الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قول المؤلف رحمه الله: (وإن كان له طريقان بعيد وقريب فسلك أبعدهما قصر لأنه مسافر سفراً بعيداً)، صورة المسألة: أن يكون بين البلدتين طريقان يسلكهما الناس في العادة، أحدهما بعيد والآخر قريب، ولا حرج أن يسلك الأبعد ليقصر؛ لأنه قطع المسافة، والعبرة هو السفر وقطع المسافة.
واعلم أن صورة هذه المسألة هي أن ينشئ سفراً له طريقان يسلكهما الناس في العادة، أما أن يدور على البلد ليقطع بذلك المسافة وليس هذا طريقاً للسفر يقطعه الناس عادة إلى البلد الآخر فليس هذا قاطعاً.
صورتها: لو أن شخصاً في جهة شرق البلاد، ويريد أن يذهب إلى مدينة في غرب البلاد، وبين البلدتين من جهة الغرب لهذه البلدة الذي سوف ينشئ السفر منها إلى البلدة الأخرى مسيرة أربعين كيلو فهنا ليست مسافة قصر، لكنه حينما يُنشئ السفر لها من جهة الشرق؛ فسوف يدور على البلد ولا يقطعها من وسطها مثل العادة، فيدور على البلد حتى يبدأ وقد قطع أربعين كيلو، ثم ينشئ المسافة التي بين البلدتين فتكون ثمانين كيلو فلا يعد هذا قاطعاً للمسافة من طريق أبعد.
فالذين مثلاً في شرق الرياض يريدون المزاحمية مثلاً، فبدلاً من أن يأتوها كالطريق العتاد يأخذون نصف دورة على محيط الرياض خارج الرياض، ثم يصلون إلى مثلاً محطة أو نقطة التفتيش في جهة جرار، ثم يذهبون إلى المزاحمية وقد قطعوا ثمانين كيلو، لكن هذا لا يعد أخذ الطريق الأبعد، والمقصود بالطريق الأبعد هو من جهة السفر لهذا البلد الآخر؛ لأنه بلغني أن بعض الإخوة أخذ مثل هذه الدورة وقال: نحن قطعنا ثمانين كيلو فنقصر! وهذا ليس المقصود.
ولكن المقصود في هذا هو: أن يكون بين البلدتين طريقان من جهة السفر الذي ينشئ الناس لها في العادة، إذا ثبت هذا فإذا قطع المسافة من الجهة التي ينشئ الناس السفر إليها في العادة؛ فلا حرج أن يسلك الطريق الأبعد لأنه قاطع للمسافة والله أعلم.
ولو أقام في بلده وتذكر فيصليها صلاة إتمام، لأن العبرة حال أداء العبادة.
قول المؤلف: (لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر)، أي: وقت وجوب العبادة حال فواتها كان مسافراً، وحال قضائها كان مسافراً فلا حرج حينئذ أن يقصر فيها؛ لأن العبرة حال أداء العبادة، ولأن وجوبها وقضاءها كان في السفر، ولهذا قال: (كما لو قضاها فيه نفسه)، يعني كما لو تذكرها وهو ما زال مسافراً قبل أن يرجع إلى بلده.
قال المؤلف رحمه الله: (قال ابن تميم)، ابن تميم من أئمة المذهب، وله طريقة في استدلالات الحنابلة، وإن كانت هذه الطريقة ليست دائماً مرضية عند شيوخ المذهب، وهو كان كصاحب الرعاية وغيرهما لهم اجتهادات، والمعول على ذلك إنما هو برأي الشيخين ومن نحا نحوهما أعني به أبا محمد بن قدامة و المجد أبا البركات .
قال المؤلف رحمه الله: (قال ابن تميم وغيره)، ويقصد بغيره صاحب الرعاية: (وقضاء بعض الصلاة في ذلك كقضاء جميعها، اقتصر عليه في المبدع وفيه شيء).
المسألة: أنه لو شرع في قضاء الصلاة في السفر ثم قدم بلده في أثنائه قصر، وهذا سبق أن ذكرناه ولو أحرم بالصلاة في حضر ثم سافر أتم كما مر معنا، فهذه الصورة تخالف ما في المذهب، فإن المذهب قالوا: لو أحرم في الحضر ثم سافر، مثلاً لو ركب سفينة وهو في الميناء (ما زال في البلد) أو ركب الطيارة وخشي فوات الوقت ثم كبر فسافر هل له أن يقصر؟
الحنابلة يقولون: ولو أحرم في الحضر ثم سافر، أو أحرم في السفر ثم قدم، أتم، وهنا يقول: (وقضاء بعض الصلاة في ذلك كقضاء جميعها)، يعني لما قضى أول الصلاة مسافراً فله أن يتم سفراً ولو قدم إلى بلده، هذه صلاة المسافر.
(وفيه شيء) يقول صاحب الروض؛ لأنه مر معنا عند الحنابلة أنهم قالوا: ولو أقام في الحضر ثم سافر أتم، ولو أحرم في السفر ثم أقام أتم، ولهذا قال المؤلف: (وفيه شيء).
قول المؤلف رحمه الله: (وإن حبس ظلماً أو بمرض أو مطر ونحوه ولم ينو إقامةً)، كل من قطع المسافة ثم حبس دون أهله بسبب مرض أو عدو أو سجن أو نحو ذلك ولم ينو هو إقامةً؛ فإنه يقصر أبداً طالت المدة أم قصرت؛ لأنه لا يعلم متى يخرج، ولا يعلم متى يفك عنه، فحينئذٍ أجمع العلماء كما ذكر ابن المنذر أن من سافر ولم ينو إقامة ولم يعلم متى يرجع بأن يقول: أسافر غداً، أسافر غداً أنه يقصر أبداً.
وقد ذكر المؤلف أثر ابن عمر وقال: رواه الأثرم ، والأثر أخرجه البيهقي و عبد الرزاق في المصنف وصححه جمع من أهل العلم كالحافظ ابن حجر وغيره، وهو أن ابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أقل من أربعة أيام، إذاً هو قطعاً قد نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
وهذه المسألة مشكلة حيث إني أعلم أنني سوف أقيم أكثر من أربعة أيام، وعندي إجماع على أنه من لم ينو إقامة ويقول: أسافر غداً أسافر غداً فإذا كان يغلب على ظنه أن هذا الوقت لا ينتهي بأربعة أيام فكيف يقال في ذلك الإجماع؟ وهذه من المسائل المشكلة حقيقة، لأنهم قالوا: إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم، ومن حبس ظلماً أو من حبس بمرض أو من حبس بثلج فإن مثل هؤلاء يغلب على الظن ألا يفك حبسهم بأقل من أربعة أيام.
فهذا قد نوى إقامة أربعة أيام، خاصةً أن من حبس ظلماً في العادة لا تكفيه أربعة أيام، وعلم من هذا أنه لو حبس وقضي عليه يعني صدر بحقه حكم أنه يتم الصلاة؛ لأنه علم متى سيخرج، ولهذا كان القول بأن الأصل أن الإنسان له أن يقصر ما دام مسافراً أقرب إلى الحق، ويشكل على هذا أنه يجلس ستة أشهر يقصر الصلاة! وهذا محل تأمل، وذلك لأن أكثر الآثار التي تروى عن الصحابة لا تذكر قضاياها ولا الأحوال التي كانت سبب فعل الصحابة بل تذكر اختصاراً، فيصعب في ظل التضارب في الأثر الواحد عن الصحابي أنه مرةً يقصر ومرةً يتم أن يستدل بكل واحد منها.
وقد ذكر ابن حزم رحمه الله آثاراً عن الصحابة كأنها عن صحابي واحد هو ابن عمر، ولهذا ينبغي حمل هذه الآثار بما لا يختلف في الغالب.
والذي يظهر والله أعلم: أن الأصل في الصلاة هو الإتمام ولا يخرج الإنسان عن هذا الأصل إلا لعارض، وإذا كان ثمة عارض؛ فلا حرج أن يقصر، أما أن يكون العارض هو الأصل فهذا محل نظر، مثل ما قلنا: إذا كان في العادة يومياً يسافر في الصباح مسافة مائة كيلو متر أو أكثر ثم يعود في آخر النهار، فهذا الأصل أنه يتم؛ لأن هذا مدعاة إلى أن تكون صلاة الظهر في حقه دائماً قصراً، وهذا خروج عن الأصل كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والذين يعملون في السفارة خاصةً أنهم يعملون أحياناً مكرهين، وكل يوم يبحثون عن نقل فهؤلاء مثل من حبس دون الثلج فهل يقال: إنه لو يجلس سنتين ما زال ينوي الرجوع فله القصر؟ هذا محل نظر والله أعلم.
على كل حال قوله: (وإن حبس ظلماً) هو مثل الأسير، لكن النسخة التي عندي لا يقصر وهذا هو الإشكال.
ولهذا قلت أنا: ما الفرق بين من حبس ظلماً وبين الأسير؟ ولعل هذا خطأ في النسخة، والصواب: والأسير يقصر ما أقام عند العدو. وأنا لاحظت أن نسخة الشيخ ابن قاسم أصح من حيث الروض، وهي أصح من كثير من النسخ حتى من نسخة المشايخ الذين حققوا هذا، فإنه سبق أن وجدنا أخطاء كثيرة أربعة أو خمسة مما مر معنا، فهذا يدل على أن نسخة الشيخ ابن قاسم أصح، والله أعلم.
يعني: لو أنه أقام لإنهاء معاملة أو مهمة رسمية، ولا يدري متى يرجع فإنه يقول المؤلف: (قصر أبداً)، سواء غلب على ظنه أنه يقيم أربعة أيام فأكثر أو لم يغلب على ظنه، وكما قلت: نقل الإجماع ابن المنذر في هذه المسألة وهو يشكل عليه أنه كيف وقد غلب على ظنه؟
ولعل الفرق بينهما هو أن من أنشأ سفراً ينوي فيه إقامة أربعة أيام فأكثر أتم، وأما من أنشأ سفراً لا يدري أيقيم أربعة أيام أم لا فإنه يقصر أبداً، هذا الفرق بينهما، من حيث إنشاء السفر، فمن أنشأ سفراً ناوياً الإقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يتم، وأما من أنشأ سفراً لا يدري متى ينقضي؛ فإنه يقصر ولو طالت المدة، فالفرق بينهما في نية إنشاء السفر ونية الإقامة، ولهذا قال المؤلف: (غلب على ظنه كثرة ذلك أو قلته)؛ لأنه حينما أنشأ السفر لا يدري أيقيم أربعة أيام فأقل، أم يقيم أربعة أيام فأكثر؟
قال المؤلف رحمه الله: [ لأنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ]، وهذا الحديث ( أقام صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً ) وفي رواية: ( تسعة عشر يوماً )، كما عند البخاري، يقول ابن عباس: ونحن إذا أقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن أقمنا أكثر من ذلك أتممنا، وكأن إسحاق يذهب إليه وهو قول ابن المنذر، وهو قول ابن رشد في بداية المجتهد، وفي رواية: (أنه أقام بتبوك عشرين يوماً)، ولعل الجمع بين الروايتين هو أن منهم من جبر ومنهم من لم يجبره يعني تسعة عشر يوماً ونصف يوم. ولم يحفظ عن الرسول أنه سافر أكثر من تسعة عشر يوماً في مكان واحد إلا في تبوك، وهذا الذي جعل ابن المنذر يقول ذلك والله أعلم.
إذاً: حددت هنا بعشرين يوماً؛ لأنه ما حفظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر أكثر من تسعة عشر يوماً أو عشرين يوماً فجعلوا هذا حداً لأكثر مدة القصر خوفاً من أن تكون غالب صلاته قصراً.
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن ظن ألا تنقضي إلا فوق أربعة أيام أتم ]، هذا يشكل الذي مر معنا، (غلب على ظنه كثرة ذلك أو قلته)، ثم قال: (وإن ظن ألا تنقضي إلا فوق أربعة أيام أتم)، هذا هو المذهب، وكما قلت: إن المسألة ما زالت مشكلة في المذهب عند الأصحاب وغيرهم؛ لأنهم يقولون: إن أنشأ سفراً ولم ينو إقامة أربعة أيام قصر، غلب على ظنه كثرة ذلك أم قلته، لكنهم قالوا هنا: وإن ظن ألا تنقضي إلا فوق أربعة أيام أتم، وهل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يحارب الروم وسوف يظهر الرعب في قلوبهم يمكن أن يحصل ذلك في أقل من أربعة أيام؟! ثم إن قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغلب على ظنه الإقامة تحكم أنى لهم ذلك من غير نص عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأجل هذا: فإن خلاصة المسألة أن الحنابلة رحمهم الله يقولون:
أولاً: من أنشأ سفراً ينوي فيه إقامة أربعة أيام فأكثر أتم الصلاة.
ثانياً: من أنشأ سفراً لا يدري متى يرجع ولم ينو إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يقصر.
ثالثاً: إن أنشأ سفراً لا يدري متى يرجع؛ فإن ظن أنها تنتهي بأكثر من أربعة أيام فعلى روايتين: قول يقول: إن غلب على ظنه أنه سوف يقيم أكثر من أربعة أيام أتم، والرواية الثانية: أنه غلب على ظنه أو لم يغلب على ظنه فإنه يقصر، هذه ثلاث أحوال في هذه المسألة.
يعني: لو أن رجلاً سافر سفر معصية، وقلنا على مذهب الحنابلة والجمهور: إنه لا يقصر في سفر المعصية، فنوى القصر، يقول المؤلف: (لم تنعقد)، يعني: (لم تنعقد صلاته)،كما لو نوى مقيم القصر لم تصح صلاته ولو أتم؛ لأنه نواها قصراً فلو أتم عند الحنابلة لا يصح، لأنهم يرون أن من دخل بنية القصر مع أنه لا يباح له ذلك لم تنعقد صلاته، وكذا لو نواها إتماماً ثم قصر؛ فعلى المذهب أيضاً لا يصح لأن من شروط القصر نية القصر من ابتداء الصلاة.
وعلى القول الراجح وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية أن سفر المعصية تقصر معه الصلاة، وعلى القول الراجح في المسألة الأخرى وهو أن نية القصر لا حرج أن تنشأ أثناء الصلاة، فإنه لو نوى مسافر القصر حيث لم يبح له هذا السفر؛ فإن صلاته تنعقد؛ لأن القصر والإتمام لا يخالفان أصل الصلاة، وإنما ذلك من صفتها، والله أعلم.
فأما الصورة الأولى: أن يكون لأجل السفر، فالسفر يجوز فيه الجمع في حالتين: الحالة الأولى: أن يجد به السفر، يعني لم يصل إلى البلد الذي قصدها فلا شك في جواز الجمع في ذلك عند أهل العلم؛ لقول أنس و ابن عمر : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قبل زوال الشمس أخر الظهر إلى العصر ثم سافر، أو ركب ثم أخر الظهر إلى العصر، وإن سافر قبل غروب الشمس أخر المغرب إلى العشاء ثم سافر )، وهذا يدل على جواز الجمع بين الصلاتين إذا جد به السفر.
الحالة الثانية في السفر: أن يقصر حال إقامته في البلد الذي ذهب إليه وقد نوى إقامة أقل من أربعة أيام، فيقول المؤلف في هذه الصورة: (يجوز الجمع بين الظهرين أي: الظهر والعصر في وقت إحداهما)، يعني ما دام أنه مسافر ومقيم في البلد الذي سافر إليه أقل من أربعة أيام، يعني: نوى إقامة أقل من أربعة أيام؛ فإن له أن يقصر وله أن يجمع في وقت إحداهما، يجوز بين الظهرين وبين العشاءين، ولهذا قال: (في وقت إحداهما في سفر قصر)، يعني: نوى إقامة أقل من أربعة أيام.
وهذا هو مذهب مالك و أحمد و الشافعي خلافاً لـأبي حنيفة والرواية الأخرى عند مالك رحمه الله، ذلك أن مالكاً يجِّوز الجمع إذا جد به السفر دون الإقامة، و أبو حنيفة يمنع من الجمع مطلقاً، والجمهور يجوزون الحالتين.
أما دليل الجمهور: فقد ذكر المؤلف رحمه الله رواية معاذ بن جبل : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان بتبوك خرج فأمر
وعلى هذا فحديث معاذ بن جبل في غزوة تبوك: ( أنه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار )، قلنا: هذا الحديث إلى الضعف أقرب وإن كان معناه متفق عليه ولكنه يصلي الظهر ثم يركب، لا يجمع بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
والدليل الثاني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر)، وفي رواية: ( من غير خوف ولا سفر )، كما رواهما مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس ، رواية ( خوف ولا مطر )، هي رواية حبيب بن أبي ثابت ، ورواية (سفر)، هي رواية محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، وبعضهم يصحح ( من غير خوف ولا سفر )، كرواية محمد بن مسلم ، وبعضهم يرجح رواية حبيب بن أبي ثابت . وجه الدلالة من هذا قالوا: إنه لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم من غير خوف ولا مطر ولا سفر مع استحضار أن الجمع من غير حاجة محرم؛ دل على أنه كان مريضاً، يعني الصحابة كان فيهم نوع من المرض، ولا شك أن هذا الاستدلال محل نظر، ذلك أنه لم ينقل عن واحد من الصحابة أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم كان لمرض، فلربما كان لعذرٍ غير المرض بدليل قوله: (أراد ألا يحرج أمته)، ولكن أصح شيء في الباب من حيث المرض هو حديث حمنة بنت جحش .
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا عذر بعد ذلك إلا المرض ]، يعني: أنه لم يكن ثمة عذر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا المرض، لكن هل المرض مرض النبي صلى الله عليه وسلم أم مرض الصحابة؟ محل توقف، والذي يظهر أنه إنما جمع لعذر والأعذار كثيرة، وقد جمع ابن عباس رضي الله عنه بين الظهر والعصر لأجل تعليم الناس كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
والحديث رواه الترمذي والإمام أحمد وسنده جيد إن شاء الله، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل ، تكلموا فيه والأقرب أنه مقارب الحديث، يعني أنه يقبل حديثه فيا لا يعارض الثقات.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجوز أيضاً لمرضع لمشقة كثرة نجاسة ] في السابق كانت المرضع ترضع ولدها فتلقمه ثديها وليس ثمة شيء يحفظ الطفل من وقوع النجاسة على أمه، فتتضرر الأم بكثرة ذلك؛ فجاز لها الجمع لمشقة الطهارة في حقها كالمستحاضة، ويدخل في ذلك العاجز عن الطهارة مثل المرأة الكبيرة أو الرجل الكبير الذي يشق عليه الذهاب إلى الحمام إلا بتيمم، فلو جمع بين الصلاتين بالطهارة المائية، فهو جائز والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ أو تيمم لكل صلاة أو عن معرفة وقت كأعمى ]، يعني: أعمى يشق عليه معرفة الوقت؛ يجوز أن يجمع، يقول كما في كشف القناع: ومحل ذلك إذا تمكن من معرفة الوقت بأحد الوقتين، يعني أعمى يغلب على ظنه أنه إذا صار في الظهر يعرف الوقت أما العصر ما يعرفه، فيجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، أو يغلب على ظنه أنه يعرف العصر فيجمع بين الظهر والعصر في وقت العصر حتى يعلم الوقت فلا حرج.
ومثل ذلك إذا كان الإنسان في امتحان مثل بعض المبتعثين في بعض الدول الغربية يدخلون الامتحان الساعة مثلاً ثلاثة ولا يخرجون إلا بعد المغرب؛ فيشق عليهم صلاة العصر، فلو جمعوا بين الظهر والعصر في وقت الظهر مثل هذا الظرف؛ لا حرج، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية وهو مذهب محمد بن سيرين وهو مذهب الخطابي وأشار إليه النووي في شرح مسلم ، وهو مذهب القفال و الشاشي من الشافعية على أنه يجوز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين لحاجة أحياناً، وهذا هو العذر الثالث.
القول الأول: يجوز الجمع بين العشاءين عند الحنابلة لمطر يبل الثياب ويلحقه مشقة، وهذا المطر إنما يكون في العشاءين، أما في الظهرين فإنه على مذهب الحنابلة لا يصح الجمع لأن هذا المطر لا يلحقه مشقة، إذاً المطر الذي يلحقه مشقة إنما يكون بين العشاءين يعني: في المغرب والعشاء، أما في الظهر والعصر فإنه ليس ثمة مشقة.
القول الثاني في المسألة: جواز الجمع بين الظهر والعصر لأجل المطر وهو رأي عمر بن الخطاب كما رواه عبد الرزاق وهو مذهب مالك ودليل ذلك فعل عمر رضي الله عنه أما بين العشاءين فإنه يجوز له ذلك.
وهذا هو الراجح، لكن لا ينبغي التسرع للأئمة الذين يجمعون بين الظهر والعصر في وقت الظهر مع العلم أنها ربما تكون سحابة صيف، لأن هذا ربما يكون في وقت الظهر ثم يذهب فلا ينبغي التعجل في الجمع بين الظهرين لأجل المطر، لأنه ليس ثمة مشقة، فإن جمع فالقول بالإعادة محل نظر.
قال المؤلف رحمه الله: [ والثلج والبرد والجليد مثله ]، يعني: الثلج والبرد إذا شق ذلك على الناس فإن فيه مشقة أشد من المطر.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولوحل وريحٍ شديدة باردة ]، الوحل هو مثل الطين والماء المتجمع في الطرقات، فإن خروج الناس مع ذلك فيه مشقة ربما تكون أشد من مشقة نزول المطر، وأما الريح فإن الحنابلة اشترطوا للريح شروطاً: أن تكون هذه الريح شديدة، وأن تكون باردة، وأن تكون في ليلة، لأنهم قالوا: لو كانت ريحاً وليست شديدة فلا مشقة، ولو كانت ريحاً شديدة وليست باردة فإنها يمكن أن تتقى، ولو كانت ليلة باردة وليس فيها ريح؛ فإنها يمكن أن تتقى، أما أن تكون باردة وريحاً؛ فهذه التي لا يمكن أن تتقى، ولا شك أن هذا إنما هو معلق بالمشقة، وربما في بعض البلدان تكون ريحاً باردة في النهار وتصل درجة الحرارة إلى عشرين تحت الصفر كما في مناطق في روسيا.
فالقول بأنه لا يجوز الجمع بين الظهرين محل نظر؛ لأنه مهما بلغت ذلك في الجزيرة العربية فلن تبلغ نصف صفر مئوية، وعلى هذا فالقضية إنما هي للحاجة التي يكون فيها ترك الجمع مشقة للناس، وهل يدخل في ذلك الغبار الشديد؛ لأن الغبار الذي لا يستطيع الإنسان أن يرى يده لو أخرجها أعظم من مشقة المطر، خاصةً في مثل بعض هذه الأيام، فلو جمع الناس فلا حرج إلا أنني أحب من الناس أن ينادوا: صلوا في رحالكم؛ لأن هذا إنما هو في حق من يشق عليه الخروج كمن به ربو ونحوه.
فإذا جمع الناس في مثل ذلك؛ فلا حرج، لكن لا ينبغي التعجل بمجرد وجود غبار إلا إذا غلب على الظن استمراره كما يوجد الآن من أخبار حماية الأرصاد والبيئة.
وأفادنا المؤلف بأن الريح إذا كانت شديدة وباردة في النهار لا يجوز الجمع، والراجح جوازه خاصةً إذا كان فيها مشقة غير معتادة، وبالمناسبة فقد ذكر الإمام الشاطبي المشقة التي يحصل فيها التكليف: وهي المشقة المعتادة، وأما المشقة غير المعتادة فهي التي يقع الناس فيها بحرج وهذه التي يقع فيها الترخيص والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ( لأنه صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة ) رواه البخاري بإسناده ]، المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم في الريح الشديدة نادى: ( صلوا في رحالكم ) كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر فهذا الحديث لا يصح مرفوعا، والله أعلم وإنما هو موقوف على عمر و ابن عمر.
قال المؤلف رحمه الله: [ وفعله أبو بكر وعمر وعثمان ]، لا يصح الحديث عن أبي بكر، وفعله عمر ؛ لما رواه عبد الرزاق فله الجمع لذلك.
قالوا: لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها كالسفر.
والقول الثاني في المسألة: إذا صلى في بيته فلا يسوغ له أن يجمع؛ لأن الجمع إنما كان لأجل تحصيل الجماعة ولا جماعة لمن صلى في بيته، وهذا لعله أظهر والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ تحت ساباط ]، الساباط: مثل ما نسميها نحن مظلة أو هنجر أو قصرية كما تسمى الآن، فهذا لا حرج؛ لأنه صلى مع الناس طلباً لتحصيل الجماعة، أما أن يصلي في بيته فهذا لا يسوغ له الجمع؛ لأن الجمع إنما جاز تحصيلاً للجماعة.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر