ( أن رجلاً أتى المسجد، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى، فصلى وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على هذا -أو ألا رجل يتصدق على هذا-؟ فقام رجل فصلى معه )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون مع هذا الرجل جماعة، وهذا دليل على أن الجماعة الثانية إذا لم تقصد إلا لأداء الصلاة جماعة فإن هذا ليس بمكروه.
الدليل الثاني قالوا: ولأن كل الأحاديث الواردة في النهي ضعيفة مرفوعة، ولا كراهة إلا بدليل، وهذه قاعدة لا كراهة إلا بدليل.
وذهب الشافعي رحمه الله ومن وافقه إلى أن الجماعة حينئذ تكره، وهو ظاهر صنيع الإمام البخاري ، فقد ذكر في صحيحه معلقاً أن حذيفة رضي الله عنه جاء المسجد فوجد الناس قد صلوا ومعه أصحابه فذهبوا فرجعوا إلى البيوت فصلى كل واحد وحده، وكذلك كان السلف يصلون وحدهم.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الراجح هو مذهب الحنابلة لحديث أبي سعيد ، ثم إن قول الصحابي إنما يعد حجة لمن أخذ به إذا لم يخالف وقد خولف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أي ساعة من ليل أو نهار )، وهذا يدل على أن هذه صلاة سواء صلوا وحدهم أو فرادى.
إذاً كل الأحاديث الواردة في مثل هذا النهي لا تصح، وعلى هذا فيكون عموم الأحاديث الدالة على فضل الجماعة تدخل في ذلك.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أعاد الصلاة فإن الفرض هو الأول خلافاً لبعض أقوال مالك رحمه الله، فإن بعض الفقهاء قالوا: إن الفرض على ما نواه، وبعضهم يقول: الأكمل، والصحيح أن الفرض هو الأول، ولا يشرع أن يعيد الإنسان الصلاة مرتين.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا تكره إعادة جماعة في غير مسجدي مكة والمدينة)، يعني: في غير المسجد الحرام والمسجد النبوي (ولا فيهما لعذر، وتكره فيهما لغير عذر)، يعني: أن تكرار الجماعة عند الحنابلة في المسجد الحرام أو المسجد النبوي إن كان لعذر جاز، وإذا لم يكن هناك عذر فيكره، قال المؤلف: (لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب)، وليس ثمة فرق بين مكة والمدينة، بل إنه لو قيل بجواز مكة والمدينة دون غيرهما لكان أولى؛ لأن ورودهما في الغالب لم يكن لأجل الإمام من عدمه، بل لأجل ذات البقعة، فكان الأولى بأن يقال: وجود مكة والمدينة وتكرار الجماعة بعد الجماعة أولى بالجواز من غير العذر والمشقة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( يا بني عبد مناف ! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار )، والأصل أنه ما كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ حكم غيره من المساجد إلا بدليل، فهم يريدون أن يقولوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( من يتصدق على هذا؟ )، إنه لعذر.
والصحيح أن الحنابلة استدلوا بالجواز، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من يتصدق على هذا؟ )، وهذا كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا فالذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس ثمة كراهة لا في المسجد الحرام ولا في المسجد النبوي ولا غيرهما من المساجد، بشرط أنه إذا لم يكن من عادته أن يوجد الجماعة ويقصد التكرار لعدم رضاه بالإمام؛ فإن هذا لا يجوز لأمور:
أولاً: لأن الجماعة إنما شرعت لأجل التأليف بين قلوب الناس، وهذا يريد أن يفرق، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما لي أراكم عزين؟ ألا تصلون كما تصلي الملائكة يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف )، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر ، إلا إذا كان هذا الإمام ليس مرضياً من حيث الديانة، مثل أن يكون -والعياذ بالله- ممن يرى الطواف على القبور، أو يضع قبراً ويصلي عنده، فإن ذلك من المحرمات ومن وسائل الشرك كما لا يخفى.
فأما إذا كان يطوف بهذا القبر فلا شك أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
قول المؤلف: ( وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، هذا الحديث يقول المؤلف: رواه مسلم في صحيحه، والحديث لا إشكال في صحته فقد رواه مسلم وأهل السنن، لكن العلماء اختلفوا في تفسير قوله: ( فلا صلاة إلا المكتوبة )، ما المقصود به؟
فذهب بعضهم إلى أن معنى الحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا يصح إنشاء صلاة أخرى بعد الإقامة، وأما إذا كان قد صلى ثم أقيم، فإنه يكون غير داخل في الحديث، ولكن يستحب له أن يخففها، وهذا معنى كلام الحنابلة، فعلى هذا: يكون قوله صلى الله عليه وسلم: ( فلا صلاة ) المقصود فلا صلاة تشرع أو تبتدأ، وذهب بعض العلماء: إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة )، يعني: فلا يصح إنشاء صلاة، ولا يصح البقاء على صلاة، ولو كان في التشهد الأخير وهذا مذهب ابن حزم الظاهري.
وذهب بعضهم إلى أنه إذا بقي عليه مقدار ركعة فإنه يكون غير داخل في هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهذا مذهب مالك ، فمثلاً: أنا الآن أصلي ركعتين فإذا أنهيت الركعة الأولى، بقي علي الركعة الثانية، فإذا بقي علي ركعة، فأقول: أنا غير داخل، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، يستدل بهذا أيضاً الحنابلة، فيقولون: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فإذا شرع في الركوع الأول فإنه يدخل فيها.
والذي يظهر -والله أعلم- هو القول الرابع: وهو أننا نقول: إنه إذا لم يبق عليه ما يطلق عليه صلاة في العرف الشرعي، فإنه يكملها، وإن بقي عليه ما يطلق عليه صلاة في العرف الشرعي، فإنه يكون داخلاً في هذا الحديث.
صورتها: لو أنه صلى فلما قام إلى الركعة الثانية ولم يركع بعد الركوع في الركعة الثانية فأقيمت الصلاة، فالآن بقي عليه ركعة بكامل ركوعها وسجودها، فقالوا: إن هذه الركعة يطلق عليها صلاة، فيقال: صلاة الوتر، فيكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فلا صلاة إلا المكتوبة )، وأما إذا لم يبق ما يطلق عليه صلاة، مثل أن يكون قد رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية، فلم يبق عليه إلا السجود والجلوس بين السجدتين والتشهد، فقالوا: إنه حينئذ لا يكون داخلاً في حديث: ( فلا صلاة إلا المكتوبة )؛ لأنه لم يدرك ما يطلق عليه صلاة، ولعل هذا القول أظهر، وقد قواه غير واحد من أهل العلم، والله أعلم.
أما مالك فيقول: إذا بقي عليك ركعة، فإنك تكمل الصلاة؛ لأنك أدركت ركعة لنهايتها فقد أدركت الصلاة لحديث ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وإذا لم يدرك إلا ركعتين فإنه يقول: يقطع صلاته، لقوله: ( فلا صلاة إلا المكتوبة ). أمّا إذا كبر ثم شرع فأقام فإنه يقطع صلاته.
أما قطع الصلاة فيكون بنية عدم الاستمرار.
وهل يلزم أن يلتفت ويقول: السلام عليكم ورحمة الله مثل ما يفعله الناس؟ جاء ذلك في لفظة عند مسلم من حديث جابر ( أن
وجه الدلالة: أنه قال: (فسلم)، وهي منكرة بدليل أنه قال: فصلى وحده، ورواية البخاري : (فانفتل رجل فصلى وحده)، يعني أكمل الصلاة وحده، وعلى هذا فرواية (فسلم) منكرة، وعلى هذا فنحن نقول للذي يريد أن ينفتل عن الإمام: إذا أراد أن يسلم فإنه ينوي قطع الصلاة ثم يتسوك ويستغفر ويصلي ولا يلزم الالتفات، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وكان عمر يضرب على الصلاة بعد الإقامة)، وهذا الحديث رواه عبد الرزاق ولكنه لا يفرح به؛ وذلك لأن في سنده جابراً الجعفي وهو متروك الحديث، وكان يكذب في الحديث، ولكننا نقول: إن الراجح ما مر معنا.
فإذا انتهى من الركوع الثاني، فقال: سمع الله لمن حمده فأقيمت الصلاة، نقول: أكمل صلاتك؛ لأنه لم يبق عليك ما يطلق عليها صلاة في العرف الشرعي، وإذا رفعت رأسك من الركوع الأول، أو قمت إلى الركعة الثانية وأقام المؤذن، نقول: اقطع الصلاة؛ لأنه بقي عليك ما يطلق عليه صلاة في العرف الشرعي؛ لأن العبرة بالإقامة (إذا أقيمت الصلاة) وليست العبرة بصلاة الإمام.
قول المؤلف رحمه الله: (ويصح قضاء الفائتة)، يعني: أنه يجوز للإنسان أن يقضي الفائتة ولو أقيمت الصلاة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فلا صلاة إلا المكتوبة )، فاستثنى صلى الله عليه وسلم المكتوبة، والفائتة هي مكتوبة، فقالوا: لا بأس أن يقضي الفائتة، وهذا مذهب الحنابلة والمالكية وقول عند الحنفية؛ لأنهم يرون أن الترتيب في الصلاة واجب، وهذا مذهب الجمهور، قالوا: ولا يصح عند الجمهور أن يؤم إمام فرض يخالف نية مأمومه، أو أن المأموم يخالف نية إمامه، فلا بد أن تكون نية الإمام والمأموم في الصلاة واحدة، نية الظهر مع الإمام، فيكون المأموم نيته الظهر، نية العصر مع الإمام فيكون المأموم نيته العصر.
فعلى هذا لو جاء مأموم لم يصل الظهر بعد، وقد أقيمت صلاة العصر، فعلى مذهب الجمهور: لا يصح للمأموم أن يدخل مع الإمام بنية الظهر؛ لأن النية قد اختلفت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فلا تختلفوا عليه )، هذا قول الحنابلة، ولا يصح أن يدخل معه بنية العصر؛ لأنه لم يصل الظهر، ولهذا قال: (بل تجب مع سعة الوقت).
وذهب الشافعية إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي ولو اختلفت نية الإمام عن مأمومه، وهذا هو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله وهذا هو الراجح، وسوف يأتي تفصيل ذلك.
وذهب الشافعي رحمه الله أيضاً إلى أن الترتيب بين الصلوات سنة وليس بواجب، والراجح أنه واجب، إلا أن أبا العباس بن تيمية ذكر أنه يجوز ترك الترتيب بين الصلوات لمصلحة الجماعة، فعلى هذا يقول ابن تيمية : لو جاء شخص لم يصل الظهر فجاء المسجد والإمام يصلي العصر، فإنه يدخل مع الإمام بنية العصر، فيسقط الترتيب لأجل الجماعة وقد وافق ابن تيمية بعض مشايخنا، والأقرب هو مذهب الجمهور؛ لأن الجمهور يقول لـأبي العباس: ليس تحصيل الجماعة للثانية بأولى من تحصيلها للأولى، فإذا كنت تجوز الدخول مع الإمام لصلاة العصر، لأجل تحصيل الجماعة، فيقال: ادخل مع الإمام بنية الظهر لتحصل الجماعة للظهر، فليس تحصيل الجماعة للثانية بأولى من تحصيلها للأولى، فالظاهر والراجح أننا نقول: لا ينبغي له أن يصلي وحده خوفاً من أن يقال له: شذ عن الجماعة، بل يدخل معهم بنية ما فاته لأجل الترتيب، والله أعلم.
وعلى هذا فقول المؤلف رحمه الله: (ويصح قضاء الفائتة)، نقول: ومع جواز ذلك إلا أن ذلك لا ينبغي خوفاً من أن يتهم، ولهذا قال: (بل تجب مع سعة الوقت)؛ لأن الحنابلة والجمهور يقولون: إن الترتيب يسقط إذا ضاق وقت الثانية، فإذا ضاق وقت الثانية فيصلي الثانية ثم يصلي الأولى؛ لأجل ألا يصلي الصلاتين قضاءً، فلأجل الخوف من ذلك يصلي الحاضرة؛ لأجل أن يصليها في الوقت، ثم يصلي بعد ذلك الفائتة.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يسقط الترتيب بخشية فوت الجماعة)، هذا هو الراجح، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة، خلافاً للشافعية و أبي العباس بن تيمية ، فإن ابن تيمية يقول: يجوز ترك الترتيب لتحصيل الجماعة، والراجح عدم ذلك، والله أعلم.
هم يقولون: لأنه تعارض في حقه واجبان، صلاة الجماعة والترتيب، وصلاة الجماعة آكد من الترتيب، وهذا غريب، صلاة الجماعة آكد من الترتيب إذا كان سوف يصلي الفائتة وحده، لكننا نقول: الراجح أنه يجوز له أن يدخل بنية غير نية إمامه؛ لأن الاختلاف عليه إنما هو في الأفعال لا في النيات، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر