الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين كخطبة الجمعة في أحكامها حتى في الكلام إلا في التكبير مع الخاطب يستفتح الأولى بتسع تكبيرات قائماً نسقاً، والثانية بسبع تكبيرات كذلك؛ لما روى سعيد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: يكبر الإمام يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات. يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أغنوهم بها عن السؤال في هذا اليوم)، ويبين لهم ما يخرجون جنساً وقدراً والوجوب والوقت، ويرغبهم في خطبة الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها من رواية أبي سعيد والبراء وجابر وغيرهم].
والقول الثاني في المسألة: أن للإمام أن يخطب خطبةً واحدة، واستدلوا على ذلك بما جاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متكئاً على
والقول الثاني في المسألة: أن وجود الخطبة هو الواجب، وأما استماعها فعلى أمرين: من جلس فيجب أن يستمع، وإلا فيجوز للإنسان أن ينصرف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من شاء منكم أن يستمع ومن شاء أن يخرج )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم جوز للناس أن يخرجوا بعد الصلاة، فلو كانت هاتان الخطبتان كخطبتي الجمعة لما جاز للناس أن ينصرفوا، فدل ذلك على أن استماعهما ليس كاستماع خطبتي الجمعة، إلا أن جلوس الإنسان يوجب عليه الاستماع، حيث أن حركته أو كلامه والإمام يخطب لا معنى له؛ لأنه سوف يؤذي الحاضرين.
وعلى هذا فإننا نقول والله أعلم: إن من جلس لها يجب عليه الاستماع، ولكن يجوز الخروج عنها، فدل ذلك على أنها ليست كالجمعة، والله أعلم.
لكن يجب الإنصات فقط على من جلس؛ لأنه لا معنى أن يقال: إنه يجب على الإمام أن يخطب ولا يجب الإنصات، فمن جلس فيجب أن ينصت حتى يستمع الآخرون، وأما أن يجعل حكمها كحكم الجمعة، بأن من قال لأخيه: أنصت فلا جمعة له أو فلا خطبة له فليس بصحيح؛ لأن قوله: (أنصت) أهون من أن يخرج الناس ويتحدثون وهم في الطريق.
قال المؤلف رحمه الله: (إلا في التكبير مع الخاطب)، ومعنى التكبير يعني: إذا كبر الإمام فإن من معه يكبرون.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً إنه سميع قريب مجيب، ثم يأتي بالصلاة والسلام على رسول الله، فيثني على الله بما هو أهله.
(والثانية) يعني الخطبة الثانية: يكبر (بسبع تكبيرات)، البدء بالتكبير في الخطبة هو مذهب جمهور أهل العلم ومنهم الحنابلة، واستدلوا بما رواه سعيد بن منصور وغيره، من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: ( يكبر الإمام يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات )، وفي رواية: ( من السنة )، وهذا الحديث أخرجه كذلك ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي وغيرهم، وهذا الأثر تكلم الحفاظ فيه، ورأوا أن في إسناده بعض المقال.
وذهب بعض أهل العلم وهو القول الثاني في المسألة: إلى أنه يبدأ بالثناء على الله كسائر خطب الجمعة، وهذا وجه عند الإمام أحمد ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وقد قال: ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبةً بغير الحمد؛ لا خطبة عيد ولا استسقاء ولا غير ذلك، وكذلك ذكره ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وهذا القول أظهر، إلا أنه لا مانع اقتداءً بسنة الخلفاء أن يثني على الله بما هو أهله، ثم بعد ذلك يكبر، فيجمع بين الأمرين، وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبدأ الإمام فيكبر تسعاً لعله بعد الثناء، فيكون بدايته من: أما بعد، فإذا قال: أما بعد، فالله أكبر الله أكبر، فهذا بداية بعد حمد الله والثناء عليه، ولا يكون هذا معارضاً بالثناء على الله؛ بدليل أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه كما جاء ذلك في صحيح مسلم قال: ( فبدأ فوعظ الناس وذكرهم )، فليس هذا معناه: أنه بدأ بالموعظة دون ثناء على الله، فدل ذلك على أن قوله: (يبدأ)، يعني بعد الثناء على الله بما هو أهله، وفي هذا الجمع حسن. والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة)، من المعلوم أن الصدقة لا تجزئ إلا أن تكون قبل الصلاة، وكيف يحثهم على الصدقة وقد أدوها؟ يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين للناس أحكام زكاة الفطر، ثم بعد ذلك أراد أن يبين حكمها مرة ثانية، كما بين صلى الله عليه وسلم ما يلبسه المحرم في خطبة المدينة، وبين ما يلبسه المحرم وهم في عرفة في حديث ابن عباس كما في رواية الدارقطني : ( فقام بعرفة فخطب الناس )، وكما أشار صلى الله عليه وسلم في خطبة الأضحى: ( ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم )، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر بعض الأحكام لأجل أن يفقهها الناس، فلربما من كان غير حاضر في السابق أن يفقه بعد هذه الخطبة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويبين لهم ما يخرجون جنساً وقدراً والوجوب والوقت)، يعني: أنهم استحبوا لمن تحدث بخطبتي العيد أن يذكر زكاة الفطر، ما هو الذي يجزئ فيها، هل الأصناف الخمسة هي المقصودة، أم المقصود القوت والقدر وهو الصاع؟ ويذكره بالوزن التقريبي، والوجوب يعني: متى يجب إخراجها، وما هو الوقت الذي يجب على الإنسان أن يخرجها؛ لأن الوجوب له علاقة بالوقت، فيقول العلماء: من غربت عليه شمس يوم الثلاثين من رمضان وقد مات بعد ذلك وجب عليه أن يخرج صدقة، فإن مات قبل ذلك فلا يجب، والمولود إن ولد بعد غروب الشمس فلا يجب، وإن ولد قبل ذلك فيجب، وعلى هذا فقس، ويذكر الوقت المجزئ، وهو قبل العيد بيوم أو يومين، والوقت المستحب وهو عند خروج الناس إلى المصلى، وغير ذلك.
يعني: ويذكرهم بأحكامها، أو ويحثهم على فضلها، كل هذا سائغ؛ لأجل الإنسان الذي لم يخرج، فإذا سمع وعرف حكمها جاز له أن يخرج بعد ذلك؛ لأن التكليف إنما يكون بعد العلم بالخطاب.
وذهب ابن تيمية إلى أن ذلك من باب خصوص الأوصاف، وأن كل من كان جاهلاً بالحكم فذبح قبل الصلاة فإذا علم وليس عنده إلا عناقاً فإنها تجزئ عنه، فقوله: ( ولن تجزئ عن أحد بعدك )، يعني: لن تجزئ عن أحد إلا من كان كحالك بأن ذبح جاهلاً، ثم علم بعد الخطبة، والقول الأول أظهر، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها من رواية أبي سعيد والبراء وجابر وغيرهم)، يعني: الأحكام الشرعية المتعلقة بالفطر والأضحى، أما حديث أبي سعيد فإنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم، ويأمرهم )، وهذا كما قلت: يفيد أن الخطبة خطبة واحدة.
وحديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء )، والحديث متفق عليه، والحديث الثالث أيضاً حديث جابر الذي مر معنا سلفاً.
قول المؤلف رحمه الله: (والتكبيرات الزوائد سنة)، يعني: أنه إذا كبر الإمام التكبيرة الأولى وهي: تكبيرة الإحرام، فإنه يكبر ستاً، كما مر معنا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقلنا: إن هذا هو السنة، وقد روي من طرق كثيرة، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر ، إلا أن هذه التكبيرات الست والتكبيرات الخمس سنة، فمن تركها وصلى العيد كصلاة الفجر أجزأت، وهذا عند عامة أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله: (والذكر بينها)، أي بين التكبيرات سنة، يعني: أنه يقول بعد كل تكبيرة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: ( يثني على الله بما هو أهله )، كما مر معنا، فالحنابلة والشافعية يرون: أن هذا الذكر سنة، وقد قلنا: إن الراجح هو أنه جائز؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال شيئاً، وقد قال مالك وأبو حنيفة: يكبر نسقاً بلا ذكر بينهما، فهذا يدل على أن الراجح والله أعلم هو جواز الأمرين، يعني: إن ذكر أو سكت فكل ذلك جائز، فإن سكت فقد فعل فعل السلف، وإن ذكر الله بينهما فقد فعل فعل السلف، وأما السنة فلا تثبت إلا بدليل والله أعلم، خاصة أن ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم العدم، فدل ذلك على أن السنة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي، فإذا سكت أو ذكر فإن كل ذلك حسن.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يسن بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين)؛ لأن السنة في التكبيرة الأخيرة وهي السابعة أن يستفتح، ثم يقرأ الفاتحة، وكذلك في التكبيرة الأخيرة من الركعة الثانية، إذا كبر الخامسة فإنه يسمي ويقرأ الفاتحة.
المذهب يرى أن الخطبة سنة، وهو القول الأول.
القول الثاني: أنها من شرائط الصلاة، وهو قول لـابن عقيل.
القول الثالث: أن الخطبة واجبة، وأما استماعها فسنة إلا لمن جلس فيجب -كما مر- ولعل هذا القول أظهر والله أعلم، أن وجود الخطبة واجب، والإنصات لها لمن جلس واجب، وأما من خرج فجائز له الخروج.
وقد يقول قائل: إذا جاز له أن يخرج فكيف أوجبت عليه الإنصات؟ نقول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد: ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يؤذ بعضكم بعضاً في القراءة )، فإذا كان الإنسان لا يسوغ له أن يؤذي لأجل انتفاع الآخرين بالذكر، ولا شك أن الخطبة من الذكر؛ كقول تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله [الجمعة:9]، يعني بذلك الخطبة، فلا معنى أن يقال للإمام: اخطب، ويقال للناس: تحدثوا والإمام يخطب؛ إلا أن يكون الإنسان قد خرج، فمن خرج فلا حكم له، والله أعلم.
ومما يدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن السائب قال: ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس إلى الخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب )، وقوله: (إنا نخطب) دليل على وجوب الخطبة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (رواه ابن ماجه وإسناده ثقات)، الحديث أخرجه ابن ماجه والنسائي وأبو داود وغيرهم، وقد حسنه ابن خزيمة فذكره في صحيحه، وكذلك ابن الجارود في المنتقى -وهذا ينتقي الأحاديث التي صحت عنده- ورأوا أن الفضل بن موسى السيناني رواه عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبد الله بن السائب موصولاً.
وقد ذكر جمهور المتقدمين من أهل الحديث أن الصواب أن الرواة رووه عن عطاء بن السائب مرسلاً، لم يذكره عبد الله بن السائب، يعني: عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجح رواية الإرسال أبو داود والنسائي وابن معين وغيرهم، وقد أشار أيضاً ابن خزيمة حينما ذكر هذا الحديث إلى ذلك، فدل على أن ابن خزيمة يرجح الإرسال، والله أعلم.
ولكن وإن ضعف الحديث فإن من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، والصحابة كانوا يخطبون، فهذا التوارد من غير ترك يدل على أن الخطبة في حق الإمام واجبة، وأما استماعها فإن الذي يظهر كما قلت: إنه يجوز للناس أن يخرجوا؛ وهي من باب فرض الكفاية، فإذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين من حيث الاستماع، فتكون فرض كفاية من حيث الجلوس، ويجب على من جلس أن ينصتوا للإمام، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولو وجبت لوجب حضورها واستماعها)، نحن نقول: هي واجبة، واستماعها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: دعاء الاستفتاح الذي يظهر أنه بعد التكبيرة السابعة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر