الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالمؤلف ذكر هذا الفصل؛ لبيان شروط صحة الجمعة، وأما ما سبق فهي شروط من تجب عليه الجمعة.
قال المؤلف رحمه الله: [ يشترط لصحتها أي صحة صلاة الجمعة أربعة شروط، ليس منها إذن الإمام ] يعني: لا يشترط أن يستأذن الإمام لإقامة الجمعة في المسجد، وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب مالك و الشافعي ، خلافاً لـأبي حنيفة ، فإنه قال: لا بد فيها من إذن الإمام.
واستدل الجمهور على ذلك بقول المؤلف: [ لأن علياً صلى بالناس و عثمان محصور فلم ينكره أحد وصوبه عثمان ] زمن الفتنة كان علي رضي الله عنه قد صلى بالناس صلاة الجمعة و عثمان رضي الله عنه محصور في بيته لم يستطع أن يخرج؛ لأن أهل الفتنة قد حبسوه، ولم يستأذن عثمان رضي الله عنه في ذلك، وكان ذلك في ملأ كثير من الصحابة، ولم ينكر أحد ذلك، والأثر عن علي رضي الله عنه إسناده جيد، رواه عبد الرزاق وغيره وإسناده لا بأس به، ومما يدل على ذلك: أن إذن الإمام خارج عن الأصل؛ لأن الأصل في العبادات أن تصلى وتفعل بلا إذن أحد، فمن خرج عن هذا الأصل لا بد له من دليل، ولأن الإذن إنما يتأتى فيما لا يتكرر، كصلاة الاستسقاء، فإن تكررها إنما يكون بأمر يحتاجه المسلمون، فلا بد فيه من إذن الإمام، حتى يجتمع الناس للمقصود منه، وأما صلاة الجمعة فهي تخالف ذلك، فهي تتكرر وليس خروجها لأجل حصول مقصود دنيوي، وإنما لأجل إقامة شعيرة من شعائر الدين؛ ولأن إذن الإمام إنما يصار إليه إذا كان ذلك لأجل حاجة المسلمين؛ ولأجل حصول الاجتماع فيما لا يتكرر، كصلاة الاستسقاء؛ هب أن كل واحد خرج لوحده لصلاة الاستسقاء، هل يحصل المقصود؟ لا، المقصود خروج الناس كلهم تضرعاً وانكساراً بين يدي الله، أما صلاة الجمعة فليس فيها هذا الأمر، فهي تتكرر، وليس المقصود من إقامتها حصول أمر يحتاجه المسلمون، إنما لأجل إقامة هذه الشعيرة.
قال المؤلف رحمه الله: [ رواه البخاري بمعناه ] البخاري روى الحديث في قصة عثمان رضي الله عنه، وليس فيها هذا التفصيل، ولكن حينما قيل لـعثمان رضي الله عنه: إنه يصلي بنا أمير فتنة، وأنت كما ترى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) وهذا يدل على أنهم كانوا يصلون الصلوات من غير إذن عثمان فكانت الجمعة من ضمنها، فكان علي رضي الله عنه هو الذي يقوم بالإمامة والله أعلم.
وعلى هذا فقول المؤلف: (الوقت) ولم يقل: دخول الوقت؛ لأن دخول الوقت يلزم منه أن تقضى بعدها، والجمعة لا تفعل بعد وقتها بخلاف بقية الصلوات؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ لأنها صلاة مفروضة فاشترط لها الوقت كبقية الصلوات، فلا تصح قبل الوقت ولا بعده ]، فهي لها وقت محدد، لا تصح قبله ولا تصح بعده، على الخلاف عندهم متى يبدأ وقت الجمعة، مع إجماعهم على أن آخر وقت الجمعة هو أول وقت العصر، أو آخر وقت الظهر؛ لأن هناك خلافاً بين الظهر والعصر هل بينهما فرق أو لا؟ هناك خلاف عند بعض الحنفية وغيرهم.
قال المؤلف رحمه الله: [ إجماعاً قاله في المبدع، وأوله أول وقت صلاة العيد لقول عبد الله بن سيدان: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطني و أحمد واحتج به ].
المؤلف رحمه الله يرى أن صلاة الجمعة تبدأ من ارتفاع الشمس قيد رمح، وإنما لم يقل ذلك؛ لأنه قال: كعيد، والعيد إنما يبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، واستدل المؤلف بما رواه عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، وجه الدلالة من ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وأن عمر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا
وهذا الحديث يقول المؤلف: (رواه الدارقطني و أحمد واحتج به)، أولاً: الحديث في سنده عبد الله بن سيدان لا يتابع على حديثه، كما يقول البخاري ، وإذا قال العلماء: لا يتابع على حديثه يعني أنه لم يأت ما يعضده من الأحاديث، وأن هذا الراوي قد تفرد، وأنتم تعلمون أن الراوي إذا كان حسن الحديث وأتى بما يخالف حكماً شرعياً لم يأت به الثقات أن العلماء يتوقفون بشأنه، فما بالك إذا كان الرجل يروي قصة يشهدها عامة الصحابة وكبار التابعين، فيذكر أن أبا بكر صلى قبل دخول وقت الظهر بعد منتصف النهار، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا فيمن يشتهر ذكره وروايته وخبره، وأن الراوي إذا نقل مثل ذلك لا بد أن يكون مشهوراً بالقرب من الصحابة، مشهور الرواية في العلم، و عبد الله بن سيدان ليس له من ذلك شيء.
وعلى هذا فالحديث ضعيف، ضعفه البخاري و ابن عدي و أكثر أهل العلم، والمعروف عن أبي بكر و عمر خلاف ذلك، ولهذا روى ابن أبي شيبة من حديث سويد بن غفلة رحمه الله قال: صليت مع أبي بكر و عمر حين زالت الشمس، وهذا الحديث إسناده صحيح، وهو يفيد أن المعروف عن أبي بكر و عمر أنهما كانا يصليان الجمعة بعد زوال الشمس.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكذلك روي عن ابن مسعود و جابر و سعيد و معاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم ينكر ].
أحسن ما جاء عن الصحابة في ذلك عن معاوية رضي الله عنه، فإنه صلى بالناس الجمعة ضحى، كما روى ذلك ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن سويد ، وإسناده جيد، وأما ما جاء عن جابر فإنه حديث ضعيف، وأما ابن مسعود فقد جاء من طريقين، كلاهما لا يخلوان من ضعف.
وأما قول المؤلف: ( سعيد ) فإن المعروف عن سعيد من الصحابة هو سعيد بن زيد ، ولم يعرف أنه رضي الله عنه عرف بالفقه أو نقل الفقه، ولهذا استشكل كثير من الشراح من هو سعيد ؟ ولعل الذي يظهر والله أعلم أنه سعد وليس سعيد ، ففي بعض النسخ سعيد وبعضها سعد ، فبعضهم يقول: إنه سعيد بن زيد ، وبعضهم يقول: سعيد بن المسيب وهذا بعيد؛ لأن الإمام أحمد إنما أراد أن يذكر الصحابة فيبعد أن يقول: سعيد بن المسيب ثم يقول: معاوية ! ولهذا فإن المعروف أنه سعد بن أبي وقاص ، والرواية عنه ضعيفة والله أعلم.
ومما يدل على ذلك أن الإمام أحمد لم يحتج بحديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم!
فعلى هذا الذي يظهر والله أعلم أنه لا تصح الخطبة ولا الصلاة إلا بعد دخول وقت الظهر، ولا ينبغي للإمام أن يدخل قبل ذلك؛ لأن جماهير أهل العلم وفقهاء الأمصار لا يرون صحة الخطبة قبل الوقت، وبعضهم يقدمها ربع ساعة قبل الأذان فيخطب بحيث يصلي صلاة الجمعة في الوقت، وهذا عند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية وبعض الحنفية؛ لأنه لا بد أن تكون الجمعة أيضاً خطبتها في الوقت؛ لأنها بدل عن الركعتين كما يقول الفقهاء رحمهم الله.
وهناك ثالث: اختاره الخرقي وقواه ابن قدامة : أنها لا بأس أن تفعل في الساعة السادسة، ومعنى الساعة السادسة: أي من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس، ينظر كم ساعة بينهما، ثم تقسم إلى ست ساعات، ومعنى الساعة: الجزء من الوقت، وليس الساعة التي هي ستون دقيقة، فالساعة السادسة يجوز فيها إقامة صلاة الجمعة.
قالوا: لحديث جابر : (كنا نصلي صلاة الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، وليس للحيطان ظل يستظل به)، قالوا: فإنه يبعد أن تكون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته ثم ذهابهم إلى الجمال وليس للحيطان ظل فيدل على أنها قد فعلت قبل الوقت بقليل، وهذا ليس فيه دلالة صريحة؛ لأنه قال: (ثم نذهب إلى جمالنا) لعل جمالهم قد أنيخت قريباً من المسجد، خاصة أن الصحابة كانوا إذا صلوا الجمعة يخرجون، لا يجلسون مثل جلوس الناس اليوم، ولهذا يقول الراوي: (فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة)، وذكر البخاري : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينتظر قليلاً)، قال الزهري: وكنا نرى والله أعلم أن ذلك لأجل أن يخرج النساء، فهذا يدل على أنه لم يكن هذا الجلوس معتاداً، وإن كانوا يذكرون الله سبحانه وتعالى بعد أدبار الصلوات، وما كنا نعرف انقضاء صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير، والله أعلم.
وهذا محتمل، ولكن البقاء على النصوص الظاهرة أولى، والله أعلم.
وقول جابرهذا لا يلزم منه أنه وقت الزوال؛ لأن الحينية في لغة العرب تقتضي القرب ليس إلا، ولا تقتضي الوصول إلى هذه الحالة، تقتضي القرب؛ ولهذا قال جابر ذلك، وهذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الصلاة والخطبة مثل فعلنا في هذا الزمان، والله أعلم.
أجمع أهل العلم على أن صلاة الجمعة وفعلها بعد زوال الشمس أفضل؛ لكثرة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، والصحابة كذلك؛ ولأن في ذلك خروجاً من الخلاف.
وذهب بعض الشافعية إلى أنها تؤخر إذا اشتد الحر؛ لعموم الأحاديث، والذي يظهر والله أعلم أنها لا تؤخر، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر و عمر أنهم يؤخرون، وهذا الفعل يخصص عموم النص، على قاعدة: فعل الصحابة أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم يقيد عموم النص، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) علم أنه يستحب إذا كان وقت شدة الحر أن يصلي الإنسان آخر الوقت، فهذا يدل على عموم الصلوات.
لكن لما رأينا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصليها حين تزول الشمس، ورأينا أبا بكر يصنع ذلك و عمر يصنع ذلك، دل ذلك على أن هذا مخصص من عموم النص، وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام، وكذلك علماء الأصول: أن فعل الصحابة يخصص عموم النص الشرعي، كما ذكروا ذلك في مسألة القبضة وغيرها، والله أعلم.
وعلى هذا فالمستحب يوم الجمعة أن تصلى في أول وقت صلاة الظهر، ولا تؤخر ولو كان ذلك في شدة الحر، وهو مذهب الجمهور والله أعلم.
لو أن الناس انتظروا الإمام ولم يأت إلا قريباً من العصر، فلا يخلو الأمر من أحوال:
الحال الأولى: ألا يدرك الإمام ركعة قبل الوقت، مثل أن يكبر تكبيرة الإحرام وقبل أن يركع أو حال الركوع قبل أن يتم قائماً خرج وقتها، فإنهم يتمونها ظهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) والذي لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا كما يقول المؤلف: (لا نعلم فيه خلافاً).
وأما لو أدرك ركعة بركوعها بحيث عندما استتم قائماً من الركعة إلى الركعة الثانية خرج وقت الظهر، فإنه يتمها جمعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهذه المسألة أقصد بها بعد التحريمة هو مذهب جمهور أهل العلم الذين قالوا: لا بد فيها من إدراك ركعة، وأما إذا لم يدرك إلا أقل من ركعة فإن الحنابلة رحمهم الله يرون أن إدراك تكبيرة الإحرام كافية في إقامة الجمعة.
واستدلوا على ذلك بما روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: ( من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) قالوا: فهذا يدل على أن المقصود جزء من الصلاة.
والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم، وأن حديث: ( من أدرك سجدة من الصلاة ) المقصود بذلك ركوعها وسجودها كاملة، وليس المقصود هو جزء من مقدار السجدة.
وعلى هذا فالحنابلة يرون أن الإمام إذا كبر لصلاة الجمعة قبل خروج وقتها أنه يصليها، وأنه إن لم يكبر حتى خرج وقتها فإنه يصليها ظهراً، وهذا محل إجماع عند أهل العلم فيما إذا خرج الوقت قبل أن يكبر، إنما الخلاف إذا كبر قبل خروج الوقت، ولم يصل حتى ركعة، فالحنابلة يقولون: يدرك الجمعة فيصلي ركعتين، والجمهور يقولون: لا يدرك الجمعة حتى يدرك ركعة، وهذا هو المعروف من مذهب مالك و الشافعي وغيرهم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وإلا بأن أحرموا بها في الوقت فجمعة ].
إن أحرموا بها في وقت الجمعة ولو لم يصلوا ركعة، فإنهم يصلونها جمعة، هذا مذهب الحنابلة، والراجح خلاف ذلك، وأن مقصوده هو إدراك ركعة بركوعها وسجودها، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ كسائر الصلوات تدرك بتكبيرة الإحرام في الوقت ].
مر معنا الخلاف في ذلك، وقلنا: إن الراجح خلاف ذلك والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا تسقط الجمعة بشك في خروج الوقت) لأن الأصل بقاء وقت الجمعة، واليقين لا يزول بالشك، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن بقي من الوقت قدر الخطبة والتحريمة لزمهم فعلها وإلا لم تجز ].
وعلى القول الراجح نقول: فإن بقي من الوقت قدر الخطبة ومقدار ركعة لزمهم فعلها، وإلا لم تجز، وسوف يذكر المؤلف شروط الخطبة بعد ذلك؛ لأنه جائز أن تكون الخطبة طويلة، وجائز أن تكون قصيرة.
هذا المتن ليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا من حيث الابتداء ولا من حيث العدد، وإنما هي حكاية فعل، إما من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تبين ذلك فإنه يبعد أن تكون جمعة تتكرر كل أسبوع، ويكون ذلك من واجبات إقامتها، ولم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، والقاعدة: أن ما تحتاجه الأمة والمسلمون في عباداتهم، ويتكرر كل يوم فيبعد ألا يبين ويظهر، هذا هو الغالب كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله؛ ولأجل هذا وقع خلاف في العدد الذي يسمح لإقامة صلاة الجمعة، مع إجماع أهل العلم على أن صلاة الجمعة لا تجوز إلا بجماعة، ثم اختلفوا في عددهم، فالمذهب لا بد فيها من حضور أربعين من أهل وجوبها، ومر معك من هم أهل الوجوب، فلا بد من وجود أربعين، فلو وجد تسع وثلاثون من أهل الوجوب وشخص مسافر أو امرأة أو عبد فإنها لا تصح عند الحنابلة والشافعية، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حينما بعث
أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا الجمعة، ولم يبين لهم العدد، فلو كان العدد معتبراً لبين صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جائز أن يكون الذين خرجوا إلى المدينة عددهم أربعون، لكن ربما يكون أحدهم معذوراً فيترك الصلاة، ومن المعلوم أن الإنسان إذا سافر أربعاً ربما يعتذر أحدهم في صلاة مرة أو مرتين أو يكون مريضاً أو غير ذلك، فكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا الجمعة وعددهم أربعون ليس فيها ما يدل على أنهم لا بد أن يصلوا وعددهم أربعون، وهذا فرق بين الأمرين، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يذهبوا إلى المدينة، وعددهم كان أربعين، فكأن عددهم وقع اتفاقاً لكن لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجمعة لا تصح إلا بأربعين؛ لأنه جائز للمسافرين أن يكونوا أربعين أو يكونوا أربعين من أهل المدينة وكلهم لا يصلون، هذا أمر.
ثانياً: أن من الصحابة من هو من أهل مكة، كـمصعب بن عمير وغيره، ولم يثبت وجوب الهجرة بعد، فدل ذلك على أنهم كانوا أربعين، ولكن ليسوا من أهل البلد بل هم مستوطنون للبلد، وهذا فيه ما فيه، ولأجل هذا فإن القول بالأربعين محل نظر، والعلماء رحمهم الله اختلفوا في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، أشهرها ثلاثة أقوال:
القول الأول بالأربعين، والقول الثاني: أن يكونا اثنين، الإمام وشخص واحد، وهذا هو مذهب ابن حزم ورجحه الشوكاني ، واستدلوا بما جاء عند الإمام أحمد : ( الاثنان فما فوقهما جماعة )، وهذا الحديث حسنه الشوكاني وهو إلى الضعف أقرب.
والقول الثالث: هو اختيار أبو العباس بن تيمية رحمه الله وهو رواية عند الإمام أحمد : أنه يشترط وجود ثلاثة معهم الإمام، وهذا قوي، قالوا: إن خطبة الجمعة بمثابة ركعتين، والصلاة بمثابة الركعتين، فسقطت الركعتان لأجل الجمعة، والجمعة لا بد أن يحضرها جماعة، والجماعة اثنان فأكثر، ولو قلنا: اثنان منهم الإمام لكان الإمام واحداً، ومستمع الخطبة واحد ولم تكن في مقام الجماعة، وهذا من حيث النظر قوي؛ لأن الجماعة في الخطبة مقصودة؛ لأنه كيف يخطب الإنسان لواحد، فالذي يظهر والله أعلم أنه لا بد لحضور الجمعة أن يكونوا جماعة، ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة أن يصلوا في قرية بجواسة في نقيع الخضمات، والقرية في الغالب ليسوا كثر، ومنهم من يعتذر، ومنهم من لا يعتذر ومنهم من يتأخر ومنهم من لا يتأخر، فدل ذلك على أنه لا بد من حضور الجماعة للخطبة، ولعل هذا أظهر والله أعلم.
وهذا يتأتى عند الإخوة الذين يسافرون أحياناً للدراسة في قرية وربما لا يكون من المسلمين إلا ثلاثة، أو ممن يصلون إلا ثلاثة، فإذا صلوا ثلاثة صلاة الجمعة وكانوا مستوطنين لهذا المكان فإنه لا حرج في ذلك إن شاء الله، والله أعلم.
فإن الصحابة صلوا بجواسة في البحرين، وهي قرية، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بصحة صلاتهم، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عددهم كثيراً، مما يدل على أن الأصل صحة صلاة الجمعة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال جابر : ( مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة وأضحى وفطر ) رواه الدارقطني وفيه ضعف، قاله في المبدع ]، والحديث ضعيف.
مثال آخر: في زمن مضى كانت صلاة التراويح لا يجوز أن تصلى أقل من ثلاث وعشرين ركعة، بل كان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يرى: أن من صلاها أقل من ذلك لا يصلي بالناس، وقد حدثني بعض المشائخ أن الشيخ محمد بن إبراهيم فصل شخصاً إلا أن يصليها ثلاثاً وعشرين وإلا فلن يصلي بالناس، ثم جاء زمن وهو زمن الشيخ الألباني وانتشر هذا بين طلاب العلم على أن الصلاة لا تصح أقل ولا أكثر من إحدى عشرة ركعة، وأن الزيادة في ذلك بعضهم يقول: بدعة، وبعضهم يقول: خلاف السنة، وانتشر هذا القول، واليوم أصبحنا نجد أن من يتوسع في هذا ويرى أن الأفضل هو كثرة الركوع والسجود، وقد نقله أبو العباس بن تيمية عن عامة أهل العلم وكذا أبو عمر بن عبد البر ، والغريب أن أبا عمر بن عبد البر نقل الإجماع على جواز الزيادة على إحدى عشر ركعة، ونقله العراقي في طرح التثريب أيضاً.
ومن المسائل أيضاً التي تشتهر ثم يذهب لهيبها، مسألة أخذ الأجرة على أعمال القرب، وقد كان الخلاف فيها قوياً، والسؤال عنها كثيراً، واليوم اختلف الوضع، والغريب أن الآن عقود الناس مع الدولة أو الحكومة ليست رزقاً، كما يظنه بعض الفضلاء وبعض طلاب العلم؛ لأن الرزق هو عطاءٌ يصلح حالك وشئون أهلك ودنياك، أما الآن فهي عقود تجارية، عقد تجاري من العقود، لك حقوق، تبرمها مع الدولة أو تبرمها مع جهة معينة، كلها لها اعتبار، ولك إجازة وراتب ونقل، وبدل وعلاوة، هذا كله لا يمكن أن يكون رزقاً، الرزق عطية من العطايا فقط، وعلى هذا فاليوم أكثر الذين يدرسون الفقه والحديث وغيرها يأخذون راتباً على عملهم، وبالتالي ضعف الخلاف في مسألة أخذ الأجرة على أعمال القرب وأصبح الأمر معلوماً واضحاً، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر